إنه مشروع وطني ينطلق من واقع العراق من أجل كرامة وسعادة أبنائه مستهدياً بمبادئ الحرية والعدالة والمساواة، والتطلع الحضاري إلى مستقبل يليق بماضي هذا البلد العريق في تأريخه ومنجزاته وابداعاته. إنه دعوة إلى التسامح والتصالح والتعاون والسلام وبناء الإنسان والوطن.
محاور المشروع الوطني لبناء العراق:
واقع العراق الحالي:
لا نريد ان نشخص اسماء أو جهات من تسببت في ما وصل اليه العراق من حال لا يحسد عليه. ولا نريد أن نمارس جلداً للذات في الانطلاق، بيد أننا جميعاً وبكل أطيافنا ومشاربنا قد ساهمنا بهذه الدرجة أو تلك لما وصلنا اليه. إننا ننطلق من طيبة العراقيين الأصلاء الكرماء في تفهمهم وتسامحهم وعفوهم عن بعض طالما أن القضية هي قضية حياة وكرامة الإنسان وبناء الوطن.
الجانب السياسي:
لقد سادت الشارع العراقي ومنذ ما يزيد عن قرن من الزمان أطياف وألوان سياسية، وكان لكل منها رؤاه وأهدافه وشعاراته ورجاله، ولم تكن إلا لتحمل مطالب إنسانية مشروعة من وجهة نظر معينة. كما كانت تلك الأحزاب قد اصطبغت بطابعها الطبقي أو القومي أو الديني أو المذهبي أو الليبرالي الوطني. وكان لكل منها منهاج عمله واستراتيجياته السياسية، وربما ممارساته في السلطة الحاكمة.
غير أن هذه التنوعات السياسية وأحزابها لم تنجح تماماً في بناء الوطن لأسباب موضوعية وشخصية، داخلية وخارجية، لا نريد الخوض في تفاصيلها متوخين عدم إثارة هذا الطرف أو ذاك ونحن في مخاض مشروعنا الوطني الجامع والمنفتح على جميع من يسعى الى بناء الوطن بتسامح ونكران ذات.
لقد تفاوتت أهداف تلك الأحزاب في محاكاتها للحاجات المختلفة للجماهير العراقية من مادية ومعنوية وروحية وعاطفية ووجدانية ونفسية، وفق مناهج عمل سياسية طبقية وقومية ودينية وطائفية، كما أشرنا إلى ذلك.
وبسبب خصوصيات تلك المناهج فلم تنجح في مخاطبة الجمهور الوطني العام من خلال مشتركاته الجمعية وعدم اقتصارها على خصوصياتها المثيرة للرفض عند غير مستهدفيها.
إن البرنامج السياسي للمشروع الوطني لبناء العراق يجب أن يتميز بخطابه الجمعي الذي لا يستثني فيه طائفة سياسية أو عرقية أو دينية أو طبقية، وأن ينجح في استثارتها للمساهمة فيه والاستفادة من نتائجه الوطنية.
إن روح العمل السياسي للمشروع الوطني وجوهره تقوم على أساس كرامة الإنسان في احترام رأيه وعدم تغييبه والعدالة في التعامل معه ومساواته مع أقرانه من المواطنين أمام القانون.
وعلى الصعيد الخارجي يجب على البرنامج السياسي للمشروع أن يجعل في ثوابته العزم على تصفير مشاكله مع جيرانه وتحويل حدوده إلى أحزمة سلام وتعاون. إن ذلك يتطلب خلق ثقة قائمة على حسابات واقعية تخدم مصالح أطرافها.
الجانب الاقتصادي:
ليس هناك من ضمان لتحقيق المشروع الوطني لبناء العراق أكثر أهمية من العامل الاقتصادي. فالشعب الذي عانى الفقر والحصار والبطالة والعوز ولم يتمتع بخيراته الهائلة تواق لحياة كريمة في عطائها الذي يشارك في التمتع به وتثميره.
لكن ذلك لن يحصل دون رؤية وبرنامج عمل اقتصادي تأخذ بنظر الاعتبار الجوانب التالية:
⁃ طبيعة وحجم الموارد الاقتصادية المتاحة.
⁃ التحفيز الاقتصادي لمحركات عوامل التثمير الاقتصادي المتمثل بحقوق التصرف بالموارد الاقتصادية وأسس توزيعها والتعامل مع مخرجاتها.
