الى سلام القريني..
حين تكون شاعرا ولديك تجربتك مع القصيدة ،لايمكن ان تسلخ جلد الشاعر منك وأنت تنقل من جنس أدبي الى آخر خصوصا حين يتجاور/ يتزاور الجنسان حداثيا والانسان الشاعر يحمل قصيدته معه حتى عندما يغسل كفيه ، فلقد شخصت تلك المرأة ذلك الرجل وهو يفرك اصابع كفيه في الماء والصابون فالشاعر يفضحه اسلوبه في تناول الحياة شعريا وصاحب الكفين كان الشاعر العظيم ريلكة..وكان شيلر شاعرا حتى وهو يقلّم أظافره – حسب غوته -…وسامي القريني له خمس شمعات شعرية أنبجس نورها ومايزال في خمسة كتب وهاهو ينتقل الى شعرنة السرد هذه المرة في (أرى أرارات) روايته البكر…رواية سامي القريني لها غوايتها النقدية..يمكن للناقد ان يتناول جرأتها السياسية، أو اختراقها للخطوط الحمر في المستويات كلها، كما يمكن ان يتناول المحنة الوجودية للشخصية الرئيسة (عارف) أو علاقة عارف مع الموت وكأنه الشاعر الخارجي قطري بن الفجاءة (ذهب َ اللذين أحبهم وبقيت ُ – مثل السيف فردا )..وتستحق تجربتهم بوظيفة مهرج في مصحة الاطفال : دراسة نقدية ماتعة..، وهناك تجربته الميتافيزيقية التي يعرجها الى ارارات وغير ذلك من غواية الكتابة عن الرواية..لكنني فضلت التقاط مايوائم استجابتي النشاز دائما..
(*)
من /في الشخصية الرئيسة (عارف خالد آل عارف / 1971) ومن احلام ورغبات وامنيات عارف تستل قراءتي المنتجة الخيط الرئيس الذي لوّح به خالد عالياَ..(أحلم برؤية الاصوات !/ 230)..في بداية الرواية ،يشهر السارد المشارك في صناعة الحدث: أمنيته فيحدّث صدمة في التلقي ..(كم تمنيت أن يتمكن العلم الحديث من تحقيق رغبتي في دراسة وتشخيص الصوت تحت المجهر../27) أمنية مثل يجب ادراجها ضمن مفهومات : التحليل النفسي للنار /يقظة احلام الماء/ امزجة الطين / حدس اللحظة وغيرها من شعريات العلم ،كأن السارد المشارك يريد المساهمة في التحليل النفساني للمعرفةالموضوعية وفق غاستون باشالار..وهذه الامنية معلقة تعليقيا فينوميولوجيا مادام الانسان /الصوت ..(يظل حبيساً في صندوق مختوم بالشمع الاحمر…./239)………………………..
(*)
يتنامى احساس السارد بالصوت وتنضفر اتصالية تماه بين السمع / الرؤيا ..(رفع المؤذن ..أذان المغرب شعرت بتكبيرة الأذان تهمي كالقطر ثم كالغيث تنهمر، أحسستها تأتي في الوقت المناسب لترفعني وتظلللني بالرحمة../ 79) هنا لصوت المؤذن صيغة الضماد لجرحه النفسي حين هوت كف عمته امنية على وجه عارف بعد جدال عائلي..ثم ستكون للأصوات منحوتاتها وفق مخيلة إذن عارف (بدأ أحساسي بالصوت يكبر، وأصبحت أراه بعد سماعه حين أمعن في تخيله وتحليله. كل الاصوات التي صرت أسمعها في مابعد باتت تأخذ اشكالا مرئية بعد وصولها إليّ، كأن أذنيّ كانتا تقومان بهضم الصوت وتحويلة الى صيغة مرئية…/80) مثلما للأصوات منحوتاتها فالعكس صحيح ايضا وهذه
