22 ديسمبر، 2024 8:18 م

ذوو الهمم وإنجازات رفعت أعلام بلدانها خفاقة فوق القمم !

ذوو الهمم وإنجازات رفعت أعلام بلدانها خفاقة فوق القمم !

وأنا أتابع بفرح غامر خبر إحراز البطلة البارالمبية العراقية نجلة عماد ، الوسام الذهبي في منافسات تنس الطاولة وتغلبها على اللاعبة الأوكرانية مارينا بثلاثة أشواط مقابل شوط واحد بدورة الألعاب البارالمبية في باريس 2024، مع حصول نجلة قبل ذلك على الميدالية الذهبية بدورة الألعاب البارالمبية الآسيوية 2022 في الصين، برغم فقدانها لساقيها علاوة على ذراعها الأيمن عقب تفجير ارهابي استهدف سيارة والدها عام 2008 ولما يتجاوز عمرها آنذاك 3 سنين بعد ، لتلعب نجلة بكل ثقة واقتدار وتنافس على الميداليات بساقين وذراع كلها اصطناعية ، وبينما كنت أتابع كعادتي عن كثب أخبار البطل العراقي البارالمبي جراح نصار ، الحاصل على العديد من الميداليات الملونة في أبرز البطولات العربية والآسيوية والدولية ومن أهمها ذهبية بارالمبياد البرازيل 2016، وفضية بارالمبياد طوكيو 2020،قبل حصوله على برونزية بارالمبياد باريس 2024 برياضة دفع الثقل ، وكذلك حال البطل البارالمبي ولدان نزار، الحاصل على الوسام البرونزي بمنافسات رمي الرمح في  دورة الألعاب البارالمبية 2024،فيما تمكن فريق المبارزة بأبطاله البارالمبيين الثلاثة كل من عمار هادي،وزين العابدين غيلان،وحيدر علي، من حصد الميدالية الفضية ضد المنتخب الصيني في ذات البطولة البارالمبية في باريس وفقا لإعلام اللجنة البارالمبية العراقية.

أقول بينما كنت أتابع كل هذه الانجازات الرائعة ، وتلكم البطولات البارالمبية الخالدة لذوي الهمم العرب عامة، والعراقيين خاصة،ممن يضم اتحادهم البارالمبي

14 اتحاداً رياضياً في ألعاب القوى وتنس الطاولة ورفع الأثقال والسباحة والمبارزة وكرة المكفوفين وكرة السلة على الكراسي المتحركة والكرة الطائرة من وضع الجلوس والجودو للمكفوفين والقوس والسهم والرماية وألعاب الصم وفقا لوكالة الانباء العراقية ، استدعيت الى ذاكرتي الحبلى حجم الجرائم النكراء ، وبشاعة الأفكار العنصرية الهوجاء، والنظرة الدونية الرعناء التي سبق للفاشيين والنازيين انتهاجها ضد هذه الشريحة الراقية من بني البشر، وكلي ثقة بأن كثيرا من القراء الأعزاء لم يتنام الى علمهم يوما أية معلومة عن برنامج ” T-4“النازي اللا انساني المسمى جزافا بـ” قانون القتل الرحيم ” وغايته كانت التخلص عن طريق غرف الغاز والإهمال الطبي المتعمد من جميع المعاقين بدنيا وذهنيا في كل من ألمانيا والنمسا لأن ذوي الاحتياجات الخاصة ومن وجهة النظر النازية إنما يشكلون عبئا وثلمة في نقاء الجنس الآري ولأنهم يتقاطعون كليا مع قانون الانتخاب الطبيعي وفرضية البقاء للأصلح وللأقوى حفاظا على الأنواع لتمثل الجانب المظلم وغير المعلن للابعاد العنصرية بعيدة المدى من نظرية التطور لداروين والتي سعت جاهدة ومن جملة ما سعت إليه الى تقسيم الجنس البشري أسوة ببقية المخلوقات وبما يشبه نظام الطبقات الهندوسي”أعلى وأدنى وخارج التنصيف” وبمعنى أدق وفقا لنظام الفارنا (= الطبقة ) و نظام الجاتي (= الفئة) الهندوسي الذي قسم البشر جزافا الى” فئة البراهما العليا  تليها تنازليا فئات الكشاتريا والفايشيا والسودرا”فيما أخرجت” فئة الداليت”، ممن يعرفون بالمنبوذين هندوسيا خارج نطاق الفئات البشرية المعتبرة أساسا” ولأن المعاقين لا يخدمون”الرايخ الثالث” أو الامبراطورية الالمانية، ولا ينخرطون ضمن قطعات”الفيرماخت”أو القوات المسلحة الالمانية ، لتكون النتيجة النهائية لكل هذا الهراء الايديولوجي هي مقتل 200 ألف معاق – نمسا ألماني-  عمدا بين عامي 1940 – 1945!

