23 ديسمبر، 2024 1:45 ص

ما أن تتمكن من استثارة انفعالاته حتى يشي بالحقيقة المرة , سيعترف أن مجتمعاتنا أبعد عن كونها أرضا خصبة لقيام نظام نموذجي يؤسس على أسس اعتقادية دينية , وحين المقارنة مع المجتمعات المتقدمة يظهر العيب جليا. ما عليك سوى جعله ينفعل حقا, ينفعل بصدق, فهو إن انفعل حقا فسيتحدث بلا محاباة , والغضب أحد المنافذ لمعرفة دواخل الإنسان , والإنسان ينفعل بصدق أن اكتوى شخصيا وبعمق إنسانيته بنار السلبيات والمترديات التي هيمنت على مجتمعه.

حبذا لو تكلم بعد هنيهة لتعرضه لخسارة لامست أعماق شعوره , عواطفه , كرامته , ساعتها ستجده بعيدا كل البعد عن المجاملة والتزلف للناس إذ تناقصت مناسيب المرونة في كلماته , وسحنات وجهه , وإيماءاته , ويا ويل الأسئلة إن كان المجيب في طور النزف , الألم , في أعقاب حادثةٍ أنهكت أحاسيسه كثيرا, آذت ضميره بعمق وشدة , حطمت قلبه , حادثةٍ من صنع التطرف , المتطرفين , أدوات التطرف , الذين يرتئون شرعا ينسبوه لخالق ما, ويصدرون فتاوى لا تقارن مع أردأ وأبشع التشريعات الوضعية التي يضعها البشر ويعترفون بنقصها ويرجعون لها مصححين فيها ما لزم التصحيح, في حين أن أرباب الفتاوى الحمراء يرجعون لفتاواهم التي نفذوها واقعا ليعلنوا افتخارهم بالتزامهم بها , بحديتها , وحدودها, وتقيدهم بملامحها, تلك الملامح الممتلئة دما وكرها, واستغاثات , الملامح التي أرادوها وجهاً يُغلف الأوطان والمجتمعات , لتُطبق قاعدة: إن الله شديد العقاب , وتُلغى كل قاعدة أخرى , فقط قاعدة العقاب اللامتناهي وحدها تبقى كممثل شرعي لدولة الله على الأرض.

هللويا, هللويا يا شياطين دولة إلهكم, وهللويا لأنكم حولتم خارطة منطقتنا إلى رقبة توغلت في أوداجها آلاف المقاصل, والنواصل, ومن قدوركم تفوح رائحة حساء الأحشاء والمفاصل, وليُجب ذلك الذي استثرنا انفعالاته  وليصف لنا أمجاد الذبح, بشرط أن يكون قد شاهد العبث الصبياني ولامس الفوضى العقائدية, برمتها, ولنفسح المجال, كل المجال, ونعطِ كل الوقت للسيد المجيب , وهو إما سياسي, أو مثقف, أو مفكر , أو أكاديمي, أو رجل دين, ولنستمع لنبرة صوته وطريقة إجابته ومحتوى كلماته, ولنتمعن بملامح وجهه وقد ابتدأنا بالتطرف, ولن نتوقف عنده.

سيتحدث ضيفنا, ويُجيب, ولن يتوانى عن الصراحة , مُظهرا كل الصراحة , سيتكلم من أعماق الواقع واصفا والألم يعتصر قلبه, وذاكرته الاجتراحية تهدر , إلا إن كان قد أُصيب بالوباء المرعب , وإن أصابه الوباء فلن تصدر منه أية انفعالات , او آلام , او أسف, سنكون أمام مقصلة دبلوماسية , أو سكين مزدانة بالترف الفكري , أو أفعى تحمل مسبحةً أحدّ من السيف , وهل للمقصلة حبيب , وهل للسكين عزيز , وهل للأفعى مقرب , فالثلاثة ملتزمون بالجهاد أو النضال المقدس الذي التزم به القديس المفكر الدوق دراكولا .

وإن كانت الأفعى الحقيقية , المقصلة , السكين , تذرف الدمع على قريب أو عزيز , فإن أفعانا ومقصلتنا وسكيننا ملتزمات بمشروع ساحق لا مشاعر فيه , ولا واعز من ضمير , والله إن أراد أن يُهلك قرية أمر مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمروها تدميرا , وهذه عقيدة في نص مقدس يلتزم بتصديقها المتدينون من رجال الدين والسياسيين والمثقفين .

