24 ديسمبر، 2024 1:56 ص

رؤية مختلفة للعمل الإرهابي

رؤية مختلفة للعمل الإرهابي

الحرب لا تخلو من حماقات، وكما قيل في الحرب لا توجد ممنوعات، كل شيء مسموح، عندما يدخل طرف ما في حرب، فإنه سيبرر لنفسه التنصل من القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والشرعية الدولية، والتحرر من صكوك حقوق الإنسان، وإنتهاك الحريات الأساسية، والتنكيل بالمسيرة الديمقراطية، بل والتنصل من الدستور الذي كتبه. أن فرنسا التي بشرت العالم بمباديء ثورتها الكبيرة، ورسمت الخطوط العريضة للحريات الإنسانية وتعزيز حقوق الإنسان، وأعتبرته نهج ثابت في سياستها الداخلية والخارجية، هي نفس فرنسا التي قتلت مليون جزائري بعد الثورة الفرنسية، وهي نفس فرنسا التي تقصف المدنيين اليوم في مالي وسوريا والعراق وافغانستان. لقد تجاهلت فرنسا جرائمها في هذه الدول، في الوقت الذي لا يزال بعض مثقفيها يستشهدون بمقاطع من كتاب جان بول سارتر (عارنا في الجزائر)، ولكن فرنسا اليوم أبت إلا أن تجدد عارها في الدول التي تحاربها اليوم بدون مسوغ قانوني.

فرنسا ذات الثورة الثقافية والنهج التحرري، لم تتخذ مطلقا موقفا معارضا للولايات المتحدة على الرغم من نهجها العدواني وخرقها لميثاق الأمم المتحدة، علاوة على موقفها التضامني مع الولايات المتحدة في غزو العراق مرتين رغم معارضة الأمم المتحدة، فقد اعلن الأمين العام للامم المتحدة كوفي عنان بأنه دون الحصول على قرار من مجلس الأمن سيكون العمل العسكري ضد العراق غير شرعي”. وقال روبرت جاكسون عضو المحكمة العليا للولايات المتحدة” ان حرب الرئيس بوش تنتهك القانون الدولي وتمثل جريمة حرب”، مع هذا فقد شاركت الولايات المتحدة في الحرب ضد العراق رغم العلاقات الوطيدة التي كانت تربطها بالرئيس السابق صدام حسين. وهذا أبرز دليل على إنصياعها مع بقية الدول الأوربية كالتابع الذليل وراء السيد الأمريكي، مضحية بكل علاقاتها مع بقية دول العالم من أجل عيون العم سام، يبدو إن إرضاء السيد الأمريكي هو الهدف الرئيس للسياسة الخارجية الفرنسية.

وصف نعوم تشومسكي السياسة الامريكية بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 بقوله” العدو الأضعف لا بد أن يسحق سحقا، لا ان يهزم فقط! اذا اردنا تلقين العالم درسا في النظام العالم الجديد، فنحن السادة وأنتم ماسحو احذيتنا”. ( صحيفة ذي غارديان – لندن 25 مارس 1991). والحقيقة ان الدول الأوربية صارت أيضا ماسحة أحذيتكم.

فرنسا تدرك جيدا بأن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي رفضت قرار مجلس الأمن الذي دعا الى احترام القانون الدولي، واستخدمت الفيتو لنقضه. وتدرك أن الولايات المتحدة رفضت التوقيع على اتفاقية اوتاوا التي تحظر استعمال وتخزين وانتاج ونقل الالغام ضد الافراد. والولايات المتحدة إعترفت بأن الأسباب التي تحججت بها لغزو العراق كأسلحة التدمير الشامل، وعلاقة العراق بتنظيم القاعدة كانت كاذبة، وإعترف رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير بالخطأ نفسه وأن برره بطريقة سخيفة كخطأ في المعلومات الإستخبارية، مع هذا لم يصدر أي أسف من فرنسا عن مشاركتها الولايات المتحدة في حربها الكاذبة على العراق بعد أن كُشفت الفضيحة!

لماذا لأن العنجهية الفرنسية لا تحترم غير السيد الأمريكي اما بقية الدول والشعوب فإنها لا تعني لها شيئا! الدولة التي تتعامل بعنجيهية وغطرسة مع الشعوب الأضعف منها، وتصبح كالعبد أمام الأقوى لا بد ان تصطدم يوما بصخرة كؤود تفيقها وتزيل الضباب عن عينها الرمدة، وهذا ما حصل.

