23 ديسمبر، 2024 5:17 ص

ذو الكفل : نبي يستغيث

ذو الكفل : نبي يستغيث

سميت المدينة بكنيته – ذو الكفل – ، والكفل هي أجمل مدينة على الفرات ، بخضرتها اليانعة ونخيلها الباسق ، اما اسمه فهو النبي حسقيال ، قيل جاء مع السبي البابلي ، الذي عاد به نبوخذ نصر .. وقيل أيضا “ابن للنبي ايوب واسمه في الاصل بشر ، وقد بعثه الله بعد أيوب وسماه ذا الكفل ، لانه تكفل ببعض الطاعات فوفى بها” . ولعل اولى الاشارات التاريخية كما تقول مجلة السفير التي يصدرها ديوان الوقف الشيعي – امانة مجلس الكوفة – الى هذا القبر اي مرقد النبي حسقيال ، ما رواه نصر بن مزاحم المنقري في كتابه صفين قال ” مرت جنازة على علي أمير المؤمنين وهو في النخيلة ، فقال ما يقول الناس في النخيلة ، فقال ما يقول الناس في هذا القبر ، وفي النخيلة قبر عظيم ، يدفن اليهود موتاهم حوله ، فقال الحسن ابن علي : يقولون هذا قبر هود ، لما ان عصاه قومه ، جاء فمات هنا ، فقال الامام علي ، كذبوا لانني اعلم به منهم ، هذا قبر يهوذا بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم” .

وعلى مختلف الرويات فان المكان مهم ، وهو اثر تاريخي وديني من الاثار التي يغنى بها تاريخ العراق القديم ، والمكان أي مرقد النبي حسقيال ، قريب جدا من النخيله ، او جامع النخيلة ، وكلاهما أثر من أثار التاريخ القديم ، جمع بين رموز ديانتين هما اليهودية والاسلام ، بل الملة الحنيفية التي تجمع الديانات ، فهو رمز اذا لثلاث ديانات ، وان كانت النخيلة رمزا للتراث الاسلامي ، ولا شك في ان جمعا من المتدينين وغير المتدينين في كل انحاء العالم يتوقون الى زيارة هذا الاثر ، ولو سمحت الأوضاع الامنية والسياسية لكان ذو الكفل يؤمه الاف الزائرين من اقاصي الارض ، ولاصبح جزءا من التراث العالمي في الموسوعات التراثية العالمية وفي منظماتها الفاعلة ، ، ولحصل العراق فضلا عن السمعة المعنوية الكبيرة على منفعة اقتصادية هائلة ، لا تفرط الامم الحية بها ، وتبذل ما وسعها الجهد للحفاظ عليها . وفي الوقت الذي يجب ان يكون وجود مسجد النخيلة لصق مرقد النبي ذي الكفل عاملا على تجاور تاريخي مهم ومحفزا لترسيخ هذا الاثر الذي لا يقدر بثمن في العراق ، فان دائرة الاوقاف

او جهة اخرى قامت ببناء مسجد ضخم في النخيلة ، مسجد حديث بعشرات الايوانات والقبب ، يؤمه الناس للصلاة ، ولتذكر سيرة الامام علي الذي مر من هذا المكان . ولضخامة المسجد فقد اخفى مرقد النبي حسقيال بحيث لا يستطيع الزائر الوصول الى المرقد الا بعد اجتياز الجامع ، ويقال له هذا مرقد النبي حسقيال ولا يجد غير جامع ضخم كأي جامع اخر ، واصبح ذو الكفل ساحة خلفية له .

وبالعودة الى التاريخ تقول المجلة انفة الذكر ، لا نعلم على وجه التحديد تاريخ بناء المرقد ، كان موجودا في ايام المغول ، اذ ان احد الدعاة المسلمين نصب في صحن مشهد ذي الكفل منبرا واقام فيه الجمعة والجماعة ، يتحدث الشيخ حرز الدين عن مشاهداته للمرقد فيقول ” مرقده في بر ملاحه (الكفل) ، له حرم واروقة سميكة البناء مرتفعة الدعائم قديمة الانشاء ، تظلل قبره قبة قديمة مخروطية الشكل ، وكان رسم قبره شباكا من الصفر الاصفر ، والى جنبها حجرة مظلمة ، يزعمون انها مقام الخضر ، اما اليوم فان الشباك لا وجود له ، ويوجد بدلا منه صندوق من خشب الصاج العادي ، مغطى بقطعة من القماش ، وتعلو المرقد قبة عالية الارتفاع ، عشقت بالازهار والورود ، ولكن علاها الغبار ، حتى اصبحت تلكم النقوش صدئة ، فلم تعد الالوان تتميز فيها بشكل واضح ، يشكل مرقد ذو الكفل الضلع الشرقي للبناء ، اما الاضلاع الثلاثة الاخرى فهي عبارة عن غرف قديمة البناء ، لا يستطيع الشخص الدخول اليها من ابوابها الا بانحناءة بسيطة ، ويتوسط هذا المشهد ساحة واسعة تشمل حديقة بسيطة وممرات” . فهل الذي يزور ذا الكفل يجد كل هذا او بعضا منه ، لا شك في ان قسما كبيرا من الاثر قد تهدم او سرق او ضاع لسبب ما ، لكن الباقي هو الجزء الضئيل فقط من المرقد ، فالى عهد قريب والى سنوات كنا نشاهد المرقد والفضاءات المحيطة به ، ويمكن النظر اليه ، وانت راكب في السيارة من بغداد الى النجف ، او من الحلة الى النجف ، فمشهده مألوف فما الذي حصل ؟ .

