18 ديسمبر، 2024 4:57 م

رؤساء أفغانستان الأمريكيون

رؤساء أفغانستان الأمريكيون

حامد كرزاي كان الحل الأوسط للولايات المتحدة الأمريكية في تعقيدات أفغانستان ، فهل لم تستطع البدء بتسليم السلطة لرجلها الأمريكي المباشر أشرف غني الا بعد عبور مرحلة انتقالية مؤقتة شغلها كرزاي . والاخير كان رجلاً باكستانياً في انتمائه العرقي البشتوني أكثر من كونه افغانيا ، لاسيما مع تداخل المجتمع البشتوني بين أفغانستان وباكستان ، وقد قتل أبوه في كويتا الباكستانية ، فيما عمل هو في باكستان لفترة طويلة . وبالتالي كان خياراً باكستانياً يسبق الخيار الأمريكي .

وباكستان والولايات المتحدة شريكتان في تغيير شكل المجتمعات الأفغانية بصورة مباشرة ، إذ كانت باكستان بوابة التدخل الأمريكي في أفغانستان ، ومنطلق تشكيل الجماعات المسلحة التي تم إعدادها ودعمها أمريكياً وخليجياً لمحاربة الاتحاد السوفيتي . إذ كان الحزب الإسلامي الافغاني بقيادة الزعيم البشتوني قلب الدين حكمتيار صنيعة المخابرات الباكستانية ، وعلى أراضيها ، وحظي بدعم مالي ولوجستي اميريكي سعودي باكستاني منقطع النظير ، ما لم تحظ به الجماعات المجاهدة الأخرى ، إلا أنه كان مرحلة من مراحل تحريك وتجنيد العقل البدوي للبشتون ، باستغلال حاجتهم للدعم والتنظيم ، لذلك كان مقدمة لما يخلفه من حركات بشتونية أكثر انتماءً لباكستان وامريكا ، إلا أنه كان نافعاً في ضرب الاتحاد السوفيتي ، وتشتيت قوى الجماعات المجاهدة الأخرى غير البشتونية ، وتدريب وتهيئة المتطرفين العرب والاجانب الذين يتم إعدادهم لما بعد الحرب ، الذين كانت لهم مساهمة واضحة في التخلص من كاريزما أفغانية غير بشتونية كان من الممكن أن تعيق المشروع الأمريكي في أفغانستان تمثلت في أحمد شاه مسعود قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر .

وليس من الصدفة ان يكون جلال الدين حقاني وكيل الاستخبارات الامريكية – بحسب الاعلام البريطاني شبه الرسمي – الجسر الرابط بين القاعدة وطالبان في أفغانستان .

فيما لم ينل المجاهدون الشيعة من الطاجيك والهزارة ضد السوفييت سوى الاضطهاد في كل العصور اللاحقة، رغم أنهم نظموا أنفسهم بجهود دينية ووطنية محلية ، وأن مناطقهم كانت هي الأكثر محاربة للتطرف . ولم ينل الدعم سوى البشتون .

وقد تشكلت وانطلقت حركة طالبان من الأراضي البشتونية الباكستانية . وحصلت على جميع مقرات حزب حكمتيار في باكستان . وحين لم تستطع طالبان إسقاط مدينة باميان الشيعية وسط أفغانستان بعد سقوط جميع البلاد وصمود المدينة ، دعم الجيش الباكستاني طالبان بصورة مباشرة وفتحها لعناصر طالبان . فيما قتل امام أنظار الجيش الباكستاني في كويتا الباكستانية في عام ٢٠١٢ أكثر من ٤٠٠ شيعي على يد البشتون الذين يحاصرونهم علنا .