احدى اتصاليات عارف بالوجود الفني..(أقدس النحت، لأني أسمع في بعض التماثيل أصواتاً تُحدّث ُ نفسي../99).. لعين الحق وعين القلب وعين الوجه ، يجترح السارد عينا رابعة: هي الأذن ..ويحق للشاعر البصري بشار بن برد ان يجعلها براءة اختراعه ،اعني الاذن العاشقة وهذه الاذن لها وظيفة سرد الاعمى (الإذن تعشق قبل العين احيانا) وهي كذلك غواية الانثى ، في رواية جبرا (البحث عن وليد مسعود ) تقرأ وصال رؤوف قصيدتها لوليد وهما في السيارة وتسأله بعد ذلك عن رأيه في القصيدة، يجيبها وليد مسعود : أنا لم أسمع قصيدتك .سمعت ُ صوتك ،، أثبت ُ هذا الجزء من حوارهما وانا أتوكأ ذاكرتي لقد قرأت رواية جبرا في 1978 لكن هذا الجواب ايقظني صوتيا…
(*)
في رواية (أرى أرارات ) للأذن تنويعاتها منها :
*ذاكرة الحنين ..(لأن للأذن ذاكرة تحن ُ الى سماع صوت معين من بين الاصوات التي نعرفها…/115)..وبشهادة عارف وهو يستعيد المقتولة عائشة ..(مازلت اتذكر جيداً كيف كانت عبارة،،فرصة سعيدة ،، صادقة حين نطقت بها قبل فراقنا الابدي. لأول مرة أشعر بأني تهجأتها حرفاً حرفاً، وجزءاً جزءاً، لكي أحسُ بحقيقة معناها وحرارة موسيقاها…/116- 117)..هل هناك ماينوب عن الكلام؟ في الترابية الاولى هناك بلاغة الصمت، وفي الراتوب التالي هو الفعل بالقوة..وهذا مايطالب به عارف ازاء تمثالا رودان وهو يتلاسن معه..(إن كنت لاتملك صوتاً، تحرك، كسّر نفسك ، أخرج من هذا الصمت../125) ملاسنة عارف مع رودان هي حوار حضارات بين العربي المسلم متهم جزافاً بالارهاب وبين فكر أوربي يتشخصن ب (رودان) والحوار بصيغة ضماد للجرح النرجسي في ذات عارف..وسيحصل عارف على رافعة روحية لحزنه حين يكون المتواجد الوحيد في ذلك المسجد النائي (كان رفع الأذان في تلك اللحظة، أهم حدث في محطة غربتي الاولى قبل السفر الى الاردن…/134)..في رواية (صراخ النوارس) للروائي مهدي عيسى الصقر ، يتصدى فتيان البصرة للقيظ بمباراة صوتية أيهم أعلى صوتا واطول صراخا..
(*)
من الاسئلة الوجودية التي ينتجها عارف ،السؤال التالي..(مَن يملك الآن أن يُعطي صمتي لسانا وشفتي لأتكلم؟../173) والمسكوت عنه في هذا السؤال : مَن يعطي الاصغاء الى الآخرين ؟..ذلك الاصغاء الذي طوقه وهو يسمع صوت زميلته في المصحة.(أذهبتْ عقلي بحة صوتك ياوردة كنت ُ الشخص الوحيد الذي لم يكن في حاجة الى جهاز الترجمة، كلماتك ِ أخترقت شغاف قلبي واستوطنت جزئياتي..لم أخرج مباشرة بعد انتهاء فقرتك من القاعة إلاّ لأجلب هذه الوردة الحمراء../186)..وهو يستعيد عمته الميتة عبر راوئحها الزكية وكذلك ..(صوتها في أذنيّ لايزال يتردد كأن كلماتها تكاثرت في داخلي، أشعر بأني مسكون بنسل صوت عمتي بسمة../174)..ويبقى عارف في تلك الامنية الصوتية..(كنت أتمنى أن أكون قادرا على تفريغ شريط ذهني الكلامي على الورق../195)..
