تبقى الاسطورة –رغم ان التاريخ حافل بالاساطير- هي الخطر الحقيقي على كتابة التاريخ اذا ما قصد بها حقاً تأصيل الوعي العام بالحقائق التاريخية، اما اذا قصد بها توظيف التاريخ ايديولوجياً او قومياً، فليكن للأسطورة صدارتها، وعلى الباحث/ المؤرخ ان يرحب بها.
وعلى ما يبدو، ان قلة عدد المختصين في تاريخ الشرق الادنى القديم من الاقطار العربية قد اتاحت الفرصة
لكتابة تاريخ المنطقة من رؤى تاريخية في بعض الاحيان، واسطورية في غالبها، وربما ساهم في دعم هذا الاتجاه، ان هذه المنطقة بالذات وفي تاريخها القديم بالأخص كانت متكأ للهجرات ومهبطاً للأديان، وبالتالي كانت فياضة بالتغيرات التي قد توحي – لمن يريد، ومن يستطيع- بالاسطورة اذا ما عازه التاريخ ليكتب منشئاً من وجهة نظره تاريخه الخاص. وربما تتعاظم الحاجة في هذه الآونة التي تتم خلالها محاولة ترسيم مستقبل المنطقة الى قراءة صحيحة للتاريخ تتجاوز القراءات المبتسرة له، ولن يكون ذلك الا ببلورة نظرية عربية لتاريخ هذه المنطقة من العالم.
وفي هذا السياق تكمن اهمية الكتاب الذي نحن بصدد قراءته ونقد بعض اطروحاته، بأعتباره دعوة ومحاولة في الوقت ذاته، فهو يحاول بين ثنايا الكتاب صياغة تصور عام لتاريخ هذه المنطقة بعيداً عن النظرية البابلية، والنظرية الصهيونية بالذات، ويدعو في الوقت ذاته الباحثين العرب في التاريخ القديم لاستكمال جهده الناقص في هذا، على طريق صياغة نظرية عربية متماسكة في هذه الحقبة التاريخية.
المؤلف سعى في البداية الى ان يهدم قبل ان يبني، وعلى نحو ادق يهدم ناقذاً النظريات الرائجة قبل ان يؤسس صائغاً لرؤيته الجديدة التي تقوده الى ان يجعل عرب شبه الجزيرة العربية الاقدمين هم محور تاريخ هذه المنطقة، وهم الشعب المؤسس والاصيل فيها. وبرغم ان المؤلف يبدأ بنقد النظرية المسيحية الغربية التي تقسم التاريخ العام للبشرية الى ما قبل السيد المسيح (ع) وما بعده او في تعبير آخر الى ما قبل الميلاد وما بعده حيث اعتبرت المسيحية فاصلاً بين عهدين في تاريخ البشرية.
وبرغم انه ينتقد ايضاً النظرية البابلية التي تربط التاريخ والحضارة في الشرق الادنى القديم بالثقافة البابلية باعتبار البابليين من اهم قوى الشرق الادنى القديم وفي تكوين ثقافته، معتبراً رغم اعترافه بالمكانة الكبيرة للبابليين، بأن اعتبارهم محوراً لتاريخ المنطقة وحضارتها أمر غير مقبول محاججاً بأنهم لم يكونوا الشعب الاصيل في بلاد ما بين النهرين بل هم ورثة شعب سابق عليهم هو الشعب السومري الذي يصنف ضمن الشعوب الهندواوربية، كما ان نشأة البابليين انفسهم تعود الى اختلاط السومريين القدامى بالعرب الذين هاجروا من شبه الجزيرة العربية الى بلاد ما بين النهرين وبالتالي تنقصهم الأصالة التي تجعل منهم محوراً لشعوب المنطقة وحضارتها.
انه على الرغم من اهتمام المؤلف بانتقاد النظرية المسيحية والبابلية بل والنظرية الكنعانية ايضاً والتي ينظر اليها نفر من علماء الغرب على انها تربط ثقافة الشرق الادنى القديم بالثقافة الكنعانية التي تحوي حسب هذا الفهم الثقافتين العربية والعبرية معاً.
فيما يبدو انه حل وسط تاريخي مدفوع سياسياً بالبحث عن نقطة لقاء علمي يكون اساساً لمصالحة تاريخية بين العرب واليهود الصهاينة، وهو أمر يخلط العلمي التاريخي بالسياسي الدبلوماسي.
نقول –انه على الرغم من الانتقادات التي يوجهها المؤلف الى هذه النظريات، فأن همه الاول يبقى منصباً على النظرية الصهيونية والتي تعد المهيمنة والغالبة في هذا المجال ومنذ ظهور الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر في محاولة من قبل المؤرخين الصهاينة لاعادة كتابة تاريخ الشرق الادنى القديم عموماً، وتاريخ فلسطين خصوصاً على النحو الذي ينسف فيه دعاوى الصهيونية في الحقوق التاريخية والدينية لليهود في فلسطين من خلال جعل الوجود الاسرائيلي ضد الواقع التاريخي ملمحاً بارزاً وواضحاً وأصلاً قائماً من اصول المنطقة ومعالمها بما يسهل من عملية ربط الاسرائيليين القدامى بالاسرائيليين المعاصرين في رباط تاريخي يصل هيمنتهم الحديثة بما يتصورونه هيمنة قديمة تحقق لهم اتساقاً مزعوماً للتاريخ.