ثم جاء الأمريكان بممثلهم أشرف غني ، وهو بشتوني آخر ، تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت ، وتخرج كذلك من جامعة كولومبيا الأمريكية ، وعمل في جامعتها هوبكنز ، التي أعد لها عملاً ميدانياً داخل المدارس الدينية الباكستانية ، وعمل كذلك في البنك الدولي . ليقوم وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بتثبيت أشرف غني رئيساً لأفغانستان من خلال المفاوضات ، بعد أن اتهمه خصومه بتزوير الانتخابات بمساعدة الأمم المتحدة . وهي حالة مشابهة لما قامت به الولايات المتحدة من تزوير عبر إشرافها المباشر أو عن طريق الأمم المتحدة في العراق ، لتوزيع القوى بصورة تناسب مشروع الفوضى الخلاقة الأمريكي.

‏ وليعلن غني في اليوم التالي على استلامه الرئاسة توقيع الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة ، التي رفض كرزاي توقيعها .

‏وتزوج غني من مسيحية لبنانية هي رولا سعادة خريجة الجامعة الأمريكية أيضاً وجامعة كولومبيا الأمريكية ومعهد الدراسات السياسية في باريس وتحمل الجنسية الأمريكية . وليس من الصدفة هذا الزواج ، ودخول الخيوط الفرنسية والأمريكية إلى تلك العائلة ، كما لم يكن من الصدفة أن يكون زعيم التنظيمات الإرهابية في العالم أحد أفراد عائلة بن لادن الشريك الاستراتيجي للولايات المتحدة والعائلة السعودية . فهذه القوى المتطرفة المصنوعة بهندسة سياسية وفرت للولايات المتحدة الغطاء المناسب لدخول مجمل مناطق المسلمين في العالم بصفة شبه شرعية دوليا ، لاسيما بعد فتوى تلك التنظيمات بقتل المدنيين الأمريكان في العام ١٩٩٨ ، التي لم تكن ذات فائدة لاحد سوى المشروع السياسي والفكري والعسكري الأمريكي .

واذا كانت الموظفة السابقة في البيت الأبيض كاثي اوبراين قد شهدت في كتابها ( غيبوبة الولايات المتحدة ) أن الأجهزة الاستخباراتية الرسمية في بلادها هي من تدير تجارة المخدرات ، فقد جعل هذا الأمر حركة طالبان التي تسمح وتدير زراعة المخدرات بأكبر نسبة في العالم حليفاً مهماً لتلك الأجهزة الفاسدة . ومن ثم حقق الطرفان موارد مالية ضرورية ، لاسيما للحركة .

إن البداوة والحياة الجبلية النائية البعيدة عن الفكر المدني هي أهم ما يميز غالبية قبائل البشتون في أفغانستان ، وبالتالي يجمعهم الأصل الأعرابي مع مجتمعات اقليم نجد وساحل الخليج في الجزيرة العربية ، وليس فقط كونهما يدوران في الفلك الأمريكي معا .

وهذا ما أدركته بريطانيا ، الخبيرة في شؤون إنشاء المجتمعات المتطرفة ، والتي صنعت الحركة الوهابية البدوية الأعرابية بناءً على دراستها لقبائل قيس عيلان وأعراب تميم وعنزة في شمالي ووسط الجزيرة . وأدركت أن هذه القبائل هي آخر من قاتل رسول الله ، وآخر من دخل الإسلام ، وأنهم كانوا على الدوام في الصف الخاطئ عند كل فتنة . فقد كانوا في الجيش المتمرد على الخليفة الشرعي في معركة الجمل ، وكذلك في صفين ، وفي مذبحة كربلاء .

وهذا ما جعل بريطانيا تتحالف مع أمير البشتون الدموي عبد الرحمن خان ، الذي قام بمذابح كبرى ضد الهزارة الشيعة في أفغانستان ، وقلص أراضيهم إلى حدود ٣٥٪ من أصلها ، بعد أن سرق ما يقارب ال ٦٥٪ ذهبت لصالح البشتون إلى اليوم .

ورغم معرفة الولايات المتحدة الأمريكية أن النسبة الأكبر من المتعلمين والمثقفين في أفغانستان تتواجد في مجتمع الهزارة ، إلا أنها أدارت وجهها لهم كما هو متوقع .

