قد يبدو عنوان المقال مضحكا بعض الشيء , لا بأس , نحن العراقيين بحاجة إلى بسمة ربما تفتح كوة في الظلام الدامس الذي نعيشه في عز النهار .
في الدول النامية أو في دول العالم الثالث غالبا ما تظهر صورة الحاكم الدكتاتور , في العالم الغربي الأمريكي والأوربي لا توجد فرصة لظهور حاكم دكتاتور بسبب قوة المؤسسات الدستورية لديهم و التي بدورها أنتجت تقاليد ديمقراطية راسخة , اضافة إلى قضاء عادل و نزيه يحمي المجتمع ولا يسمح لأحد أن يظلم أحدا , وفي العالم الشيوعي توجد أحيانا فرصة لظهور حاكم دكتاتور , و رومانيا و دكتاتورها شاوشيسكو لا تزال في الذاكرة . لكن ما هو السبب أو الأسباب التي تدفع الحاكم إلى التحول إلى دكتاتور ؟ هناك أكثر من سبب لهذه الحالة , لكن السبب الأقوى هو أن الوصول إلى كرسي الحكم يحصل بقفزة , اذا جاز التعبير , يتحول فيها شخص ما من مواطن عادي لا يهش و لا ينش إلى شخص يتحكم بالبلاد و العباد , وهذه ( القفزة ) تحصل أما بانقلاب عسكري , وهو الأكثر حدوثا وأمثلته كثيرة , أو بصدفة عجيبة غريبة لا يتوقعها احد ومثال ذلك نوري المالكي , و المسؤولية هنا تقع على الحاكم نفسه لانه قبل منصب هو غير جدير به و على من رشحوه أيضا كونهم لم يحسنوا الاختيار , وعندما يجلس الحاكم الجديد على كرسي الحكم و يجد أن توقيعه , الذي لم يكن يعيره اهتماما , أصبح فجأة له مفعول السحر يفعل الأعاجيب ويغير أحوال الناس من حال إلى حال آخر , سلبا أو ايجابا , عند هذه الحالة و بسبب هذه ( القفزة ) الغير محسوبة و الغير متوقعة يبدأ الحاكم الجديد بالترنح و فقدان التوازن بعد فترة قصيرة من استلامه الحكم , لان وصوله إلى كرسي الحكم لم يكن مبنيا على كفاءة و لا مستندا إلى خبرة , وكان الأفضل له , و لشعبه أيضا , أن يحترم نفسه و يعتذر عن تسلم المنصب لانه ( منصب خطير ) يتعلق بادارة شؤون و شجون بلد فيه الملايين من البشر ( من يصعد السلم درجة درجة ليس كالذي يقفز مرة واحدة , الأول تكون خطواته مدروسة و متأنية و يمكن الرجوع اليها و معالجة أخطائها , أما الثاني صاحب القفزة فلا يراجع أخطائه لانه لا يعترف بها أصلآ , هل سمع احد يوما عن دكتاتور اعترف بأخطائه و خطاياه …؟ ) في البداية لا تظهر مؤشرات الدكتاتورية عند الحاكم الجديد لأنه لا يزال طري العود و لا يعرف الأسرار الدفينة لهذا المنصب وهو بحاجة لبعض الوقت كي يستكشف خبايا و خفايا كرسي الحكم , لذلك تجد أن علاقاته و تصرفاته تكون طبيعية , ان لم تكن جيدة , حتى مع خصومه التقليدين فيظهر لهم غير ما يبطن و يتمسكن حتى يتمكن , لحين الامساك جيدا بالخيوط الرئيسية لمقاليد الأمور عسكريا و اقتصاديا , و عندما يتم له ذلك تبدأ ملامح و مؤشرات السلوك الدكتاتوري تظهر شيئا فشيئا في تصرفاته و قراراته و تصريحاته التي تتخللها أحيانا كما نقول بالعامية العراقية ( شطحات ) تكشف عقله الباطن و اصراره على عدم التخلي عن الكرسي .