وينتقد المؤلف اساس هذه النظرية الذي يقوم على اختلاف ثقافة بني اسرائيل عن ثقافة بقية شعوب الشرق الادنى القديم بأعتبارها تقوم على دين توحيدي في الوقت الذي انبثقت فيه حضارات الشرق الادنى من اساس وثني.
ويؤسس المؤلف انتقاده على حقيقة، ان الشعوب التي عاشت في الشرق الادنى ظلت وثنية ولم يؤثر فيها التوحيد الذي عرفته جماعة بني اسرائيل، لأن هذه الجماعة فهمت التوحيد فهماً عرقياً فأعتبرته توحيداً خاصاً بها وممنوعاً على الشعوب الاخرى، واستأثرت بالاله الواحد، فجعلته الهاً خاصاً بها دخلت معه في عهد خاص لا مكان للشعوب الاخرى فيه، وهكذا تحول الاله الواحد الى اله قومي مثله بقية آلهة شعوب الشرق الادنى القديم، وقد ادى امتناع اليهود عن التبشير بعبادة الاله الواحد بعد ان خصصوه لانفسهم الى استمرار الوثنية كقاعدة دينية لثقافة المنطقة حتى ان الوثنية نفسها دخلت في ديانة بني اسرائيل من خلال هذا الفهم للاله وطبيعة علاقته بهم وبالشعوب الاخرى.
وينتقد المؤلف ما آلت اليه هذه النظرية من طمس للهوية العربية لهذه المنطقة حتى ان المصادر الغربية في تاريخ الشرق الادنى القديم وحضارته تكاد تخلو من اي دراسة عن العرب عموماً وعن الفلسطينيين خصوصاً الذين باتوا يعالج تاريخهم على هامش التاريخ الاسرائيلي وكأنه تابع لمعطيات التاريخ اليهودي وافرازاته.
هذه النقطة الاخيرة تمثل الدافع الأهم لدى المؤلف لصنع هذا الكتاب الذي يمثل محاولة –كما اسلفنا- ودعوة لبلورة نظرة عربية في تاريخ المنطقة حيث يرى المؤلف ان الشعب العربي في شبه الجزيرة العربية هو الشعب الوحيد الذي تتوفر فيه المواصفات المطلوبة للشعب المحور تاريخياً وحضارة وهو ما يرجعه الى ثلاثة عوامل اساسية:
الاول- هو كونهم الشعب الاصلي الاول الذي لم يسبقه شعب آخر في شبه الجزيرة، فهو غير وافد الى المنطقة بينما تعتبر بقية الشعوب في المنطقة وخصوصاً الاجزاء الداخلية منها شعوباً غير اصلية ووافدة ومقرها الرئيسي الذي اتت منه هو شبه الجزيرة العربية. ونحن هنا نختلف مع المؤلف حول هذه النقطة اذ يؤكد التاريخ على أصالة الشعب المصري الذي عاش في وادي النيل منذ الألف السادس قبل الميلاد على الاقل وتمكن من تحقيق تجانس اجتماعي وثقافي كبير مهد للوحدة السياسية في الالف الرابع قبل الميلاد، ومن دون ان يعني الاختلاف معه رفض المقولة الاساسية للكتاب. فالعرب الذين يشكل المصريون اليوم عنصراً لصيقاً بهم منذ نحو الألفي عام ثقافة وديناً ولغة وتاريخاً وتراثاً ويحتلون موضع القلب منهم بحاجة ماسة فعلاً لرؤية عربية تقرأ المستقبل في الماضي قراءة تكتل وتلهم ولا تفرق او تحبط.
الثاني- ان بقاء الشعب العربي في داخل شبه الجزيرة العربية مكنه من صياغة متمايزة للشعب العربي اللغات العربية السامية وتكوين العقلية العربية السامية كعقلية متمايزة عن العقليات الاخرى في العالم القديم كالمصرية القديمة واليونانية والفارسية والرومانية في الوقت ذاته الذي ساهمت فيه هجرة هذا الشعب الى المناطق المحيطة به في الشرق الادنى القديم الى تغيير تدريجي ولكنه مهم في تكوين ثقافة وبنية سكان هذه المناطق وعلى النحو الذي لم تستطعه عمليات الغزو الكبرى والعسكرية من قبل البابليين والحيثيين والآشوريين لهذه المناطق التي اعتبرت هذه الشعوب غازية ولم تتفاعل معها، كما تفاعلت مع العنصر العربي الذي هاجر اليها بشكل سلمي.
الثالث- هو انه شبه الجزيرة العربية بحكم موقعها تمثل قلب الشرق الادنى القديم ومركزه الجغرافي والبحث عن محور لشعوب هذا الشرق لا يجب ان يترك المركز متجهاً الى الاطراف التي يحتمل تعرضها للمؤثرات الثقافية الاجنبية التي تقلل من اصالتها ولا يجعلها محوراً لثقافة هذا الشرق.
واخيراً، يؤكد المؤلف على رسوخ محورية الشعب العربي في شبه الجزيرة مع مجيء الاسلام الدين التوحيدي الانساني العظيم، بل ويفسر سرعة انتشاره في ضوء هذا الفهم والذي يرى بيئة الشرق الادنى القديم بيئة عربية ذات قاعدة ثقافية عربية لم تكن غريبة على الاسلام، ولذا مهدت لانطلاقته الكبرى الى قارات العالم القديم.
* الكتاب
رؤية عربية في تاريخ الشرق الادنى القديم وحضارته، تأليف –الدكتور محمد خليفة حسن احمد، ط1، دار قباء، القاهرة، 1999.
[email protected]