إن المشروع الأمريكي في أفغانستان لم يكن يوماً القضاء على طالبان، أو إقامة دولة ديمقراطية . فليس من الممكن بعد ٢٠ سنة أن تعجز الدول العظمى عن إنهاء وجود قوة عشائرية مدعومة من حلفاء الناتو في باكستان والخليج . وكان يمكن القضاء عليها ببساطة بمجرد دعم وحث فصائل الشمال الاكثر تحضراً وخبرة في القتال ، بعد سحب يد باكستان ومال الخليج . وليس من المعقول أن تفشل الولايات المتحدة والقوى الأوروبية في صناعة جيش عصري يوقف تقدم طالبان . إلا إذا كانت أميركا وأوروبا ذاتها فاشلة ، عندئذ يجب عليهما معاً التوقف عن التدخل في شؤون الدول .

لكنّ التجربة العراقية ، من خلال ثبوت أن جميع قادة الجماعات الإرهابية المسلحة كانوا معتقلين سابقين في السجون الأمريكية أو سجون حلفائها كالاردن والسعودية ، وأنهم بدأوا العمل الارهابي في اللحظات الأولى لخروجهم من السجون ، الأمر الذي يثبت أنهم نظموا او تم تنظيمهم داخلها ، وأنهم يتواجدون حيث تتواجد القواعد الأمريكية ونفوذها ، وأن الولايات المتحدة ادعت صعوبة القضاء عليهم ، وفشلت تماماً في الحفاظ على أراضي العراق التي تدعي حمايتها ، وفشل وانهيار الجيش الرسمي العراقي الذي كانت تسيطر عليه من خلال القيادة المشتركة ، وكانت ترى قوافل تلك الجماعات نهاراً جهاراً دون ردع ، بل ثبوت دعم الطائرات الأمريكية لهم من خلال الفيديوهات التي وثقتها القوات العراقية للمؤن التي تم انزالها في مناطق سيطرتهم ، ثم ثبت كذب ما عليه تلك الجماعات من هالة مصطنعة بعد أن هزمتها قوافل شعبية عشائرية عراقية ، تكشف جميعاً أن الأمر ذاته كان في أفغانستان من قبل الأمريكان .

إن وجود الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان كان لإضعاف القوى المناوئة لطالبان ، من خلال خداعها بقيام دولة مدنية تستريح فيها القوميات والاثنيات من حمل السلاح بعد حروب طويلة ، في انتظار من الأمريكيين لهلاك قادة الجماعات الاول ، خبراء الحرب ، وخدر الناس ، وانقطاع الجيل الجديد عن التجربة التاريخية السابقة ، ولا يظل خبيراً بالحرب الا القبائل البدوية البشتونية . في ظل وجود رئيس بشتوني امريكي مشترك قال عنه وزير الدفاع ” كبّل أيدينا ولاذ بالفرار ” ، يشرف على جيش مهلهل ، غالبيته من البشتون كذلك ، الذين فضلوا تسليم السلاح على قتال أبناء عمومتهم وقومهم . فهم ليسوا مستهدفين كما يتم استهداف باقي الاعراق ، لاسيما الهزارة الشيعة الذين تعتبرهم طالبان كفاراً كما اعتبرت الوهابية السعودية الشيعة العرب من قبل . ولهذا كان أول مظاهر وجود طالبان في مناطق الشيعة اغلاق مجالس العزاء الحسيني ، وانزال رايات الاحتفاء بتلك الذكرى الإسلامية .

إن المراقبين الدوليين والمحليين يعلمون أن طالبان لم تخضع المدن الأفغانية بحرب حقيقية ، وانما تم تسليمها الاراضي بصورة شبه سلمية ، بعد أن تخلت الجماعات العسكرية السابقة عن كياناتها لصالح قيام الدولة المشتركة المدنية . فكأن العملية الأمريكية في تلك البلاد كانت تقتضي حل الجماعات المقاومة لطالبان ، لا طالبان ذاتها .