نحن نريد أن نسأل سياسيا – مثقفا – متدينا – أكاديميا – متطرفا شريفا !! , عنده ضمير , مشاعر إنسانية , إحساس بإرادة , محب – والبشر يحبون- متسامح , صادق .

صيغة سؤالنا بالشكل التالي:

لنقل إن المنقذ حل بيننا , ظهر في مجتمعاتنا , هل سيرتضي أن يتخذنا أتباعا له , فرسانا في جيشه , سفراء لدولته , مروجين لأخلاقياته , ناقلين لعلمه , فاهمين للتكنولوجيا التي يأتي بها ..  هل نحن مستعدون عقليا, علميا, نفسيا, أخلاقيا, لتقبل هكذا رسالة ثقيلة ؟؟.

هل سنجد الإجابات عند السياسي المصدوم, المثقف المتألم, المتدين المنصف , إجابات لا لبس فيها , ولا تملق للمزاج الاجتماعي , ولا تزلف للنزعة الحماسية الطاغية , وإحدى علامات المنافق أنه إن حدث كذب , وسيُضاف الكذب للتملق , وسيُضاف المجيب لقائمة ( إذا حدث كذب ) الثقافية , أو إلى قائمة ( إذا وعد أخلف ) السياسية , أو إلى قائمة ( إذا أؤتمن خان ) العقائدية , أو نكتشف أنه من ضمن قائمة ( أسفل سافلين ) المخصصة للمتطرفين , المتحيزين لصناعة الموت , الذين خرجوا عن قيم الإنسانية وانقلبوا ضدها , ولن نُصدق أن منقذا يأتي برسالة خلاص لا تحترم الإنسان , وقيمته , وكيف نصدق أن المنقذ سيتعامل مع القيم الإنسانية كقيم مضادة لمشروعه الذي يريد تطبيقه بين البشر ؟؟!! .. ودعنا نتصور رسالة لا إنسانية فيها توجه إلى الإنسان وتحثه على اتباعها , ولنتخيل خطاب ومفاهيم هكذا رسالة , وبأية صيغة ستُكتب , وما هي الملامح السلوكية والذهنية لحاملها , مع أن مجرد الافتراض لن يكون منطقيا حين مناقشة هذا الموضوع , ولكننا نحاول تطويق المجيب, وتساؤلنا لا يخلو من إحراج , ولكن الحرج ملازم لتساؤلنا ولا يمكن الفصل بينهما , ولو كنت أعلم طريقة أخرى للتساؤل لما جاءت الصياغة بشكلها الماثل أمامك .

المنقذ.. المخلص .. مشروع التغيير الجذري الذي يحل في عالمنا البشري ويُحدث طفرة جذرية لا تبقي ولا تذر في كل ما عهدناه واعتدناه وألفناه , فتنقلب الدنيا رأساً على عقب ويأتي أمر جديد على الناس شديد يصيبهم بالذهول , فعجلة الزمن توقفت – زماننا المعتاد – وتضاريس المكان والمجتمع والسياسة والعلم والثقافة تشكلت بصورة مغايرة للمألوف , وانتقلت حياتنا بكل مفرداتها نقلة شاسعة جداً, جداً, نقلة نوعية عميقة جداً, جداً, فصرنا أناس آخرين , مختلفين عن السابق , بعد أن كنا قد أعددنا العدة لاستقبال هذا اليوم , فجاء المنقذ ليجد قوماً مستعدين لإتباعه , وكانت المحصلة الحتمية أن المنقذ أتخذ هولاء القوم أتباع له , وانطلق بهم إلى عالم جديد , بعد أن تكامل الاستعداد بالتقبل , استعداد الأتباع , وتقبل الاستعداد من قبل المتبوع , وقُضي الأمر .

لنرجع إلى أرض الواقع , واقعنا , ونتفحص ذواتنا وإمكانياتنا , ونعرضها على ذوي الشأن من السياسيين والمفكرين ورجال الدين , نعرض ذواتنا وإمكانياتنا ووقائعنا الاجتماعية بصيغة تساؤل أمام هذه النخبة من المجتمع ونطلب إجابة واضحة , واضحة جداً, وأتمنى أن يكون المجيب مصدوماً بدواخله الإنسانية , ويكون سياسي منصف , مثقف صادق , رجل دين رسالي , وإذا كان هذا التساؤل من الشدة ما لا يُحمل ويُطاق , فلنسأل عن الإمكانيات الدنيوية لمجتمعاتنا , الإمكانيات الوضعية – الأخلاقية – الثقافية – العلمية – الأكاديمية – النفسية , ولنجعل من سؤالنا التالي مدخلاً لتساؤلنا بشقه الدنيوي , ونمزج السؤالين , فلا مهرب من أصل الموضوع :

(هل يمكن للجاهل بالمواطنة في الدولة السياسية أن يتعرف على شروط الانتماء لدولة الله ؟؟؟؟ ) .