سيرى عارف في وردة قسيمته في أمنيته الصوتية وهما يتسارران ، هاهي وردة تبوحهه
(أحب ّ الحياة ،أحبُّ الموسيقى ، أحبُّ صوت فيروز الذي تمكن جدي من رؤيته ذات يوم في كهفه. لقد رأى الصوت ، وسمع الصمت../230) في هذا الكلام طية ٍ، سأفتحها وألتقط ُ ثلاثة مفاتيح :
*حب الحياة
*حب الموسيقى
*حب صوت فيروز
كأنني امام ثلاث سماوات يكون العروج فيها عبر سلالم المحبة وفي السماء الثالثة نكون وجها لوجه امام جنة مأوى..وهذه السلالم تنفي صراع الاجيال وتأثل وئام الاجيال ،فالحفيدة تتواصل مع جدها صوتيا وتأصلت علاقتها به من خلال إمكانيته الاستثنائية فالجد وحده (تمكن) من الرؤيا / التجسيد..لكن الرؤيا لم تكن في العراء الساطع، لكن في كهف لايذكرني بكهف افلاطون ذلك الكهف الفلسفي الذي يجعلنا نرى من الاشياء ظلالها..كهف الجد ربما يومىء الى كهف سيمرغ الصوفي فريد الدين العطار..
(*)
من مخيلة عارف امتشق سؤالا :هل المرايا : موسيقى تصويرية يتراسل عارف معها تراسلا مرآويا / ذاكراتيا..(خاطبت ُ وجهي في المرآة ،ذات لحظة فصامية رائعة في ليلة من ليالي الشتاء الطويل. رسمتُ لتلك اللحظة الطريق، ووضعت لها سيناريو تفاصيلها..كانت المرآة تتسع ، تتكاثر بي تتكسر على قسماتي أرى خيط دمٍ يسيل الى الاعلى، يلبس البياض سواد قلبه، أنتفض ُ، فيما يهتف من أعماق المرآة طفل أكاد أراه بعينيّ فؤادي ،قد أكونه ُ وأكونهُ كما أشاء، قد يكونني ويكونني من دون الأخذ برأيي .من أنا لأصفح الطفل؟ من أنا لأجبره على طاعتي؟ سأدعه يتمرد ،سأتركه يتبنى جوعي اليه وخوفي على طفولته من أنياب الحياة …/240)..هنا يتمرى عارف بمرآة المحلل النفسي جاك لاكان تلك المرآة التي يتعرف فيها الطفل الى نفسه وعارف هنا يريد تحرير طفولته من كل المرايا ، لتستعيد الطفولة طفولتها بعذريتها..لكن مرآة عارف تشكو من عطل هو في عارف وليس فيها ..فالمرآة تتمظهر وظيفتها وهذه سرعتها القصوى اما عارف فيطالبها بما ليس فيها او لديها..(ماأوحش المرآة حين تعجز عن نقل مايصطخب في آبار النفس من أحاسيس !…/240)..لكن العيادية المرآوية بشرته بولادة ثانية لذلك الطفل البعيد الذي كانه ، ماينقص البشارة : الوفرة الصوتية ..(آه لو أنني أملك أن أنطق الآن بألف صوت مباركا ولادته…) وسيكون صوت الموسيقى سلالم اصعود عارف الى ارارات.. وبشهادة العازف على تلك الآلة الصوتية(صوت خطاك يرتطم بصخور الجبل..صخور الجبل تحمل صوت خطاك إليّ..أمسكت ُ الدودوك ..ورحت انفخ فيه من قلبي نغمات تجعلك مطمئنا في سيرك ، وتمكّنك من الوصول الى مكاني بسلام…/247)..هاهو عارف الفاقد الاب والام مبكرا وفاقد الجد ونخلة الجد بعدها وفاقد عمته بسمة..هاهو يصبح العارف والمعرّف صوتيا والمولود ثانية عبر موسيقى جد حبيبته ورد ذلك الارمني الاممي كموسيقاه معلم الحياة على زهوة الاخضر ،ومهذب الخشب بنقوشه الرحمة التي ينقشها في الروح الحي للخشب المقطوع..الخشب المتمرد الذي لايطاوع إلاّ تمكن من فقه الخشب..هكذا يعلمنا :نجارة الوجود، ذلك الارمني الناجي من مجازر استهدفت اجتثاث الارمن من الشجر والتراب والهواء والماء ..وهكذا نمثل في حضرة صفي المحبة : آرام آرونيان…
*المقالة منشورة في جريدة الزمان/12/أيلول/ 2015
*سامي القريني/ أرى أرارات / دار الساقي/ لندن / ط1/ 2015