والواقع الآن ليس عدم قدرة طالبان على بسط سلطتها وقد سقطت جميع المدن بما فيها العاصمة والقصر الرئاسي في يدها ، وليس غريباً أنها لم تعلن امارتها إلى الآن ، فالولايات المتحدة وباكستان تريدان العبور بطالبان في مرحلة انتقالية لصنع المقبولية الدولية ، بالتظاهر أن السلطة سيتم تسليمها لقيادات غير طالبانية ، وانما أكاديمية ، لمدة ستة أشهر ، حتى يتسنى للمجتمع الدولي التعامل مع أفغانستان ما بعد طالبان ، ويعتاد على وجودها ، في حين أنه تسيطر على مجمل دوائر ومؤسسات الدولة . لكنّ قواعد طالبان الشعبية البدوية ليس باستطاعتها فهم ما تفهمه قيادتها المخابراتية الأصل ، وهذا هو التحدي الذي ستواجهه هذه اللعبة .

وليس من الصدفة أن يكون صاحب هذه الوظيفة الانتقالية بجماعة طالبان إلى المجتمع الدولي أميركي اخر ، هو ( علي احمد جلالي ) الذي عمل مع إذاعة صوت أميركا لعشرين عاما ، وصحفياً لصالح الولايات المتحدة طيلة الحروب في المنطقة ، ووكيلاً عسكرياً للجهود الأمريكية في الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفيتي ، والحاصل على جوائز الانجاز الوظيفي والخدمة الفيدرالية الأمريكية ، وأنه من أشرف على إنشاء وزارة الداخلية الأفغانية تحت الوجود الأمريكي .

إن ما تريده الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان وجود جماعة إرهابية بدوية متطرفة ، تخضع للمخابرات الغربية من خلال قيادتها ، كما صنعت بريطانيا من قبل في الخليج . فيما لا يهم مدى وعي قواعد تلك الجماعات الشعبية بما يجري ، لأنها في النهاية تجمعات تتأثر بالقبلية والمال ، كما يروي تاريخ نجد ومحيطها الأعرابي .

فتكون تلك الجماعات بؤرة ضغط أميركية ضد ثلاث دول مصنفة على أنها عدوة للولايات المتحدة ، تحيط بأفغانستان ، هي الصين وروسيا – بحلفائها – وإيران . ومحاولة إحباط مشروعهم الجديد ( طريق الحرير ) .

كما أنها سوف تستخدم يوماً للضغط وابتزاز باكستان القوية الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة وللجماعة .

على أمل أن تكون نتيجة كينونة تلك الجماعة على مر الأيام ذات الكينونة التي أنتجت منظومة ال سعود المتطرفة والعلمانية في آن واحد .

ولهذا كان ما نقله المحللون الباكستانيون من وجود أوامر أمريكية مباشرة للرئيس الافغاني اشرف غني بعدم مقاتلة طالبان ، وأنه يجب عليه تجنيب كابل الدمار صحيحا . ولهذا يرى وزير الخارجية الأمريكي بلينكن أن الولايات المتحدة الأمريكية حققت أهدافها في أفغانستان، وأن كابل ليست سايغون .

فتكون رؤية الدول التي ترى أن الولايات المتحدة هزمت في أفغانستان خاطئة . لكنّ مشروعها قد يفشل في أفغانستان كما فشل في العراق ، نعم . فتلك الشعوب حية ، لا أنها شعب نجد وساحل الخليج وبعض الجزيرة العربية . فالمشروع الوهابي حين اصطدم بالعراق توقف . ولولا أموال النفط والأنظمة الدكتاتورية وسذاجة القيادات الدينية والمجتمعية في بعض البلدان الإسلامية والغطاء المخابراتي الدولي لما استطاع الخروج من نجد .

فيما ستعمل طالبان على خنق كل معادلات الوعي داخل البلاد ، والقضاء على المجتمعات الإثنية والعرقية التي رفضت التعاون تاريخياً مع مخابرات الولايات المتحدة كالهزارة .