⁃ ضمان تأمين الجانب الاجتماعي الإنساني في الادارة الاقتصادية الفعالة للموارد والثروات.
⁃ تشريك الشعب في ملكيات وثروات بلده، حيث يصبح الشعب هو الشريك المخطط والمدير والمالك لثرواته.
⁃ اعتماد فلسفة جديدة وتحديد معان مختلفة لأشكال الملكيات في روحها ودورها في اطار المشروع الوطني لبناء الوطن العراق. فالملكية العامة يجب أن تتخلص من صفات البيروقراطية والبلادة والفساد والاستئثار واللامبالاة بمخرجاتها. في حين يجب أن يتعاون ويتعاشق ويتعاضد شكلا الملكية العامة والخاصة في شكل الملكية المختلطة في تنفيذ مشاريع بناء واستثمار لا تصلح لها كلا من الملكية العامة أو الملكية الخاصة لوحدها. في حين تصبح الملكية الخاصة بخصوصيات حامليها ومديريها ودوافعها ودورها ومشاريعها ومجالاتها الشكل الأكثر اعتماداً لأسباب مرونتها وتطورها.
⁃ وجوب تأمين الحاجات الأساسية للمواطنين من قبل الاقتصاد الوطني.
الجانب التعليمي:
اخرج في الحديث عن الجانب التعليمي عن السياق الاعتيادي في طرح مشاريع العمل، وأدرج مقالة لي حول الموضوع، لاعتبرها جزءاً من المشروع.
خطورة المعرفة والمقدرة في نظم تعليمنا وكفاءتها على مستقبلنا العراقي:
عندما حرق نفسه التونسي البوعزيزي وأشعل فتيلة ” الربيع العربي” وقامت ثورات وسقطت انظمة وقتل رؤساء، كتبت مقالاً، بعنوان: الاقتصاد السياسي للتعليم، من قتلك يا البوعزيزي، لم يهتم بما عنيته كثيرون، وربما لم أنجح في افهامهم مرادي.
ليس هناك في الحياة أخطر من شيئين: العلم والزمن!
واذا كنت قد تناولت الموضوعين في مقالات سابقة، فإني أحب اليوم التأكيد ثانية على “العلم”، وربما تناولت لاحقاً وثانية موضوع ” الزمن”.
ان أسئلة أساسية يجب أن يطرحها المختصون من سياسيين وتربويين ومستقبليين واقتصاديين على أنفسهم:
⁃ ماذا يجب أن يتعلم أبناؤنا، ولماذا؟
⁃ ماهي معارف وقدرات ودوافع ومحفزات من يقوم بالتعليم، وكيف يجري الوقوف على انجازاتهم؟
⁃ ما هي معايير قياس مخرجات التعليم بالقياس إلى فاعليتها التغييرية؟
⁃ ماهي الحاضنات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للتعليم الناجح؟
⁃ كيف يمكن أن يكون ” التعليم” خادعاً وعقيماً ودون جدوى، وبالتالي هادراً للمال والزمن؟
⁃ كيف ومتى يمكن اعتماد مؤشرات سوق العمل دليلاً لتخصصات تعليمنا ومفردات مناهجنا؟
⁃ خطورة التقليد الببغائي والركض الأعمى وراء تعليم لا ينفعنا كثيراً وربما أوقعنا في شراك دون وعي منا؟
⁃ ما هي القيمة السياسية والاجتماعية للمعلم والمتعلم في مجتمعاتنا، ومن يقوم بالتأثير عليها؟
مثل هذه الأسئلة علينا أن نجيب عليها، عندما نبدأ حديثنا وعملنا في وضع أسس تعليمنا.
ملاحظات حول المعرفة:
لا يجب أن تكون المعرفة هدفاً بذاتها، أو فقط ” بريستيجاً” ليقال عن فلان أنه مثقف أو حامل لشهادة ما عندما يصار إلى الوقوف على قدر من المعرفة وتأييدها بورقة تعارفنا عليها باسم “شهادة” ولقب.
