“أوهام السُّلطة الثقافية: رئاسة التحرير بين الوَهْمِ وقَمْعِ الاخر”
لا تنحصر إشكالية رئيس التحرير في ادِّعائه وصايةً على إبداع الكُتَّاب والنُّقاد، بل في تَجَسُّدِه كـ”أبٍ روحي” مُتسلِّطٍ يَزعم تفوُّقًا معرفيًّا وثقافيًّا وفهما استثنائيا ، بينما يَكشف الواقعُ عن فجوةٍ بين ادِّعائه وحقيقةِ عجزه عن مُجاراة إبداع مَن يَحكُم عليهم.
غير أنَّ تملُّقه للسلطات المالية والسياسية، واستناده إلى “شبكات المصالح”، هو مَن أَلبَسَهُ ثوبَ الرئاسة الزائف، فبات يَنسج خيوط نفوذه عبر صحيفةٍ تُشبه المرآة المُشوَّهة، ومنصَّةٍ تُعيد إنتاجَ الأوهام… ؛ فالسُّلطة هنا لا تُبنى على الجدارة، بل على “الغِشِّ” المُتمثِّل في شراء الذمم واختزال الثقافة في صفقات وتحالفات وارتباطات … ؛ ليُحوِّل الصحافةَ مِن فضاءٍ للتَّنوير إلى أداةٍ للتضليل، مُثبتًا أنَّ السُّلطةَ المُزيَّفة لا تُبني إلّا على أطلالِ المبادئ.
لَيسَ التملُّقُ للجهات النافذة، ولا الأموالُ المُعبَّدةُ طريقَ السُّلطة، سوى أَدواتٍ نَقَشَت لَه اسمَه على عَرشِ مَجلَّةٍ أو مَنصَّة، فَتَتَكاثر مَراكزُ نُفوذه كالفِطْرِ في أَرْضٍ مُوبوءة.
وَلَوْ تَوَقَّفَ الأمرُ عند حُدودِ احتِكارِ النَّشر لَكانَ السَّوْءُ أَهْوَن، لكنَّه يَتخطَّى ذَلكَ إلى تَنسِيقِ “مُؤامرة صَمْتٍ” مع أَشباهِه، فيُحَذِّرُهُم مِن كُتَّابٍ يَهددونَ عُروشَهُم الواهية، بل يوصي بعض الكتاب المتملقين والاقلام المأجورة بالتصدي للكتاب المختلفين وتسفيه اراء الاحرار ومقالات الباحثين الموضوعيين ؛ وبهذا يَسُدُّ رئيسُ التحريرِ وزمرته مَنافِذَ الحِوار، ويَحجُبُ الرُّؤى الجَديدةَ بِحُجَّةِ حِمايةِ “السَّلامة الفِكريَّة او الوطنية ” او بذريعة “الإصلاح والتصدي للتطرف “… ؛ اذ لا يَكتفي بِقَمْعِ الأصوات، بل يَلجأُ إلى تَلطيفِ وَجهِ القَمْعِ بِشَعاراتٍ بَرَّاقةٍ كـ”مُحاربة التَّطرُّف والغلو والبدعة ” أو “تَعزيز الوَحدة الوطنية او القومية او الدينية “، مُستعيرًا قناعَ المُصلِحِ الوطني او المرشد الموضوعي او رئيس التحرير المهني والذي يراعي الضوابط القانونية والمهنية والانسانية… ؛ فَتَحتَ غِطاءِ “المَصلحة العامَّة”، يَسرُقُ حَقَّ الاختلاف، ويُحوِّلُ الصَّحافةَ إلى خَشبةِ عَرْضٍ لِأوهامِه وتوجيهات اسياده واولياء نعمته … .
أَمَّا المُفارقةُ الأَدبيَّةُ الأَكثَرُ إِيلامًا، فَتَكمُنُ في أَنَّهُ يَقعُ في الفَخِّ ذَاتِه الذي نَصبَهُ لِغَيرِه: فَبَينما يَدَّعي الهُروبَ مِن الانحِياز والتزام الحياد والمهنية والموضوعية ، يَتَحَوَّلُ إلى أَدَاةٍ لِتَكريسِها، مُحَقِّقًا مقولة الشاعر : *”وَكمْ مِن عائِبٍ قَولًا صَحيحًا *** وَآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ”*.
فَالفَهمُ السَّقيمُ لِدَورِ الصَّحافةِ يَجعلُهُ سَجنَانًا لِلفِكرِ، بَدَلًا مِن أَن يَكونَ نافذَةً لِلتَّنوير، مُثبِتًا أَنَّ السُّلطةَ المُطلَقَةَ لَا تُنتِجُ سِوى أَساطيرَ وَاهية… ؛ اذ إنَّ رئيس التحرير يُحاربُ مَنْ يُنازعُه وَهْمَ السُّلطة، مُتوهِّمًا أنَّ امتلاكَهُ مِفتاحَ النشر يَجعلهُ وَريثًا لِسُلطة المُفكِّرين، رغم أنَّه لا يَحمِلُ سوى أَدواتِ القَهرِ المُقَنَّع… ؛ وتُلبِسُهُ رِداءَ “القِيَميِّ المُنصِف”، بينما تَكشِفُ مَمارساتُه عن نَقْضِ هذا الرِّداءِ خُطوةً خُطوة.
وَما إنْ يَستقِرَّ في مَقعَدِه حَتَّى يَشرعَ في نَسْجِ شَبَكَةٍ مِنَ التَّحالُفاتِ الوَسِخة والارتباطات المشبوهة والصفقات الفاسدة ، فَتَتَكاثرُ صُحُفُهُ كالفِطْرِ السَّامّ، وتَتَحوَّلُ المَنصَّاتُ إلى أَدواتٍ لِتَكريسِ الوَهْم والانغلاق والتحجر … ؛ فهو يَصنعُ قُيودًا مِن حُروفٍ زائفة، يُقيِّدُ بها حُرِّيَّةَ الكلمة، ويَسحبُ البِساطَ مِن تَحْتِ الرُّؤى الجَريئة.
وَفي النِّهاية، يَغرقُ رئيسُ التحريرِ في تَناقُضٍ مَأساوِيٍّ: فَكُلَّما ادَّعى الهُروبَ مِنَ الانحياز، ازدادَ تَوغُّلًا في تَزييفِ الواقع، وهكذا تَتحوَّلُ رِئاسةُ التحريرِ مِن مِهْنَةٍ تَحمي الحُرِّيَّةَ إلى سِلاحٍ يَقْتُلُها، مُثبِتةً أنَّ الوَهْمَ لَا يَبْقَى إلَّا مَتى اقْتُبِسَ مِنْ ضَوْءِ الحَقِيقَةِ نُورُهُ!