ملاحظة:

نحن نتحدث ضمن أصل الموضوع وبحسب خارطة الفكر الديني ولسنا بصدد معتقد الشخصي .

نعود لموضوعنا

لقد تعرضنا لصدمات لا تُطاق , فرجع بعضنا لنفسه وعقله متسائلاً, وحينما عجز عن إيجاد إجابات وتفسيرات راح يطرق أبواب من يعتقد أنهم أولي معرفة , وأصحاب نظرة ثاقبة , ورأي سديد , والنخب هي صانعة وعي المجتمع , وهي القادرة على طرح أشد الإجابات فتكاً بالجهل , والوهم , وهي التي تلتقط الأسئلة من أجواء الحيرة والتخبط والضياع , إذ المجتمع يحدق بالسماء وهو سقيم , وسقمه ليس عن وعي , بل سقم أوصله إلى الحد الذي ما عاد يميز بين كسوف الشمس كظاهرة كونية لها تعليلها العلمي , وبين الاعتقاد أن حوتاً سابحاً بالفضاء ابتلعها , أنه مجتمع ينتظر منقذاً يرفعه لقمم العلوم !!!!!!!

سنسأل النخب عن صدمتهم بهكذا مستويات من الفصام الشعبي , ويا حبذا لو خاطبنا المجتمع

فيا مجتمعي العزيز:

كلنا ننتظر أن تتطور الحياة , وتتوفر ظروف أفضل , وتزدهر القوانين والأنظمة والسياسات والتشريعات , وتتحسن آليات عمل الدولة وتُبذل جهود حكومية أفضل بكثير من أجلنا , من أجل رفاهية أكثر شمولاً وعمقاً, وتتقدم البشرية في مجالات الطب فتغدو الصحة متكاملة وتظهر عقاقير تعالج أصل كل عاهة ومرض , وتطول الحياة لقرون , وتمتد فترة الشباب إلى مئات السنين وأكثر , شباب بلا توعك أو أدنى خلل بوظائف الجسد , وتتخلص البشرية من المجاعات والحروب والاكتظاظ – التفجر السكاني الذي يتطلب مساحات أضافية للسكن , وتوفير مساحات للزراعة وإكثار الثروة الحيوانية لسد احتياجات الأعداد المتزايدة , فتنتقل البشرية إلى استيطان كواكب أخرى , ولنا أن نتكاثر إلى ما لا نهاية في هذا الكون الواسع جداً, ولن نخشى من تناقص الغذاء ومساحات السكن والزراعة حتى لو بلغ تعداد الناس 70 تريليون .. ..  طاقة لا تنفذ , سعادة لا تنقضي , نفوس مليئة بالراحة والاطمئنان , تكامل , وهذا كله لن يتحقق إلا بالعلم والفكر وجهد العقل والإصرار على بلوغ الكمال , أما الجلوس على البساط وانتظار التغيير ليأتي من دون أن نذهب أليه ونتحمل مشقة البحث والتطوير والاكتشاف , فأن حتى النصوص المقدسة أكدت على أن الله لا يغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم , وقد يأتي المنقذ ويتخذ قوماً آخرين إتباعاً له ونُترك نحن جالسين على البساط , ولا عذر في جهالة ….

روى لي أحدهم أن طائشاً أراد عبور جبل شاهق عبر قذف نفسه بواسطة منجنيق بدائي , وحينما قذفه المنجنيق سقط صاحبنا بعد مسافة معينة , وتهشم جسده , ومات , وضل الجبل بعيداً حتى عن جثته , وستظل كل الجبال بعيدة عن الواهمين …

ستهبط نفوسنا أكثر , ستهبط إلى تطرف أعمق , وصراعات أوسع , سنتدحرج في دهليز الظلمات إلى ما لا نهاية , سنفقد المزيد مما تبقى فينا من فضائل , وما تبقى من تعقلنا , وعند مجيء منقذ , فيلسوف , عالم , حاكم فاصل , فأن ولا واحد في هولاء سيجد فينا أي مؤهل , سنكون بنظره مجرد بدائيين , عبثيين , معاندين , خطرين , عدائيين , مجرد بطون ممتلئة , أو جائعة , وعقول خربة , ونفوس متآلبة , وقلوب مستذئبة , وهياكل متكالبة .