هناك في محيطنا العربي والإسلامي، ومنه العراق، ملايين ممن يحمل الشهادات والألقاب، وأكثر منهم من يجلس على مقاعد “الدراسة” من أجل الحصول على مثل تلك الشهادات. واذا ما عدنا نتلمس “تقدمنا” من ناحية “التعليم” والشهادات، وما صاحبه زمنياً من تراجع، لا بل وتخلف لأدركنا كبر عقم وفاجعة ” تعليمنا” الذي هدرنا فيه المئات، وربما الآلاف، من مليارات الدولارات في الحساب الاقتصادي الصحيح، آخذين بنظر الاعتبار الزمن الضائع في معادلة ذلك الحساب.
ملأتا رؤوسنا ببيانات ومعلومات لم ننجح كثيراً بتثميرها إلى معارف جديدة وخلق قيمة مضافة وانتاج. إن كل ما تعلمناه نستطيع الوقوف عليه اليوم بكبسة مفتاح على جهاز اتصال بشبكة معلومات!.
وبعدما حصلنا على شهاداتنا وتوفقنا إلى وظائف لم تكن رواتبنا منها سوى المشاركة في قضم ثروات البلاد والعباد!
لم يكن ما تعلمناه سوى معارف منتجة، من قبل غيرنا ممن سبقونا إلى تثميرها عملاً وانتاجاً. لقد حصلوا على “براءة اختراعها” وكسبوا ثمار زراعتها!
كما أن مناهجنا الدراسية كانت، ولا زالت، قد أغفلت الجانب المهاري في تهذيب استعداداتنا العضلية والعصبية وتعشيقها مع قدراتنا الذهنية. فمهندسونا، مثلاً، ليسوا سوى وعاظ، وموظفي مكاتب وياقات بيضاء.
لقد كشف التقدم العلمي في بنوك وشبكات معلوماته ومواقعه الميسرة لأطنان من مختلف المعلومات بوار مئات الالاف من اختصاصي العلوم الانسانية والاجتماعية على وجه الخصوص في ارجاء وطننا العراقي. إنهم عبء تعليمي واقتصادي ومالي واجتماعي كبير، لم يكن لهم من ذنب فيه!.
لقد أصبحنا نعرف، أو نستطيع أن نعرف، لكننا لا زلنا بعيدين أن نعرف ما لا يعرفه الآخرون، والأسوأ في ذلك أننا لا نقدر على تثمير ما نعرفه!
ولنتذكر دائماً: أن من لا يأتي بجديد، فهو ليس بجديد على الحياة.
الجانب الأمني:
تحكم الجانب الأمني عوامل كثيرة ومتداخلة، أهمها وأساسها العدل في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع، إلى جانب عوامل التدخلات الخارجية، والتي كنا قد أشرنا إلى بعض من عناصرها في مسألة تصفير المشاكل الحدودية والدخول في مشاريع تعاون مشتركة مع دول الجيرة في اطار حديثنا عن الجانب السياسي.
كما أننا ندرك بهذا الخصوص أهمية كفاءة وأمانة الأجهزة والمؤسسات القضائية والأمنية وحياديتها وموضوعيتها في تحقيق الأمن والسلام.
الجانب الثقافي والروحي:
لقد عرف وتميز العراق وشعبه بتنوعه الثقافي والروحي منذ قديم الزمان. ولذلك وجهان: وجه ايجابي حضاري إنساني، عندما يغطيه الوعي والتعاون، ووجه سلبي متخلف وحشي عندما يكسيه ذلك التنوع بالعداوة والتناحر .
ان الكثيرين يعلمون أنه لا يوجد اليوم في العالم شعب موحد تماماً في ثقافة اطيافه وقيمه الروحية. بيد أن تلك الشعوب قد وجدت في مواطنتها المتحضرة في حقوقها والتزاماتها ما يجعل من الاختلافات، وليس الخلافات، الثقافية والروحية ما يجعلها منابع إثراء وتنوع جميل في مجتمعاتها. ان هذه الصورة الوردية لا تقوم إلا على الاحترام الكامل لكرامة الإنسان وحقوقه الأخرى وحرياته المشروعة وتكافؤ فرص حياته ومساواته مع غيرة أمام القانون.
الجانب الاجتماعي:
يتوزع المجتمع العراقي مثل كثير من المجتمعات البشرية بين ريف ومدينة وفي مناطق متعددة. كما أنه كذلك يعيش في شرائح وفئات معيشية ومهنية وثقافية مختلفة. ان مشروعنا الوطني لبناء العراق يقوم على التعامل مع تلك الأطياف الاجتماعية انطلاقاً من مبادىء حقوقها الوطنية المقدسة ووفق خصوصياتها في حياتها التي ترتضيها وتسعدها وفي اطارها الوطني ووفق عدالة سياسية واقتصادية.