كما اسلفنا بني مسجد ضخم لصق المرقد ، ويبدو ان هذا الجامع قد استهلك كل المساحة المحيطة بالمرقد ، ولم يبق منه الا جزء صغير ، اصبح بمثابة ساحة خلفية للجامع الحديث ، وهو موقع النخيلة ، اذ مر به الامام علي وهو عائد من صفين . وهذا الاثر التاريخي الفني والديني كان ينبغي ان تتولاه وزارة الثقافة وليس الاوقاف وان لا تتصرف فيه الاوقاف على انه اثر اسلامي ، وكان يمكن ان يحافظ على الاثرين معا ، اي مرقد النبي حسقيال ، وما تبقى من

جامع النخيلة القديم ، فيسور الاثران التاريخيان بسور حتى يتمكن الزائر من رؤية التاريخ حيا فيهما ، لا ان يحول النخيلة القديم الى نخيلة جديد ، ويصبح جامعا عاديا كأي جامع ، واذا كانت الجهة التي بنت الجامع تريد ان تبني جامعا للصلاة اما كان من الاولى ان يبنى الجامع الحديث على مسافة ، ويبقى الاثر التاريخي كما هو بحجارته القديمة واسطواناته وقبابه ، كان في داخل المرقد مرشد سياحي ، يتهرب من الاسئلة التي يطرحها الزائرون عن المرقد وتوجد في اعلاه كتابات بالعبرية قديمة , يقول المرشد ان كل هذه الكتابات لا قيمة لها ..حاولنا تصوير هذا الكتابات فرفض رفضا قاطعا ، وحاولنا اقناعه فلم يستجب ، وعلى بعد امتار من الموقع توجد ابواب اربعة قديمة جدا ، مصنوعة من الخشب الضخم ، ركنت على جدار في زاوية المبنى ، واردنا تصويرها فرفض ,ومنعناا من التصوير على الرغم من ان هذا العمل غير ممنوع في كل المزارات التي زرناها ، وقد فسر بعض الزائرين انهم يمنعون تصوير الكتابات العبرية حول المرقد من اجل مسحها او اتلافها لاحقا، وكذلك الابواب ..اذ ان هذه الاثار ينبغي ان تغلف ليحافظ عليها وتكون متعة للزائرين .

تخرج مزهوا من زيارة عابرة او مقصودة لمرقد النبي ذي الكفل ، ويعتصرك الالم لما تشاهده من اهمال وعدم اكتراث وكأن المطلوب هو القضاء على حضارة العراق الوارفة ,، فذو الكفل تراث يهودي وانساني واليهود جزء من المجتمع العراقي وقد اسهموا في نهضته الفكرية والاقتصادية في سنوات انبثاق الدولة العراقية الجديدة ، بل هو تراث عراقي أصيل يحكي قصة حضارة العراق .. على بعد اميال قليلة من ذي الكفل ، ترى طودا شامخا وسط الصحراء يرتفع عن الارض بشكل هندسي ، اكثر من عشرين مترا ، مع قاعدة متسعة ، وحوله صخور وأحجار قديمة بعضنا قال انه بقايا الجنان المعلقة لبابل ,وقال اخر انه قصر نبوخذ نصر ، وقال اخرون غير ذلك . وكالعادة فان المكان مهمل تحيط به المخلفات ، هذه الامكنة هي هوية العراق التاريخية ، لكن الاهمال الشديد كما القضم المنظم لها , قد يعيد الذاكرة الى حكاية طالبان مع تماثيل بوذا . لابد من الاشارة في هذا السياق الى مقام النبي صالح وميلاد النبي ابراهيم وغيرهما في المنطقة نفسها ، وحين تزورها تجد جوامع حديثة بنيت قبل سنوات ، وبذلك فقدت هذه الاماكن قيمتها التاريخية التراثية ، وقبل بناء الجوامع على هذه الارض ، لابد ان الاثار القديمة قد ازيلت ، ويحسب الذين فعلوا ذلك انهم يحسنون صنعا ! غير ان الامر المقلق ، ان الحكومات المتعاقبة في العراق لم تستطع المحافظة على هذا الاثر

التاريخي المهم ، فاهمل اي اهمال ، وليس بعيدا ان يلحق مرقد النبي حسقيال (ذي الكفل) بسابقاته ويحول الى جامع حديث يؤمه الناس للتبرك والصلاة ، ويقضى قضاء مبرم على كتاباته وشواهده الكثيرة ، اما لجهل مطبق بقيمة هذه الاماكن ، او لهوى ايديولوجي ، او لحقد على العراق وحضارته ،