أن كل من يجيء ومعه التقدم والتطور سيطور العقول , ولكنه لن يهب عقولاً ……….

تنبري النخب المثقفة والسياسية والدينية كعينة من المجتمع نالت معرفة مكنتها لتصير المتصدرة للإصلاح والباذرة للتغيير , وهي من تستطيع معرفياً وعلمياً عزل الوهم والتوهم عن الحقائق والمعقولات , ولنا في المصلح الديني الأوربي مارتن لوثر أكبر مثال لدور النخبة الإصلاحي , فهذا الرجل فند عقيدة صكوك الغفران , بل وأحرق الصكوك أمام جمع من مريديه ليبرهن على صدق رأيه وأيمانه المتعلق بهذه القضية , وأكد أن شراء صكوك للغفران تصدر من الفاتيكان الكاثوليكي لا يوفر الخلاص , ومتى كانت الفردوس تُشترى بالنقود<1> ؟؟!!..  وظلت دعوته تجذب الكثيرين حتى تحولت إلى مذهب أقره أحد المؤتمرات ليصير رسمياً بين المذاهب المسيحية وعُرف بالمذهب البروتستانتي وأتباعه بالبروتستانتية < المعترضين > , ومثال آخر نأخذه ؛ أنه الراهب الثائر :

تمسكت بهذا العنوان أكثر من اهتمامي بالشخصية التي حملت هذا العنوان , فثورة الراهب تعني تصحيح عميق في أخطر مرحلة تاريخية تمر بها الأمة , أنها مرحلة اندحار العقل الجمعي وتقهقره بفعل الراهب , دين الراهب ,  لاهوت الراهب , يوتوبيا الراهب ( -لا المكان- التي يريد من الناس أن يتوجهوا لهُ بإيمان وتسليم وحماسة ) في حين أن <الجمهورية الآية> – وهكذا يحلو لي أن اُسميها – وخاصة جمهورية الدولة التي يحكمها منقذ , ستظهر ضد أغلب الناس – ولك أن تستفسر من الروايات والنصوص الخاصة بهذه القضية  – كحال الدعوات النبوية التي حمل رسالتها الأنبياء ونحن نقرأ عنهم في كتبنا المقدسة , فكل نبي أتى أعلن الحرب على ما وجد عليه قومه من مبادئ وقيم ورؤى – وأرجع لأؤكد على مسألة الاستفسار – ومنهم من دعا ربه ليُهلك قومه , أبناء جلدته , لأن رسالته أهم من التملق للمزاج الجماهيري , وكم من آية ونص وتصريح مقدس سرد لنا تلك القصص المهولة عن نزول العذاب , واندثار الأمم , وبعد عدد لا بأس به من الجمهوريات المقدسة يصرح جلال الدين الرومي معلقاً على النص القرآني المتعلق بهذا الموضوع , يقول النص القرآني : ( لا شرقية ولا غربية <2> ) .. يعلق الرومي على هذا النص قائلاً( لا شرقية ولا غربية .. وليست في أي مكان ) , وعلى أقل تقدير توصيفي فأن الجمهوريات المقدسة التي ظهرت حقاً لم تقلب الدنيا بشكل جوهري , وبالنسبة للجمهورية المنتظرة فأن الواقع الجماهيري لا يبشر بخير , وإذا كان شرط قيام الجمهورية أن تملأ الدنيا جوراً وظلما ً, فقيامها غير مؤكد والوسط المنتظر لها قد امتلأ بالجهل والوهم والتخلف , وأدعوكم مرة أخرى للاستفسار , والاستفسار هذه المرة نوجهه للواقع الجماهيري , وكل ما يخص العلامات والشروط يُشير لقرب تحقق النبوءة التي طالما استجار بها الناس من فرط ما أصابهم من نير التسلط والعبودية السياسية , وجهلهم المتراكم , والتأزم الاقتصادي المستمر , وعنف الحاكم الناقم , وآخرها من الدين الذي وجدوه إما منحازاً لنفس فكرة التسلط , أو منطوياً على نفسه ونصوصه ورواياته التنبؤية , وراهبنا الثائر طراز من رجال الدين الذين تصدر حولهم مؤلفات تتصدرها عبارات كهذه :