الجيل العراقي الذي يقوم عليها مشروعنا الوطني:
ان مقالتي التالية يمكن أن تنجح في عكس واقعنا وتمنياتنا في الجيل العراقي الذي نتوسم فيه تنفيذ المشروع الوطني لبناء العراق:
الطابور السادس والجيل العراقي السابع
رؤية تأملية
هناك قول ألماني يستخدم عندما يريد شخص ما ويدعو أحداً أو آخرين الى عدم القنوط والاستسلام، فيقول:
Kopf hoch!
نعم لنرفع رؤوسنا عالياً ولا يجب أن نقر بالهزيمة الأبدية. ولا ينبغي أن تنتهي وتكتفي هذه الصرخة عند عاطفيتها أو حتى عنترياتها، لأنها عند ذلك ستبقى جوفاء لا معنى لها! إنها ايذان ببدء عمل العقل النظيف والقلب السليم والإرادة العازمة.
لسنا أول ولا آخر الشعوب التي خسرت معاركاً في الحياة، ولسنا من أولئك الذين لا حضارة ولا مساهمة لهم في تاريخ البشرية والإنسان.
لكننا يجب أن ندرك في ذات الوقت أننا تخلفنا عن ركب التطور وهوينا إلى مستنقعات الضعف، تتناهشنا نفوس بعضنا المريضة والكسولة والجاهلة، من جهة، وأنياب الذئاب المتربصة والمنقضة بتكالب علينا، من جهة أخرى.
كنت قبل أيام قد كتبت مقالاً تحت عنوان: الطابور السادس، استخدمت ذلك المصطلح للتعبير عن حال أولئك المهزومين فينا أخلاقياً وثقافياً من خائري العزيمة، وختمته بالتساؤل عن مدى تفشي ذلك الطابور في مجتمعنا العراقي، وما وقفت عليه من عظم المصيبة التي راحت تأكل فينا كما يعمل النار في الهشيم.
ولكي لا نبقى في دائرة النقد السلبي والنفس التشاؤمي والموقف العاجز أعود لأتحدث اليوم عن ما يمكن أن نعالج به واقعنا كطابور سادس.
وفي هذا أجد في مراحل العمل التالية ما تستوجب مناقشته:
المرحلة الأولى:
وهي مرحلة احياء كرامة الإنسان العراقي وثقته بنفسه واستنهاضها ونفخ روح الغيرة والعزم فيها. وهنا يلعب المفكرون والمؤرخون والتربويون وعلماء النفس والسياسيون والإعلاميون ورجال الدين المتنورين دورهم الأساسي في ذلك، وفق منهج يضع الكرامة الإنسانية تاجاً على رأسه، والهمة والثقة بالنفس والعزيمة والصبر ومجاهدة النفس وبوعي في جعبة مهمته الصعبة.
المرحلة الثانية:
انها مرحلة بناء عقل الإنسان العراقي وتطوير قدراته الإنجازية المتميزة في خلق معرفة جديدة وابداع متميز. ان تعلم ما يعرفه الآخرون واللهاث بتثاقل خلف خطواتهم لن يعيننا على اللحاق بهم ناهيك عن تجاوزهم. هذه الأمنية ليست خيالاً ولا طوباوية، ففي التاريخ الإنساني العراقي أمثلة كثيرة.
المرحلة الثالثة:
أرجأت الحديث، وربما أخطأت الترتيب في عرض ما إرتأيته من مراحل في بلوغ ما أسميه الجيل العراقي السابع، القادر على النهوض بكبوة شعبه وأمته، واللحاق بالشعوب الأخرى ولعب دور طليعي في تقدم الإنسانية. إن هذه المرحلة هي مرحلة تشكيل المنظومة الأخلاقية الإنسانية المتحضرة التي ستزرع في النفوس الكرامة وتحتضن الارادة والعزيمة لمن شمر عن عقله وساعديه من أجل علم متميز وعمل جاد.
انها لعمري عملية صعبة، لكنها لن تكون مستحيلة، بعون الله، على جيل شاب واع يحترم نفسه، ويسعى من أجل غده.
برلين، ١١/١/٢٠٢١