22 ديسمبر، 2024 7:38 م

رؤية في مشروع قانون النقابات والإتحادات

رؤية في مشروع قانون النقابات والإتحادات

لمحة تاريخية

خلافا لما ذهب اليه مشروع قانون النقابات والاتحادات المهنية المطروح على مجلس النواب لاقراره الذي يهدف كما جاء في اسبابه الموجبة لاصداره الى : (تنظيم الاطار القانوني لتاسيس النقابات والاتحادات المهنية) وكان النقابات والاتحادات القائمة حاليا في العراق غير منظمة بقوانين نافذة والتي هي في حقيقتها نتيجة فعلية لنضال تاريخي طويل وممتد ومخاض عسير رافقت النشوء الاول للمهن المتعددة وظهور المهنيين كفئات او شرائح اجتماعية لهم ثقلهم وتاثيرهم في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وذلك بعد وقبل خلاص العراق من السيطرة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الاولى وقيام الحكم الوطني فيه وقد تاثرت القوانين المهنية عند وضعها او اجراء التعديلات عليها والى حدود بعيدة بالقوانين والقواعد والمعايير الارشادية الدولية الصادرة بشان النقابات والتجمعات المهنية وذلك على امتداد المراحل الماضية وبعد ان استفادت كثيرا من معطيات التجربة الوطنية لعموم الحركة النقابية في العراق والخصوصية التي تتمتع بها وذلك بالتاكيد على وحدة النقابة واستقلال النقابات بما يمكنها من التعبير عن ارادة المهنيين العراقيين بكل حــــرية واستقلال .

ان هذه الحقائق الثابتة لا يمكن اغفالها او اختزالها لان في ذلك تجاوزا وطنيا وتاريخيا وموضوعيا ما يتطلب البحث والدراسة والوقوف طويلا امام مفاهيم مشروع قانون النقابات والاتحادات المهنية الذي يستند عليها وتسليط الضوء على مرتكزات واسس مواده القانونية وما يرمي اليه من اهداف غير معلنة وبيان حجم المخاطر التي قد تترتب عليه في حالة اقراره وتشريعه والعمل بموجبه لاسيما وان المشروع يستهدف اولا واخرا الانقضاض على مبدا استقلالية النقابات التي لا تقبل التدخل بشانها تبعا لطبيعتها القانونية .

انعدام مبررات مشروع القانون

ان مسالة صياغة قوانين جديدة او الغاء او تعديل قوانين نافذة من قبل مجلس النواب كسلطة تشريعية مرهونة والى حد بعيد بمدى الحاجة الفعلية للواقع العراقي وخصوصيته في كافة مجالاته ، وان التعامل مع احكام الفقرة (ثالثا) من المادة (22) من الدستور والتي تقضي (تكفل الدولة حق تاسيس النقابات والاتحادات المهنية او الانضمام اليها وينظم ذلك بقانون) .

ينبغي ان يكون بكيفية تراعي الى حد بعيد وجود نقابات واتحادات مهنية محكومة بقوانين ولا تتعارض هذه القوانين مع الدستور النافذ وبالامكان سن قوانين جديدة او تعديل القوانين النافذة تلك المتعلقة بالنقابات ، على ضوء التطورات الحاصلة على صعيد كل مهنة ، وان هناك الكثير من مشاريع القوانين الخاصة بالنقابات مطروحة على مجلس النواب بالامكان الاستجابة لها بصورة عاجلة تبعا لاهميتها بما يعزز دورها والتقرب من تحقيق اهدافها على صعيد المهنة والمهنيين لاسيما وان هذه المشاريع قد اخذت بنظام الفروع للنقابة الواحدة في بغداد والاقاليم والمحافظات مما تصلح ان تكون بديلاً لمبدأ تعددية النقابات ضمن المهنة الواحدة .

ان تعدد النقابات التجزيئي ضمن المهنة الواحدة يكتنفه الكثير من المحاذير والمخاطر وان بالامكان تحقيق مبدا التعددية خارج نطاق النقابة الواحدة بالتاسيس لمنظمات المجتمع المدني من قبل المهنيين على وفق احكام قانون المنظمات غير الحكومية رقم 12 لسنة 2010 والتي تستهدف احكامه كما جاء بالفقرة ثانيا من المادة2 (تعزيز حرية المواطنين في تاسيس المنظمات غير الحكومية والانظمام اليها) ومن المعلوم ان منظمات المجتمع المدني متعددة الاختصاصات والوظائف ويدخل في عداد اهتماماتها ما تهتم به النقابات المهنية على وجه التحديد والدقة .