( إلى ذكرى

أولئك الذين استشهدوا في سبيل الدفاع عن مبادئهم <3> )

….. الراهب الثائر هو عنوان توصيفي لحياة الراهب الايطالي جيرولامو سافونارولا , المولود في فرارا سنة 1452 , والكتاب الذي بين يدي يوضح الفترة التي عاش فيها سافونارولا  في ايطاليا , حيث واجه سلبيات ذلك الزمان في تلك البقة من الأرض , بدايةً لم يرض عن الطاعة العمياء التي فرضت على الطلاب من قبل الأساتذة , إذ تأثر بجده الذي علمه أن ( العقل والتجربة  هما الطريق الوحيد للوصول للحقيقة ), ونُذهل حين نعرف أنه برغم شخصية سافونارولا القوية والواثقة بذاتها والماهرة في النقاش فأن– صحته – تتعرض لأثر بالغ من جراء الجهد المبذول في المحاججة ومقاومة الأنماط الاجتماعية السائدة فأضطر إلى ترك دراسته بالجامعة ( ورجع إلى منزله وهو مقتنع بأن ليس في المجتمع ما يمكن أن يفيده <4>) , أنها عبارة جد بليغة ومؤثرة وأساسية في موضوعنا الذي نكتبه الآن ( ليس في المجتمع ما يمكن أن يفيده ) , أن راهبنا الايطالي يُعبر عن الشخصية المليئة بالمشاعر والأحاسيس , وأن  تمادت به , فهذه هي حقيقة النفس الإنسانية حتى وأن طوقها الدين بهالة مشعة , سافونارولا  قد أحب , عشق فتاة , ورغم أنها من عائلة نبيلة إلا أنها غير شرعية , ورغم ذلك أحبها , وهذا ما يوضح شيء من الميول الرومانسية له , فنزعة التغيير ليست حكر على الإرادة , فقد تتغلغل إلى ما وراء الإرادة , وستصوغ تلك الشخصية الثورية  , فالنار ليست لهب فقط , أنها لهب واحتراق ورماد , وعندما نستفز متديناً بحسب ما جئنا على ذكره في مقدمة الموضوع وما بعد المقدمة , فأن أمثال سافو  سيفيدوننا كثيراً في ردهم على السؤال والاستفسار , لأنه صادق الانفعال , صادق في ردة فعله الانفعالية < ضد > مجتمعه , وهذا على عكس ردة الفعل التفاعلية < مع > المجتمع , وبين الضد و أل مع مسافة شاسعة جداً , جداً , فأن تكون ثائراً غير أن تكون متأثراً, وكم من تماهي رافق أماني المجتمعات ولم يسفه ما في أحلامها من أحلام مجردة وكأن كأس السم التي تناولها سقراط لم تأتِ أُكُلها, وأنا أتحدث عن ما في الأحلام من أحلام مجردة , ولا أقول أن الفكرة < النبوءة – المنقذ > فكرة لقيطة < حاشا للمقدسات والنصوص المقدسة والرموز المقدسة > ولكن تواصلنا كان لقيطاً في نظر الفكرة , أي أن هذا التواصل ظل غريباً عن معنى الفكرة أو لنقل أن المفهوم < الذي يكتنزه المجتمع > ظل غريباً عن مصاديق الفكرة < المصاديق الخاصة بشروط التواصل مع الفكرة > , ومقولة : ( لم يزل الإسلام فكرة في ذهن العرب ) ليست ببعيدة عن معنى غربة التواصل وشذوذه عن أصل الفكرة , وقد نجد قرينة < وأن كانت سياسية > هذه الغربة والشذوذ في قول لجان بول سارتر عن الديمقراطية والمجتمع , حيث يقول : ( لو وُجِد شعب من الآلهة لكانت حكومته ديمقراطية , فحكومة بالغة الكمال كهذه لا تلاءم الآدميين < 5 > ) .. !!!!    …… يهز هذا القول عمق اعتقادنا الديني , فالنظام الديمقراطي ؛ وهو نظام وضعي ابتدعه عقل الإنسان كنظام حكم للمجتمع يظل بعيداً عن أن يتحقق في المجتمع البشري , ويظل نظاماً يتطلب شعباً من الآلهة , ونحن نتحدث عن نظام يفوق ما تطرق له الفيلسوف الفرنسي روسو , وليس هناك من متدين صادق في تدينه يقول بأفضلية النظام الديمقراطي على النظام السماوي < ملكوت الله على الأرض > وإذا كان النظام الأرضي مستحيل التحقق والقيام فكيف بالنظام السماوي وقيامه في أرضنا , بل كيف نفترض أنه سيُقام في مجتمعنا الذي يفتقر لأبسط مقومات استقبال وتقبل هكذا نظام , ولهذا تجدني ذهبت إلى قصة تتحدث عن راهب ثائر , إلى سافونارولا , إلى رجل دين يتقمص البشر وليس الملائكة والرموز الكاملة , فمشكلة العالم مشكلة بشرية وليست مشكلة إلهية ( وهذا القول قريب مما قاله عبد الرزاق الجبران في كتابه : جمهورية النبي< 6 >) , وبالفعل ؛ فأن مشكلة العالم مشكلة إنسانية تخص الإنسان وتتعلق به وليست مشكلة تتعلق وتخص الله , وكل متدين يؤمن بأن الله لا مشاكل لديه مع ذاته , ولا مع عرشه , ولا مع ملائكته , ولا مع محيطه الداخل ضمن قاب قوسين أو أدنى .