الحقيقة أن ما فعلته المانيا عبر برنامجها T-4  هو ذاته الذي قامت به الوحدة اليابانية الفاشية رقم (731) يوم كانت تستخدم الأسرى والنساء الحوامل والمعاقين من منغوليا والصين وشبه الجزيرة الكورية كفئران تجارب سرية  لمعرفة مدى تأثير الاسلحة الكيماوية والجرثومية واختبار تأثير شدة الجوع والعطش على بني البشر منذ عام 1936 وحتى استسلام اليابان عام 1945 و النتيجة هي مقتل 10 آلاف انسان في تجارب طبية وحشية ولا اخلاقية ولا انسانية لاسيما وأن قائد الوحدة (731) هو طبيب وضابط ياباني فاشي اسمه شيرو ايشي ! وهو عين ما فعلته فرنسا الامبريالية بالاشتراك مع الكيان الصهيوني اللقيط  خلال تجاربهما النووية المشتركة “اليربوع الأزرق والأبيض والأحمر والأخضر ” على الاسرى الجزائريين في جنوب غرب الجزائر .

ولاشك أن ما ما صنعته فرنسا الامبريالية ، وألمانيا النازية، واليابان الفاشية بالمعاقين هو عينه ما سبق للرومان والاغريق فعله بأمثالهم بصفتهم”أرواح شريرة”يتحتم التخلص منها و تحييدها على حد زعمهم ، والأعجب هو أن الفيلسوف اليوناني أفلاطون والذي يصاب بعض مثقفينا في شارع المتنبي بزيادة في دقات القلب وقشعريرة جسدية ، مصحوبة بارتفاع ضغط الدم  وتنميل الأطراف العلوية والسفلية وارتفاع معدل الادرينالين بمجرد ذكر اسمه أمامهم، كان يدعو في جمهوريته – اللا فاضلة – الى التخلص من المعاقين ونفيهم ومنعهم من التناسل والتكاثر والزواج خشية إضعاف اليونان ومجتمعها وجيشها على حد وصفه !

 

حضن أمي ووطني

 “من حضن أمي كُبَل للكرسي اجيت ..كبرنا واﻷيام تمشي وما مشيت !” ما تزال تلكم الكلمات العذبة  التي تغنى بها الشاعر الشعبي الشاب المقعد على كرسي المشلولين حسن الشيخ هادي ، قبيل أستشهاده بتفجير ذي قار الارهابي عام 2017 حية في الذاكرة الجمعية للعراقيين على اختلاف طوائفهم ومكوناتهم ، فيما ستظل إبتسامات إمرأة العام 2016 وأيقونة ذوي الإحتياجات الخاصة العراقية رسامة القدم جنات الجميلي ،وقد توفيت قبل أن ترى معرضها التشكيلي الشخصي الذي أقيم في العاصمة اليابانية طوكيو وحقق حضورا ﻻفتا تجدد حزنا ، تستدر دمعا، تنكأ جرحا غائرا لم يندمل بعد وبالأخص كلما حقق منتخب البارالمبية العراقي أوسمة ملونة إعتاد على تحقيقها في جميع البطولات الدولية والعربية وقد حصد 20 وساماً ملوناً خلال الدورة الاسيوية في الصين عام 2010 ، فيما حصل على 31 وساماً  في الدورة الاسيوية التالية عام 2014 في كوريا الجنوبية ، أما خلال الدورة الاسيوية التي اقيمت في اندونيسيا عام  2018 فحصل العراق على 20 وساما ملونا بينما أحرز أبطال البارالمية العراقية لقب بطولة غرب آسيا في دورة دبي 2017 ، ودورة عمان 2019 .

ولكن برغم الفرح الغامر بالفوز في كل مرة إلا أن الاسئلة الحائرة سرعان ما تعاود الظهور لتؤرق ليلي وتقض مضجعي ذاك أن بلدا كالعراق لايكاد يخرج من حرب عبثية حتى يدخل في أخرى أشد منها ضراوة  ليس فيه مصانع معتبرة للاطراف الصناعية، وﻻ للكراسي المتحركة ، وﻻ وسائل حديثة لخدمة المكفوفين والصم والبكم ومرضى التوحد وضحايا متلازمة داون والمرضى النفسيين وشديدي العوق وضحايا التقزم والتشوهات الولادية وأعدادهم تفوق الـ 3 ملايين ، لايوجد فيه نواد رياضية أنموذجية كافية مخصصة للبارالمبيين حصرا وكلنا سبق لنا وأن شاهدنا البطل جراح نصار ، وهو يتدرب في باحة داره المستأجرة ، وبما يعد بمثابة كارثة الكوارث ، وآفة الأفات ولاسيما مع ضعف تفعيل فقرات ومواد قانون رعاية ذوي الاعاقة والاحتياجات الخاصة رقم (38) لسنة 2013 والذي يعرف ذوي الاعاقة بأنهم ” كل من فقد القدرة كلياً أو جزئياً على المشاركة في حياة المجتمع أسوة باﻵخرين نتيجة إصابته بعاهة بدنية أو ذهنية أو حسية أدى الى قصور في أدائه الوظيفي” علما أن معاهد الرجاء المتخصصة برعاية المعاقين ذهنيا وعددها 17 معهدا في عموم العراق، ومعاهد الأمل المتخصصة برعاية الصم والبكم وعددها 22 معهدا، ومعاهد النور وعددها 5 معاهد لرعاية المكفوفين إضافة الى معهدي السعادة والمنار لرعاية الأطفال المعاقين حركيا، ومعهدي الحنان لرعاية الأطفال شديدي العوق، احدهما في بغداد والآخر في كربلاء ﻻ تفي بمجملها بالغرض ولو بالحد اﻷدنى ﻷنه وكما يقول المثل العامي -الشك كبير والركعة صغيرة – وعلى قول الشاعر قديما :