و هناك نوعين من الحاكم الدكتاتور , دكتاتور ذكي و آخر غبي ( الذكاء و الغباء هنا مرتبط بكيفية تجميل صورته القبيحة و جعله مقبولا لشعبه , رغم أن الغباء هو الصفة الدائمة الملتصقة بالدكتاتور لسبب بسيط هو انه يعتبر نفسه انه لا احد أفضل منه لقيادة البلد , و مؤكد انه يعرف في قرارة نفسه ان هناك من هو أفضل منه , لكنه يرفض التسليم بذلك و هنا مكمن الغباء ) , الدكتاتور الذكي يختار مستشاريه و أعوانه بعناية بحيث يكونوا من أصحاب الخبرة و الكفاءة , ومن القادة العسكريين يختار الأكفاء المحايدين , كي يسيروا أمور البلد بشكل سليم مما ينعكس عليه ايجابا و يصب في صالحه في النهاية مما يخفف من صورته الاستبدادية قليلا , وهذا محصور في نطاق الخدمات العامة كبناء المستشفيات و المدارس …. الخ , و رغم ان الدكتاتور يغدق على من يختارهم بالامتيازات الكثيرة الا انه , في نفس الوقت , يخضعهم لرقابة صارمة كي لا يخرجوا عن الخطوط العريضة المرسومة لهم من قبله , أما الدكتاتور الغبي فيحيط نفسه بمجموعة من الانتهازيين الجهلة أصحاب الضمائر الميته , مجموعة لا هم لها سوى التسبيح بحمده ليل نهار , مجموعة من أصحاب الألسن الطويلة تجيد الكذب و تزوير الحقائق أحسن اجادة , مجموعة جاهزة دائما لجعل الأبيض أسود و الأسود أبيض ( و للحقيقة فان الدائرة المحيطة بالدكتاتور الذكي لا تخلو من أمثال هؤلاء , لكن بنسبة أقل ) كل ذلك من اجل أن لا يبتعدوا عن ظل الدكتاتور , هذا الظل الذي يجعلهم يتنعمون بكثير من الامتيازات التي لم تخطر ببالهم قط و لم يحلموا بها يوما . لذلك تراهم لا يتوقفون عن صبغ الدكتاتور كلما تخدشت صورته حتى وأن كان الدهان رديئا … كي يضمنوا بقائهم في دائرة الظل , و الدكتاتور في غاية الارتياح لوجود هذه الجوقة المتملقة حوله لأنها لا تشير إلى أخطائه و فساده و جرائمه و تلزم الصمت تجاهها رغم معرفتها التامة بكافة تفاصيلها , وان اضطرت للكلام عنها فتلجأ إلى الادعاء بأنه لم يقصد كذا بل قصد كذا و التأويل و التبرير جاهز لديها لكل مفسدة و لكل جريمة .
عندما يتحول الحاكم إلى دكتاتور يتعرض عادة الى انتقادات كثيرة سواء من داخل البلد , قد تصل إلى حد الشتائم علانية , أو حتى من خارجه تفضح نهجه التسلطي و تفرده بالحكم , لكنه لا يعير أي اهتمام لكل ما يقال عنه و لكل ما يسمعه من منتقديه و شاتميه أيضا , كل ذلك يدخل من اذن و يخرج من الأخرى بسرعة البرق , و كل ذلك , بالنسبة له , كلام في كلام و هواء في شبك , فهو غارق في العسل حتى أذنيه و امتيازات الكرسي لا تعد و لا تحصى والحفاظ على هذه الامتيازات هو شغله الشاغل وهمه اليومي الذي ما بعده شغل و لا بعده هم , رغم انه لا يترك فرصة الا و يستغلها لتصفية خصومه تنحية أو قتلا , و بعد أن يجد الدكتاتور نفسه انه قد أصبح في حالة نشوة لا يستطيع التخلي عنها ( نشوة الحكم ) , وبعد أن ذهب بعيدا في ظلمه و جرائمه و فساده بحيث لا فرصة للافلات من حساب و عقاب لاحق محتم , يتخذ القرار الحاسم بعدم التخلي عن كرسي الحكم مهما كانت النتائج و مهما كانت العواقب , و الكابوس المرعب الذي يؤرق الدكتاتور و يقض مضجعه هو أن يأتي انسان آخر يجلس على كرسي الحكم بدلا عنه , و عندما تظهر بعض المؤشرات على أن هذا الكابوس ( بالنسبة له طبعا ) سوف يتحقق , يبدأ يكشر عن أنيابه , و يستنفر كل امكانيات السلطة التي بين يديه و تحت امرته المعروفة منها و المخفية , من اجل أن لا يتحول هذا الكابوس إلى حقيقة تكون فيها نهايته .
و يبدو أن الحاكم الدكتاتور لم و لا يريد أن يطلع على التاريخ و ما فيه من دروس وعبر , و ربما هو غرور و وجاهة المنصب الذي يجعله يتصور أن ما جرى لمن سبقه من الدكتاتوريين لن يحصل له , اذ أن نهاية معظم الحكام الدكتاتوريين , ان لم يكن جميعهم , واحدة من ثلاثة :الاولى ان يقتل على يد أبناء الشعب و في الشارع , و الثانية أن يحاكم من قبل السلطة الجديدة و يتم اعدامه , و الثالثة الفرار إلى دولة تقبل ايوائه , و هذه الحالات الثلاث قد لا تحصل أي واحدة منها اذا نجح الدكتاتور في تسليم الكرسي , مرغما طبعا , إلى أحد أبنائه أو أتباعه , كي لا ينكشف المستور مما ارتكب من حماقات , وهذا يفسر ظاهرة التوريث التي يلجأ اليها الحكام الدكتاتوريين لأبنائهم , خلافا للدستور أو بتعديل الدستور ( سوريا مثالا ) , لأن ملفات قتل الخصوم و سرقة ثروات البلد طيلة فترة حكمه يجب أن تبقى مغلقة , و بذلك يستمر الستار مسدلا على التاريخ الدموي للدكتاتور السابق أطول فترة ممكنة و إلى ما شاء الله .