(( أن إرادة الله هي محو آثار الماضي , وتجديد نظم فلورنسا , بحيث لا يبقى شيء من العادات والقوانين ونظم الحكومة القديمة . . .  أيا فلورنسا إنني لا استطيع أن أعبر لك عن كل ما أشعر به نحوك . وإذا استطعت أن أذكر كل ما عندي , فسترون مرجلاًمغلقاً مملوءاً بالبخار المغلي , الذي يحاول أن يجد مخرجاً . . . أن الملكية المطلقة هي أفضل نظام حكومي تحت الحاكم العادل < 7 > , ولكن حكم الطغاة في ايطاليا يؤدي دائماً إلى أسوأ النتائج , وإن أفضل نظام يلائمنا هو الحكومة الوطنية الشعبية . وويل لفلورنسا إذا اختارت طاغية يستبد بالسلطة فيها . وإن الرؤوس مصدر الشرور التي تقضي على الإمارات . وأن كلمة طاغية تعني الرجل الشرير الدنيء , المغتصب لحقوق شعبه  . . . .  أجعلوا هذا المبدأ أساساً لحكومتكم الجديدة. لا يكسب أي شخص أي فائدة بغير إرادة الشعب كله, الذي له الحق وحده في اختيار الحكام وإصدار القوانين < 8 >)).