متى يبلغ البنيان يوما تمامه …إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم ؟!

 

أعلام الإنسانية وأيقوناتها

كيف لا يكون هؤلاء الضعفاء – الخارقون وأمثالهم أعلاما للانسانية وأيقونات لها  وقد لقنوا البشرية عبر التاريخ دروسا في قوة الإرادة لاتلين، الألمان يفاخرون ببيتهوفن سيمفونياته التسع التي ألف أروعها وهو أصم لا يسمع ، محمد بن سيرين المعروف بتأويل الرؤى وتفسير الأحلام كان مصابا بالصمم إلا أنه بلغ من العلم ما دفع الشُعبي ليقول فيه (عليكم بذلك الأصم)، مصطفى الرافعي الملقب بمعجزة الأدب العربي كان أصما، العداء الأفريقي أوسكار بيستوريوس، كان مبتور القدمين ، السباح تيرينس باركين، الحاصل على الميدالية الفضية في دورة الألعاب الاولمبية 2000 لا يسمع منذ ولادته، الأمريكية، مارلا رانيان، فازت بـخمس ميداليات ذهبية في دورة ألعاب المعاقين ودورة أثينا 2004، وهي كفيفة ، النجم المصري إبراهيم حمدتو، الذي أذهل العالم بقدراته في منافسات دورة الألعاب البارالمبية 2016 في العاصمة البرازيلية وهو يلعب تنس الطاولة بفمه وقدمه، وقائمة المشاهير والعباقرة من ذوي الاحتياجات الخاصة وفي جميع المجالات طويلة جدا وﻻ مجال لإستعراض عشر معشارها هاهنا !

 

سينما وإبداع

معظم اﻷفلام العربية والعالمية التي تناولت نوعا من أنواع الإعاقة ” الذهنية ، الحركية ، الحسية، النفسية ” قد حصدت أرفع الجوائز وحظيت بشهرة طبقت اﻵفاق وحفرت في الذاكرة والذائقة عناوينها وأسماء أبطالها بأحرف من ذهب بدءا بفيلم ( أحدهم طار فوق عش الوقواق) الحاصل على خمس جوائز أوسكار والذي يتحدث عن معاناة النزلاء داخل مستشفى للأمراض العقلية ، مرورا بفيلم ( رجل المطر ) الحاصل على أربع جوائز أوسكار والذي يتحدث عن مرض التوحد، كذلك فيلم ( أنا سام ) الذي رشح للاوسكار ويتناول قصة معاق ذهنيا، ومثله فيلم            ( فورست غامب ) الحاصل على 6 جوائز أوسكار وقد ناقش موضوعة الاعاقة المركبة ” الذهنية – الحركية ” ، فيلم “عطر إمرأة” الحاصل على الاوسكار والذي يستعرض حياة ضابط متقاعد  ضرير من بطول آل باتشينو ، ومثله فيلم “بنجامين” الحاصل على ثلاث جوائز اوسكار من أصل 13 جائزة كان قد رشح لها ، مرورا بـ ” أيام الغضب ، اﻷخرس ، الخرساء ، الكيت كات ، توت توت ، قاهر الظلام ، أمير الظلام”، والقائمة طويلة جدا لتؤشر بمجملها الى أن معاناة أصحاب الاحتياجات الخاصة وذوي الهمم ، وتثير حيثما حلت و إرتحلت داخل النفس البشرية ما يدفع للتعاطف الكبير معها  فضلا على التفاعل والتماهي مع أحداثها بشدة ، ويبقى الخيار متروكا للمجتمع وحكمائه في أساليب وآليات توجيه هذا التفاعل بالإتجاه الانساني الصحيح ، أوالشيطاني الخاطئ وقطعا أن أمة ﻻ ترعى معاقيها لن تُنصر ، لن تُرزق، لن تفلح ، لن تنتج ، لا ، وﻻ خير مطلقا فيها ! أودعناكم أغاتي