سنناقش الهجوم الإرهابي الأخير الذي تعرضت له فرنسا من وجهة نظر محايدة، وهذا لا يعني إننا سندافع عن تنظيم الدولة الإسلامية ـ معاذ الله ـ ولا أي تنظيم إرهابي آخر، ولا في نفس الوقت يعني إننا لا نتضامن مع ضحايا الإرهاب في أي مكان، فنحن أصحاب الجرح الأعمق، والمتضرر الأكبر من الإرهاب وليس فرنسا وبقية الدول، ما دفعته فرنسا من دماء على أرضها، الذي صفته بأنه أكبر مشهد دموي عاشته بعد الحرب العالمية الثانية، نعيشه في العراق وسوريا وفلسطين يوميا. لو كنا نقدم كل سنة (129) ضحية من ضحايا الإرهاب في بلداننا شهريا أو سنويا لكنا أفضل بكثير من فرنسا.

1. جعلت فرنسا من نفسها رقيبا على دول العالم الثالث في رسم سياساتها الداخلية دون ان تخولها شعوب المنطقة تلك الصلاحية، ولا نظن إن فرنسا تقبل من أية دولة أن تتدخل في شؤونها الداخلية تحت أي مبرر. ان من مباديء الثورة الفرنسية والدستور الفرنسي يؤكد على إحترام سيادة الدول الأخرى وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ولكن السيد الأمريكي قادر على أن يجعلها تنتهك دستورها بكل نعومة ورضا. تساءل الفيلسوف الفرنسي (ميشال اونفري) بدهشة” لماذا نفرض القانون على القذافي وفي جمهورية مالي، الناس لهم الحق في تسيير سياسة بلدانهم)؟.

2. تنتهج فرنسا سياسة التمايز في التعامل مع الدول، فهي لا تحشر أنفها الفرنسي الطويل والمميز في شؤون الدول القوية كالصين والكيان الصهيوني وروسيا وإيران ودول البلقان على الرغم من الخروقات الهائلة في مجال حقوق الإنسان، لكنها تحشر أنفها في شؤون الدول الضعيفة كالعراق وليبيا وسوريا ومالي.

3. تعلم فرنسا علم اليقين ان الحرب التي تقودها الولايات المتحدة موجهة ضد الإسلام بالدرجة الأولى، وهناك نسبة كبيرة من المسلمين في فرنسا، يقدر عدد المسلمين حوالي (5) مليون مسلم، ويشكلون حوالي نسبة 6% من السكان، وهم في زيادة مستمرة وأكثرهم من دول المغرب العربي، ضحايا الإستعمار الفرنسي القديم، وهذا يعني أن فرنسا دخلت في حرب ضد المسلمين الفرنسيين، أي ضد شعبها دون مبرر، وإنما إنقيادا لسيدها الأمريكي.

4. يبدو أن هواجس الإستعمار القديم لا تزال ماثلة في مخيلة القيادة الفرنسية، وهذا ما يمكن أن نستشفه عبر سياستها الإستعمارية الجديدة، وقد عبر الفيلسوف الفرنسي(ميشال اونفري) عن هذه الحقيقة بقوله “علينا أن نتخلى عن فرض سياستنا الإستعمارية على بلدان أخرى بحجة أن حقوق الإنسان هي التي تحركنا! ليست حقوق الإنسان هي التي تحرك الرئيس هولاند”. هذا إعتراف واضح يفسر أسباب تحرك الرئيس الفرنسي في المنطقة.

5. أعلنت فرنسا الحرب على تنظيم القاعدة، ومن بعده ربيبه تنظيم الدولة الإسلامية من طرف واحد، وشاركت الولايات المتحدة في قصف مواقع التنظيم في سوريا والعراق وكبدته خسائرا كبيرا في الأرواح والمعدات، مع أن التنظيم لم يهددها قبل أن تعلن الحرب عليه وتشارك مشاركة فعالة في قتاله. ان إعلان الحرب من قبل فرنسا يسمح للطرف الأخر أن يحاربها بالوسائل المتاحة له، ولأن التنظيم يفتقر الى القوة البحرية والجوية، وإستحالة شن حرب برية على فرنسا، فأنه اتبع وسيلة التفجير، وهذا الأمر يفترض أن تحسب له فرنسا ألف حساب، بل إنه لا يفوت حتى المغفل والجاهل. لا نعرف ما الذي كانت تتوقعه من ردة فعل التنظيم تجاهها حربها عليه؟ إن الذي يدخل حرب بإرادته عليه أن يتوقع الأسوأ بل والمحال أيضا، ويبدو أن هذا ما جهلته أو غفلت عنه الحكومة الفرنسية.