نتطلع إلى هذه الكلمات التي تصدر من راهب , رجل دين , يتعامل مع الواقع , واقع الحياة والناس , واقع البشر والسياسة ونظام الحكم , واقع مشكلة العالم بما يطرحه واقعاً, ومن ضروريات الحياتية للبشر الدولة , ونظام الدولة , ونوع مواطني الدولة , وطريقة تفاعل رجال الثقافة والدين مع الدولة ونظامها ومواطنيها , والمعروف أن شقي التحكم بثقافة المواطنين هما المعرفة والدولة , إذ تتمثل المعرفة بالأدب والفن وعناصرها الأخرى , أما الدولة وسطوتها المؤسساتية والسلطوية فهي الأكثر تأثيراً بالمواطن , وهي المتحكم الرئيسي بثقافته , ومن عناصر الثقافة ينبري العنصر الديني وما فيه من محتويات عميقة ليست كلها تستحق الاعتناق , أو التصديق , بل أن منها ما يتطلب أصلاحاً ضرورياً لإعادة الاستقامة إلى فهم المواطن , ويبدأ الإصلاح من تصحيح البنى السياسية التي تشكل هرم الدولة , وهذا التصحيح من واجب النخب , وحينما يتعلق الأمر بالقضية الدينية فأن رجل الدين < ومؤسسته > هما من يتكفلان بإطلاق ثورة الراهب , فبعض مشاكل المواطنين في دول معينة تتصدرها المسألة الدينية , وهنا يصير من أولى الضروريات الملحة أن يشرع الراهب بصدم اعتقادات المجتمع الموهومة , أو التي لا تستقيم مع شروط المنطق والمفاهيم القويمة , ونرجع إلى سافونارولا لنرى ما يقوله بهذا الخصوص , وما يرتئيه : ( وفي بحثه < ملخص الفلسفة الخلقية > نجد سافونارولا يتتبع خطوات توماس أكويناس مع آراء الأفلاطونية المحدثة . فيقول أن غاية الإنسان هي السعادة , وهي لا تقوم كما يرى الفلاسفة الطبيعيون في عصر النهضة على العلم النظري , ولكن رؤية الله . وفي هذه الدنيا لا يكون للإنسان إلا ظل خفيف من السعادة وفي الحياة الآخرة يمكن الإنسان أن ينعم بالسعادة الحقة في أكمل صورها . ورأى سافونارولا في الفلسفة كما رأى في الدين , ضرورة قيام الإنسان بالأعمال الصالحة لبلوغ السعادة . فالسعادة هي جزاؤها . ويقول أن الإرادة الحرة هي التي تفرق بين الإنسان والحيوان . وهو لا يعترف كالكثير من معاصريه بأن إرادة الإنسان تتأثر بقوى خارجية. فهو يرى أنها لا تتأثر مثلاً بالكواكب ولا بالعواطف ولا حتى بالله ذاته. والخالق يجعل الكائنات تسير في نطاق قوانينها الطبيعية. والله يترك إرادة الإنسان حرة حتى لا يحطمها . ويرى سافونارولا أن الإنسان ينبغي أن يظهر في كلامه وأفعاله كما هو في الحقيقة , أن لم يكن أقل من الحقيقة , لا أكثر منها . وينبغي أن يكون في عنق كل إنسان أن يُظهر الحقيقة لجاره. . . . . . .    ولا يوافق سافونارولا على الإسراف في محاكاة القدماء ويعد المقلدين أشخاصاً ضيقوا عقولهم وقيدوها بسلاسل الماضي , حتى أنهم لا يقولون إلا ما قاله القدماء , ويرفضون ما لم يقله القدماء . وفي العصر الذي أشاد فيه الناس بآثار القدماء رفع سافونارولا صوته ضد المبالغة في المحاكاة والتقليد . ودعا إلى استخدام الإنسان عقله وتفكيره الخاص . وبالرغم من أنه لا يُعد من أصحاب المذاهب الفلسفية المبتكرة , إلا أنه كان في طليعة الذين حرروا الفلسفة من تأثير القدماء < 9 > ) .

نرى في سافونارولا رجل دين وسياسة وفلسفة ومجتمع , فهو لم يتخلف عن معتقده الديني وما يقتضيه من روحانية عالية , وكذلك لم يغب عن الدنيا , وواقع الحياة البشرية وواقعيتها , وعبر عن إيمان عقلاني يتتبع الواقعية في مدارها الحقيقي , الوجودي , فليس الإيمان حكر على التصديق بالعالم الآخر , فلا يمكن نسيان الإيمان بالإنسان والقيم التي ترفع من شأنه وكرامته ووعيه في دنياه التي يعيشها , وأن التعويل على مستقبل قادم يحمل لنا سعادة كاملة لا عيوب فيها ليس غير أمنيات تختلج بنفوس عاجزة عن تغيير دواخلها , فإن كان التعويل على خير كبير آت يعطي مسوغاً لتدمير الدنيا وأهلاك الناس وإحراق النظام وقتل المخالفين وضرب كل شيء فلسوف تندثر الحياة قبل تحقق أي مجيء أو ظهور , والنخب المثقفة والسياسية والدينية تعلم أن الإنسان هو من يُعمر الدنيا ويُغير فيها , وتوجب على مجتمعنا أن يراجع نفسه وميوله وثقافته وما شابها من خلل وشوائب وتوقعات لا تتناسب مع الواقع المرجو , فكثر من العوام المتدينين يجزمون بتحقق نبوءات مقدسة , وهم مؤمنين بها إلى درجة التفاني في تصديقها , وانتظارها , ويتصدون لكل من يحاول مناقشة صحتها من عدمه , ويرفضون النقد الذي يوجه لهم – وليس للنبوءة -وكأنهم بفعلهم هذا يستدرجون عطف الله ونصره المبين , نصر ينالهم بغض النظر عن مستوياتهم الفضلائية والسلوكية الاجتماعية وحسن المواطنة وتحمل مسؤولية حمل الفكرة الصحيحة , أو تصحيح الفكر والمفاهيم , وما فيهما .. لا بأس بإيمان يشدنا إلى يوم من بقية الله , ولكن دعونا أولاً نثبت جدارتنا بالنهوض بنظام سياسي يسوس دولتنا المتهالكة ويضمن الحقوق لكل فرد فيها يحمل صفة مواطن , دعونا نعمر الأرض بعد خرابها على أيدينا , تلك الأيدي التي تبتهل لله وتدعوه ليمن بفتح قريب , فكيف يجتمع الخير ونقيضه بنفس اليد ؟؟. لا يمكن أن نقول عن شجرة أنها مثمرة وغير مثمرة في نفس الآن ….

