18 ديسمبر، 2024 11:13 م

رأي – ليكن نشيدنا الوطني, نشيد مباديء وقيم لا هتافات ونقم !

رأي – ليكن نشيدنا الوطني, نشيد مباديء وقيم لا هتافات ونقم !

تنوعت المقترحات حول اختيار نشيد وطني عراقي بالصميم, كلمات وموسيقى بدل ” نشيد موطني ” الذي كتبه الشاعر الفلسطيني ” ابراهيم طوقان ” والذي لحنه الموسيقار اللبناني ” محمد فليفل “, والمعتمد رسمياً كنشيد وطني.
واختلفت الآراء حول ابرز مقترحين للنشيد الوطني, وهما : نشيد مُغنى بصوت الفنان كاظم الساهر” سلام عليك… على رافديك عراق القيم….” وهو من شعر الشاعر أسعد الغريري وبين قصيدة شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري ” حييت سفحك عن بعد فحييني… يا دجلة الخير يا أم البساتين….. ”
المقترحان يشتركان بسمّة سهولة الحفظ وهي خاصية مطلوبة في أية صياغة لكلمات النشيد الوطني المنشود, ليسهل ترديدها من قبل كل مواطن مهما كان مستواه الثقافي وفي مختلف المناسبات.
اما في مجال موسيقى النشيد, فمن خلال استعراضي للأناشيد الوطنية لدول كثيرة من مختلف اصقاع العالم وجدت انها تستقي موسيقاها, بالأساس, من مارشات عسكرية لبث روح حماسية ترفع من شحنات مشاعر الفخر الوطني او من مقطوعات موسيقى كلاسيكية لها علاقة بالتراث الوطني للبلد المعني… وفي نظرة الى تاريخ الأناشيد الوطنية العراقية, الملكية منها والجمهورية, فأننا سنكتشف انها أُنشدت ايضاً على أساس مارشات عسكري.
لا يعرف أحد بالضبط ما يمكن ان تكون عليه اغنية المطرب كاظم الساهر بكلمات الشاعر اسعد الغريري, فيما لو أُعيد تلحينها على شكل مارش عسكري, وهل ذلك ممكن بالأساس, وكيف سيكون وقعها على المسامع ؟
مع العلم بأن بداية اداء المطرب الكبير كاظم الساهر للنشيد يحمل ملامح مارش عسكري ولكن في الأبيات اللآحقة خفتت نبرة نشيده. عموماً لا أعتقد انهما, لا المطرب ولا الشاعر, قد فكرا حينها لأن تكون القصيدة المغناة نشيداً وطنياً.
وكذلك الأمر بالنسبة لقصيدة شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري, فهي أصلاً قصيدة حنين لا حماسة, بينما النشيد الوطني ينبغي ان يكون نشيد تفاخر واعتداد, يشحن المشاعر ويرفع الهمم.
وقد كنت قد قرأت رأيا لأحد المؤلفين الموسيقيين العراقيين بتعسر تلحين قصائد شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري لصعوبة تركيبتها اللغوية مما يجعلها غير غنائية بالعموم ( تحضرني في هذا الخصوص محاولة يتيمة لفنان الشعب طيب الذكر فؤاد سالم في تحويل قصيدة الجواهري ” حييت سفحك…” الى أغنية ), هذا غير توليفها مع موسيقى مارش عسكري مثلاً لتصبح نشيداً وطنياً يُعزف ويُغنى في المناسبات والأستقبالات الرسمية داخل البلاد وخارجها.
ومن جانب آخر وبغض النظر عن مناسبة ايً من المقترحين من عدمه فأني أرى بأن العواطف لازالت تمسك بتلابيبنا كعراقيين, ولم نغادر بعد طوق المشاعر الحرّى, ولازلنا أسرى ل ” الأنوستالجيا ” ( مصطلح يستخدم لوصف الحنين الى الماضي والتغني بأمجاده التليدة والتي يعتبرها البعض حالة مرضية ), بينما نحن كشعب بأمس الحاجة للتفكير بالمستقبل والعمل من أجله.