اتحاد واحد

لقد تطرق مشروع قانون النقابات والاتحادات المهنية في المادة 13) ) منه على تاسيس اتحاد حسب المهنة او الحرفة واجاز تاسيس عدة اتحادات ضمن المهنة او الحرفة الواحدة مما افقد الاتحاد من مقاصد العمل المشترك الموحد في اطار تنظيمي جامع وهذا ما يتطلب الاستعاضة عن الاحكام التي محاورها الاساسية التجزئة والانقسام والتعدد باحكام قانونية واضحة الدلالة والمعالم تفضي بالتطبيق العملي الى قيام اتحاد عام يربط جميع النقابات والاتحادات بصيغة قانونية موحدة تؤمن المشاركة في ادارة العمل المشترك الموحد يؤمن التكافل والتضامن والتخطيط المؤسسي والتكاملي في كل ما يتعلق باختصاصات ووظائف النقابات والاتحادات المهنية في كل الامور والقضايا العامة الوطنية والمهنية المشتركة وكذلك الحال فيما يتعلق بالاتحاد الخاص بالحرفيين وعلى مستوى العراق بكل اقاليمه ومحافظاته .

الخصوصية والمعايير الدولية والتعددية

لقد تاثر مشروع قانون النقابات والاتحادات بالمعايير الدولية بحرية تكوين النقابات والاحزاب كما وردت في المادة الثالثة والعشرين من الاعلان العالمي لحقوق الانسان التي تنص على (لكل شخص الحق في ان ينشئ وينظم الى نقابات حماية لمصلحته) وكذلك ما نصت عليه المادة الثانية والعشرين في الاتفاقية الدولية بشان الحقوق المدنية والسياسية (لكل فرد الحق في المشاركة مع الاخرين بما في ذلك حق تشكيل النقابات او الانضمام اليها لحماية مصالحه) وان هذه المعايير الدولية قد تسربت الى نص الفقرة (ثالثا) من المادة ((22 المشار اليها والتي تنص على : ((تكفل الدولة حق تاسيس النقابات والاتحادات او الانضمام اليها وينظم ذلك بقانون)) وفي الحقيقة هناك العديد من النقابات والاتحادات مؤسسة طبقا للقوانين التي تحكمها كما هو موضح سلفاً مما تنتفي الحاجة الى اصدار قانون جديد وهذه القوانين لا تتعارض مع المعايير الدولية بل انها تتمثل للكثير من احكامها وتؤخذ بالحسبان الخصوصية المحلية للعمل النقابي ومؤسساته على سبيل المزاوجة مما ادى الى تاسيس وقيام العديد من النقابات والاتحادات ضمن المهنة الواحدة بدون ان ينصرف حق الجماعة المهنية الواحدة الى تاسيس عدة نقابات او اتحادات حسب احكام المادة (5) من مشروع قانون النقابات والاتحادات التي تنص على ((يختار مؤسسو النقابة من اصحاب المهن او الحرف الذين لا يقل عددهم عن ( (25 شخصا فيما بينهم لجنة تسمى (لجنة التاسيس) تتكون من ((5-3 ثلاثة الى خمسة اشخاص تتولى تهيئة مستلزمات تاسيس النقابة او الاتحاد وعلى وجه الدقة ان المشروع المذكور قد اعطى لخمسة وعشرين محاميا على سبيل المثال حق تشكيل نقابة خاصة بهم واذا ما افترضنا ان خمسون الف محامي من اعداد المحامين قد انخرط باجراءات التاسيس فسيكون لدينا ((200 نقابة ويزداد عدد النقابات تبعا لعدد طالبي التاسيس من المحامين وقد يصل عدد النقابات لاكثر من ( (400 نقابة موزعة في بغداد والمحافظات والاقليم . ان حالة من التشتت والانقسام ستحل بالمحامين من خلال التوزع على عدة نقابات وبالتالي فهو اضعاف لهم ولدورهم وهم مـــــوحدون مهنيا من خلال الانتــماء الى نقابة واحدة .

