22 ديسمبر، 2024 8:16 م

تخفيفاً عن كاهلي عبء الضيق النفسي الذي ينتابني وأنا جالس لوحدي محاصراً بين جدران غرفتي وأمواج الحياة التي تتقاذفني بين مد وجزر، اثرت الخروج والاختلاط بالناس عسى أن أجد ما يشرح صدري. لم اكن قد حددت وجهتي إلا انني وفي نهاية مطاف مسيرتي وجدت نفسي وسط مدينة كركوك حيث رأس الجسر الذي يربط صوبي المدينة الكبير والصغير.
ابتداءً من بداية هذا الجسر الذي يسمى بجسر الشهداء وطرفي الجسر المعروف عند العامية بـرأس الجسر، تجد نفسك بين زحام الباعة الذين يتدافعون للحصول على مربع أرض بمساحة متر مربع واحد ليعرضوا عليها بضاعتهم. عدد الباعة أكثر من عدد المارة والمتبضعين حتى ظننت لوهلة أن الناس كلهم يفترشون الأرض هنا لبيع ما يمكن بيعه واستحصال ألف دينار ثمن لفة الفلافل الذي يسد رمقهم عند ساعة الظهيرة مع استكانة الشاي الحار الذي قد يعدل مزاجهم المكتئب. باعة تقرأ في وجه كل واحد منهم حكاية أو حكايات تقرأها من عيونهم وإن لم يبوحوا بها بألسنتهم والجلي أنها المت بهم للغاية حتى دفعتهم لتجشم عناء الوقوف في هذا السوق في حرها وبردها. حكايات من تأليف الزمن أفرادها أناس قبلوا بها على مضض دون ان يكون لهم حق الاختيار.
في رأس الجسر تجد نفسك في ساحة حرب وأنت تحدق بعينيك حركة الباعة الواقفين على بضاعتهم، ينادون بأعلى أصواتهم مخاطبين المارة داعين إياهم للاقتناء منهم وهم يتدافعون للاستحواذ على هذا وذاك ويسارعون لقبض الثمن. البضائع من أسوأ المناشئ التي لم نسمع بها أبداً وكأنها خصصت لتستخدم لمرة واحدة فقط وكل حاجة بربع.
ما ان تسير حتى تصل الى الطرف الاخر من الجسر ناحية الصوب الكبير، هناك تلاقيك الروائح المقززة المنبعثة من الحيوانات الموضوعة في الاقفاص الحديدية والخشبية لغرض بيعها. حيوانات هي الأخرى تحدق أبصارها إليك وحال سبيلها يقول اشتريني واخرجني من هذا المأزق ولا تتركني فريسة الصيادين الذين لا يرحمون.
مجاور ذلك، سوق مكتظ فيه تباع الملابس الرثة القديمة. مواد قد لفظتها مستخدميها في اوربا لتبعث لنا بالجملة مرزومة بقيود محكمة تسمى لدينا بـ (البالة). ملابس مشققة ممزقة الاطراف اكل عليها صاحبها الاولي وشرب. بعضها لا تصلح حتى لمسح البلاط، لعب مكسرة، حقائب لم تعد تجدي نفعا وغير قادرة لحمل شيء يقتنيها أبناء هذا الوطن النفطي الذي يعتبر خزينه النفطي هو الثاني بين الدول النفطية في العالم. كومة ملابس قد صنفت بحسب جنسها، البنطلون والقماصل والتيشيرتات والقمصان والقوط كل على حده وقد التمت عليها الناس كما النحل على كومة سكر.
عربات خشبية مملوءة حتى آخرها بأنواع الفواكه المستوردة، يقف عليها شخص يكتب سعر البضاعة على ورق مقوى مشقوقة من علب الفواكه نفسها. ما أن طلبت منه شيئاً حتى سارع بوزن ما تريد لكن من غير المعروض أمامك دون أن يترك لك حق الاقتناء لترجع إلى البيت وتجد في جعبتك كل ما هو ماجن وطالح، فترمي نصفها وتأكل مجبراً الباقي المتبقي من الفاكهة المتهتكة.
عالم خاص تجده في هذا السوق وحالات افرزتها الحروب والويلات التي حلت بهذا البلد. لك أن تستنتج ما تعيشه الأسر في مدينة غارقة في الصراعات وتقلبها المواجع وتأخذها العبرات.
كنت قد قصدت السوق ليس بحثاً لشراء شيء ما بقدر ما كنت أبحث عن ابتسامة قد ترفع عني الهمّ والغم وتنسيني غبن الأيام، حتى انصدمت بمشاهد تراجيدية زادت الطينة بلة.
كان السوق أضيق من غرفة نوافذها مغلقة والمكان لا ينم عن أي أثر للحياة. ارجع الى البيت لأخلد إلى مضجعي شارداً من ضنك السوق ولهفة الشباب في البحث عن لقمة العيش.