والسبب في ذلك يقع بالدرجة الأولى على عاتق القوى التي تسلمت زمام الأمور بعد 2003 وطبيعتها الماضوية الأستحواذية والتي لا ترى من مصلحتها السير الى الأمام بل الهرولة نحو الخلف, فعملت على عكس كل ما كان يأمله كل شعب متحرر من ربقة دكتاتورية همجية مقيتة, بقطع الصلة بتلك الحقبة و قيمّها المدمرة وحروبها ونزعتها العسكرية المتعجرفة وإرساء بديل مشرق ديمقراطي سلمي يجمعنا.
احتدم الصراع فيما بين القوى المهيمنة على السلطة وحتى في اطار محاصصتها للكعكة, فأندفعت الى تجزأة المجزأ وتشيئة كل شيء, حتى امتد ذلك الى النشيد الوطني الذي طالب البعض صياغته بما يتلائم مع تقسيماتهم التجزيئية للمجتمع والقيم والمباديْ بأضافة عبارة هنا او اشارة هناك تشير الى المختلف في العقائد والقوميات وترجح هيمنة هذه الفئة على الأخرى وتقديم رموز تاريخية او تراثية دون غيرها, وهذا ما سبّب عدم الأتفاق على صيغة مناسبة له وتأجيل اقراره, رغم ما تؤكد عليه فلسفة كل نشيد وطني ان يصهر كل تنوع وتميّز في بوتقة الوطنية الموحدة.
ارى وبتواضع شديد ان يركز النشيد الوطني الجديد على المباديء والافكار التي تشكل مطلباً وحاجة وعاملاً مشتركاً لكل المواطنين في هذا الوطن, وما يطمح اليه من قيم السلام والديمقراطية وضمان المساواة في الحقوق وحرية الفكر والعقيدة ومستقبل الأجيال الفتية, دون الأشارة الى الأختلافات العرقية او الدينية او الطائفية…
تحضرني هنا التجربة الألمانية… فبعد توحيد المانيا جرى اعتماد المقطع الثالث من قصيدة لهاينريش هوفمان فون فاليرسليبن كنشيد وطني, المسمى ايضاً ب ” اغنية الألمان ” وموسيقى مارش من تأليف يوزف هايدن, كبديل عن نشيد فترة الحكم الهتلري الذي اعتمد المقطع الأول من نفس القصيدة لنفس الشاعر ليوظف معاني كلماتها المتصلة بحقبة سابقة ويضفي عليها معنىً عرقياً مغايراً لما اراده الشاعر, بتمجّيد التفوق العرقي للجنس الآري على باقي البشر” دويتش لاند أوبر آل – المانيا فوق كل شيء “, ليعبّر عن العهد الجديد والمرحلة الراهنة بعد دكتاتورية هتلر وتبديل حكمه بنظام ديمقراطي برلماني.
فتم تبني النشيد الحالي :
https://www.youtube.com/watch?v=LeNW56hxAVM
هذا النشيد يتحدث عن قيم لا عن أمجاد ماضي او مميزات قومية المانية بل يؤكد على وحدة الألمان وسعيهم لأرساء العدالة وبناء حياة رغيدة هانئة لأجيالهم القادمة.
وتجربتنا العراقية تقترب كثيراً في بعض حيثياتها من التجربة الألمانية ( مدخلاتها دون مخرجاتها للأسف ) من حيث مغادرتنا لحقبة دكتاتورية مقيتة الى عهد جديد يفترض به ان يكون ديمقراطياً خالصاً, وهو ما يستوجب قطع الصلة العملية والفكرية مع تلك الحقبة الظالمة.. ولكن الطبقة السياسية المسيطرة آثرت الأحتفاظ بأسوأ مفاهيم العهد البائد من تمجيد للعنف ومصادرة انسانية البشر, وتصنيفه عرقياً وطائفياً ومناطقياً, واوقعتنا في ظلامية التغني بالماضي دون التطلع الى المستقبل.
لهذا فأن الأمر يستوجب التمسك بمطلب اختيار كلمات النشيد الوطني المنشود لتعبر عن حب الوطن وقيم الديمقراطية والوحدة والمستقبل المشترك والعالم الجديد… وهذا الأختيار, الحل سيجنبنا الخوض في نقاشات بيزنطية حول اولوية تثبيت رموز دون غيرها ثم الأختلاف على دلالاتها, والى ما ذلك من مشاكل متعلقة بالماضي وتقييمنا المعاصر لأحداثه وشخوصه.
أشير هنا, في الختام, ان بلداناً كثيرة في العالم حافظت على أناشيدها الوطني الرسمية رغم تبدل انظمة حكوماتها, لأنها اختارت منذ البداية قيماً ومباديْ مشتركة لأغلبية مواطنيّة واسعة.