ومن الاشكاليات المثارة بهذا الصدد والتي سكت عنها مشروع قانون النقابات والاتحادات الى اية نقابة او اتحاد من هذه التعددية الواسعة للنقابات والاتحادات في اطار المهنة الواحدة ستعقد الصلاحيات والاختصاصات المتعلقة بقبول الانتماء او رفضه واتخاذ الصعوبات المهنية وحق التمثيل امام الدولة والقضاء وجباية الرسوم واصدار التراخيص بممارسة المهنة والاحالة على التقاعد ومدى ملزومية القرارات في الجانب التنظيمي التي تتخذ من نقابة ازاء النقابات اخرى وهل سيتم تفويض هذه الصلاحيات والاختصاصات لجميع النقابات وما هي مبررات حصرها بنقابة واحدة دون اخرى لاسيما وان المادة ((30 من المشروع قد الزمت النقابات والاتحادات بكييف اوضاعها وقوانينها تبعا لاحكامه.

استقلالية العمل

ان محاكمة جادة لمشروع قانون النقابات والاتحادات المهنية من زاوية مدى التزامه بالمعايير الدولية المتعلقة باستقلالية النقابات وعدم التدخل بشؤونها تؤشر ان المشروع في الكثير من مواده القانونية قد اسس للتدخل الحكومي اثناء تاسيس النقابات والاتحادات وعند مباشرتها لمهامها واختصاصاتها المتعددة بما يخالف حرية التجمع والتنظيم الذي يمارس من قبل المهنيين في اطار نقاباتهم او اتحادهم . ان مشروع قانون النقابات والاتحادات قد فرض بالفقرة (اولا) من المادة ( (2 وجوب التنسيق مع الجهة القطاعية المعنية بنشاط النقابة او الاتحاد وان الفقرة (اولا) من المادة ( (6تقديم طلب الى الوزير المختص او رئيس الجهة غير المرتبطة بوزارة ، وان الفقرة (ثالثا) من المادة 10 اوجبت على النقابة ارسال نسخة من المنهاج السنوي الى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ، وان المادة ((21 الزمت رئيس الاتحاد او النقابة اصدار نظاماً داخلياً بالتنسيق مع الجهة القطاعية الاقتصادية المهنية والاجتماعية المختصة ، كما ان المادة ( (23 قد خولت وزير العمل والشؤون الاجتماعية باصدار تعليمات لتسهيل تنفيذ مشروع القانون في حالة اقراره والمصادقة عليه وهذه التدخلات المتعددة تكاد ان تكون محرمة ومحظورة ولا تعبر عن احترام فعلي للمعايير الدولية في القوانين التي ترعى حرية التجمع والتنظيم والتي تؤكد حرية تاسيس النقابات والاتحادات دون ترخيص او اذن مسبق وان حقها بمباشرة مهامها ينهض بمجرد ايداع مستندات التاسيس لدى هيئات مستقلة عن الحكومة والمؤسسات والدوائر التابعة لها . وان حق النقابات يبقى قائما في وضع انظمتها ولوائحها التنظيمية بعيدا عن اي وجه من وجوه التدخل الحكومي سواء بالمشاركة او التوصية او الاشراف والرقابة او المصادقة لتكون دليل عمل في ضبط حركتها بكل حرية واستقلال دون تدخل السلطات الحكومية في الشؤون الداخلية الصرفة للنقابات على ان تعمل في اطار القوانين النافذة وتحت مسؤوليته المباشرة .

التدخل الحكومي

كما ان مشروع قانون النقابات والاتحادات المهنية قد تغافل عن قصد الاختلاف الحاصل بين المهن المتعددة التي تفرض بالضرورة تعدد القوانين واللوائح الناظمة لها حسب ابعاد كل نقابة او اتحاد ووظيفتهما وهذا التغافل يؤكد على اصرار مشروع القانون المسبق بايجاد هوامش التدخل الحكومي وبغطاء قانوني عبر بعض نصوصه القانونية وفي جميع الشؤون المهنية الصرفة للنقابات والاتحادات دون تفريق على الاقل فيما اذا كانت بعض التنظيمات النقابية يدخل في تشكيل كيانها اطراف حكومية بحكم طبيعة اختصاصاتها وبين بعض النقابات وبضمنها نقابة المحامين التي لا تقبل بالمطلق الوصاية والتبعية او الارتباط او التدخل الحكومي بشؤونها والا فقدت استقلاليتها التي تعبر عن الضامن الوحيد لاداء دورها المهني والحقوقي والانساني ، فاستقلال نقابة المحامين واستقلال المحاماة يشكلان العنوان الابرز والمعيار الحاسم لديمقراطية الدولة ونظامها في عالم اليوم .