6. من المعروف أن فرنسا تدعي إنها تحارب الإرهاب، مع إن الإرهاب لم يطالها قبل العمل الإرهابي الأخير، وهي تحارب الإرهاب على أرض الغير، وغالبا ما يشكل الأبرياء من المدنيين النسبة العظمى من ضحايا حربها غير المبررة. يتساءل(ميشال اونفري): لماذا لدى فرنسا اليوم مشاكل مع الإرهاب؟ السبب هو إننا نخوض حروبا في بلدانهم، ونجعل حياتهم مستحيلة، نقوم

بمجازر هناك ونقتل العشرات والمئات، ونريدهم مع هذا ان يكونوا طيبين معنا، ان لم يكونوا هكذا فلهم كل الحق في ذلك”.

7. في عام 2014 أخبرني أحد الفرنسيين بأنه وزير السياحة الفرنسي علق على خبر ان عدد السواح زاد ذلك العام عن (80) مليونا بقوله إنها نسبة قليلة، علينا زيادتها. وفعلا كان التوقعات أن يصل عدد السواح للأعوام (2006 ـ 2010 ) حوالي (85) مليون سائح. بلا شك أن فرنسا دولة سياحية من الدرجة الأولى، وهي تتفوق على الولايات المتحدة (67 مليون سائح) سنويا، والصين (58) مليون سائح. وفي فرنسا (37) موقعا سياحيا عالميا مدرج في قائمة اليونسكو للتراث العالمي. وتشكل السياحة موردا مهما في الدخل القومي الفرنسي، لذا كان من الغباء جدا أن لا تحسب فرنسا بأن حربها ضد التنظيم سيكلفها ثمنا باهضا، وتتعرض لضربة موجعة تجعلها تعض أصابعها وتورمها، فلا أحد يظن ان تنظيم الدولة سيتوقف عن توجيه ضربات إرهابية جديدة لفرنسا بل ان رئيس الوزراء الفرنسي (متنويل فالس) نفسه حذر الفرنسيين من إعتداءات بأسلحة كيمياوية وبيولوجية محتملة. بحربها هذه ستفقد فرنسا أهم ميزة من ميزاتها وهي الدولة الأولى في السياحة، حرب لا ناقة لها فيها ولاجمل. لو وزنا حساب الربح والخسارة ماديا ومعنويا فأن الكفة ليست في صالح فرنسا.

8. كان الرئيس الأمريكي السابق واللاحق قد وضعا قشر الموز تحت أقدام الرئيس الفرنسي فزحلقاه في حرب هي من مسؤولية الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، وليست أوربا وبقية الدول المتورطة ممن لم يمسها الإرهاب. تنظيم القاعدة وربيبه تنظيم الدولة الإسلامية من صنيعة الولايات المتحدة، وعملية تمددها سببها الولايات المتحدة، وهذه حقيقة لا يجهلها أحد. لكن الرئيس الأمريكي وزع جبهات الإرهاب على أعوانه الأوربيين والعرب الموالين، وجلس رجل على رجل يتفرج على مسرح الأحداث. الإرهاب بعد التاسع من ايلول قد غادر الولايات المتحدة، وأمنت ساحتها منه، بعد أن وزعت المسؤلية على حلفائها، إنه بلا شك هو ذكاء امريكي مصدره غباء أوربي وعربي.

9. يبدو ان الرئيس الفرنسي يؤمن يالمثل العربي ” داوني بالتي كانت هي الداء”، فهو بدلا من يتدراك الزلة الثانية، ويستعيد صوابه، ويعيد لفرنسها مكانتها الثقافية والسياحة، مهد لزلات قادمة على الصعيد الداخلي من خلال فرض حالة الطواريء لمدة ثلاثة أشهر، والسماح بإستخدام السلاح خلال المداهمات، وأيقاف التعامل بإتفاقية شنغن واغلاق العديد من المساجد الاسلامية، وتقييد بعض الحريات، ومراقبة المسلمين، وعلى الصعيد الخارجي تشديد الغارات على تنظيم الدولة الإسلامية.

السؤال: هل هذه السياسة ستنجح؟

التجارب تقول كلا! الرئيس الامريكي نفسه يعترف بأن الحرب على داعش تحتاج الى سنين طويلة. كما أن داعش تتمدد بسبب السياسات العنجهية التي تقوم بها الولايات المتحدة والدول الأوربية ضد المسلمين والإستفزازات المتوالية لهم، مما يسهل على التنظيم إستقطاب المزيد من المتطرفين الى صفه. كما ان الحكومات التي تدعمها الولايات المتحدة والدول الأوربية علنا أو خفية كإيران والعراق وسوريا هي حكومات إرهابية أصلا. والإرهاب لا يحارب نفسه.

أوقفوا الظلم ينتهي الإرهاب! هكذا بكل بساطة. التنظيمات الإرهابية تتخذ من الظلم شماعة تتذرع به، وتجذب المتطرفين والجهلة لصفها.