بعد هذه الرحلة عبر السطور السالفة , ماذا نتوقع من ضيفنا الذي رجوناه أن يُجيب على استفسار المستهل :

(( ما أن تتمكن من استثارة انفعالاته حتى يشي بالحقيقة المرة , سيعترف أن مجتمعاتنا أبعد من كونها أرض خصبة لقيام نظام نموذجي يؤسس على أسس اعتقادية دينية , وحين المقارنة مع المجتمعات المتقدمة يظهر العيب جلياً …. ما عليك سوى جعله ينفعل حقاً, ينفعل بصدق , فهو أن أنفعل حقاً سيتحدث بلا محاباة , والغضب أحد المنافذ لمعرفة دواخل الإنسان , والإنسان ينفعل بصدق أن اكتوى شخصياً وبعمق إنسانيته بنار السلبيات والمترديات التي هيمنت على مجتمعه )).

المعجزة , نعم ؛ أنها المعجزة , نحن ننتظر معجزة بشرتنا بها نصوص وروايات وأحاديث مقدسة , وفي حومة انتظارنا نسينا أن نتعجل أصلاح ذواتنا , أنفسنا , مفاهيمنا , وفي اللحظة الحاسمة , سنكتشف بأننا حسمنا الأمر قبل مجيء اللحظة الحاسمة , ففي ليلنا البهيم الطويل كنا ننتظر القادم , وما تنبهنا أن زيت سراجنا لا يكفي , وتأتي الساعة الأخيرة من الليل , ونحن نائمون بقرب أسرجة مطفأة , وبقربها نفوس مطفأة …….  

 ———-                                                                         

1-  ولا بالمال السياسي , ولا بصوت الناخب . . .

2-  سورة النور 35.

3-  كتاب الراهب الثائر , ترجمة حسن عثمان , دار المدى للثقافة والنشر .

4-  نفس المصدر السابق , ص 22 .

5-  جان جاك روسو , العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق السياسية , ترجمة عادل زعيتر , القاهرة , دار المعارف ,1954 , ص 16 .

6-  نص العبارة الواردة في الكتاب هي: ( لأنه ليس الله هو مشكلة الوجود.. الإنسان هو مشكلته ) .. كتاب جمهورية النبي.. عودة وجودية , عبد الرزاق الجبران , ص 12 , دار نون للنشر , طبعة 2012 .

7-  أرجو مراجعة مقالي المعنون : الحاكم الفاصل , بجزأيه , المنشور على شبكة الانترنت , مع الأخذ بنظر الاعتبار مقولة جان جاك روسو الواردة في الاستشهاد الخامس , وحول هذا الموضوع أجد من الملائم النظر في النص التالي : ( فالحكومة المثالية هي مزيج من عناصر الملكية والارستقراطية والديمقراطية ) ويكتمل هذا النص بالنص التالي : ( وفي الحقيقة كانت البندقية هي الحكومة الوحيدة في ايطاليا التي استطاعت أن تخلص من الفوضى الداخلية التي تعرضت لها الولايات الإيطالية الأخرى , والتي ازدادت قوتها وارتفعت سمعتها , دون أن تخضع لحكم الطغاة . وإن اقتباس فلورنسا العنصر الديمقراطي في دستور البندقية , يشبه اقتباس فرنسا عن الدستور الإنجليزي في عهد الثورة الفرنسية الكبرى ) .. النصين وردا في كتاب الراهب الثائر, ص 80 .. وأنا ذكرت النصين لأغراض خارجة عن صلب الموضوع, ولكنها لمحة عرضية يجوز درجها ضمن مجمل الإصلاح….

8-  الراهب الثائر, ص 81 – 82.

9-  نفس المصدر , ص 49 – 50 .