ولابد من الاشارة الى ان الانقضاض على مبدأ استقلالية النقابات التي تقتضيها طبيعتها القانونية التي لا تقبل التدخل ومنها نقابة المحامين فعندما يتم ربطها بالحكومة او احد وزاراتها او الجهات القطاعية حسب مشروع القانون سيخلق بالتاكيد ردود افعال تحول دون التعامل معها او الاستمرار بالاعتراف بها من قبل منظمات محاماتية اقليمية ودولية ومنها اتحاد المحامين العرب ، الذي سيعلق عضوية النقابة في الاتحاد ، لفقدان شرط الاستقلالية حسب ما منصوص عليه في النظام الاساسي للاتحاد ووتساوقا مع قرارات سابقة اتخذتها الامانة العامة للاتحاد تجاه النقابات في كل من مصر والسودان وسورية وغيرها عندما تدخلت حكوماتها في الشان النقابي الصرف وافقدت استقلالية النقابات المذكورة .

مخاطر محدقة

ان نظرة نقدية فاحصة لتفاصيل مشروع قانون النقابات والاتحادات المهنية تراه مكبلا بفكرة التدخل الحكومي بالشان النقابي ، وبالتالي فهو يشكل عودة مجددة لصيغة التعامل مع النقابات والاتحادات حسب الفروض الواردة في قرار مجلس الحكم الانتقالي رقم (3 ) لسنة 2004 رغم ان مشروع القانون قد نص في المادة (22 ) على الغائه الا انه زاد عليه تقسيم النقابة او الاتحاد الواحد الى عدة نقابات او اتحادات ، ومشروع القانون من باب اخر تاثر بصيغة التعامل التي كانت قائمة قبل الاحتلال الامريكي للعراق سنة 2003 ما بين المكتب المهني لحزب البعث المنحل والمنظمات والنقابات والاتحادات المهنية والشعبية والتي لم تتخذ يوما الصيغة القانونية لتنظيم هذه العلاقات مع الحكومة .وفي الحقيقة ان عرض مشروع القانون على لجنتي القانون ومنظمات المجتمع المدني في مجلس النواب يتزامن ويتراصف مع اشاعة التقسيم وتجزئة العراق ، وفي اجواء امنية واقتصادية واجتماعية متردية ومتفاقمة لا تشكل ضمانا في فهم التعددية النقابية وان من شان ذلك قد يؤدي الى تحويل النقابات والاتحادات بعد الشطر والتجزئة وفقدان السيطرة الى استخدامات غير مشروعة وقابلة للتحول الى بؤر صغيرة تعمل خلافا للعنوان الذي تحمله مما يكون بالامكان استغلالها سياسيا وحزبيا وطائفيا ومذهبيا لاسيما وان غموض مشروع القانون يساعد كثيرا على ذلك .

نداء وموقف

ان المطلوب حالا من جميع المهنيين العراقيين وفي الطليعة المحاميات والمحامين ان يواجهوا التحدي الخطير المتمثل بمشروع قانون الاتحادات والنقابات المهنية بالرفض القاطع والمطلق قولا واحدا واضحا وصريحا من اجل اجهاضه واسقاطه نهائيا قبل ولادته وهو لايزال جنينا غريبا وذلك بكل الطرق المتاحة قانونا وعدم القبول بمبررات التسويغ او التعديل الذي يبديها البعض والتي لا تتسم بالمسؤولية والمبدئية وتنطوي على معنى المهادنة والخنوع لان مشروع القانون يستهدف مصادرة استقلالية نقاباتكم واتحاداتكم لحساب الحكومة واحزابها من خلال ربطها بالوزارات والجهات القطاعية والاجهزة الحكومية وهي بحكم طبيعتها ينبغي ان تكون في دائرة الرفض لهذا التدخل ولا تقبل به لكونها منظمات مهنية حرة مستقلة تحت رقابة السلطة القضائية لا علاقة لها بالحكومة والطوائف والقوميات والمذاهب ولا سلطان عليها الا ارادة المهنيين الاعضاء المنتمين اليها طبقا لقوانينها النافذة وهي التعبير الدائم عن وحدة المهنيين العراقيين ووحدة تنظيماتهم الوطنية احدى الركائز الاساسية في وحدة شعب العراق الوطنية والمجتمعية في مجابهة دعاة التقسيم والتفرقة.