من أول ظهور (داعش) كان معروفا ومتوقعا أنها فقاعة طفيلية عابرة تعاكس الريح وتعاند التاريخ والجغرافيا، وأن حياتها قصيرة، وأنها ستختفي عاجلا أم آجلا، برغم كل طغيانها وتوحشها وقوتها الظاهرة الخادعة الطارئة.
وها قد حان وقت رحيلها. فقد حكمت مصالحُ رُعاتها وأولياءِ أمورها بأن تذهب وهي منهزمة عسكريا، مسحوقا زعمائؤها ومجندوها، كلـُهم، قتلا وحرقا وتقطيعا وتعليقا على أعمدة النور، والمدنُ والقرى العراقيةُ والسورية التي ضمها البغدادي إلى دولة خلافته (تتحرر) بقوة جيوش نصف الكرة الأرضية، بصواريخها ومدافعها وطائراتها وبوارجها الحربية وأقمارها الصناعية وآلاف طائراتها المسيرة بدون طيار، ليكون مشهد هزيمة الخلافة التلفزيوني مشوقا وممتعا إلى أبعد الحدود.
والغريب العجيب أن أكثر الفرحين المطبلين المزمرين المبشرين بهزيمة داعش في العراق وسوريا هم الذين وُلدت هذه الخرافة من أرحامهم، وكبرت في أحضانهم، وهم الذين أرضعوها وتعهدوها بالرعاية والعناية والحنان.
ولو دققنا في الوقائع، أولا بأول، من أول ولاية نوري المالكي الأولى، ثم الثانية، لتأكد لنا أن داعش لم يكن ليظهر إلى الوجود لولا أن أُسقطت الدولة العراقية في 2003، ثم وُضعت تحت الوصاية الإيرانية والأمريكية، ولولا هيمنة حزب الدعوة على المال والسلاح والأمن والمخابرات والنفط والماء والغذاء والدواء، ولولا نوري المالكي الذي ما زال طليقا رغم سجله الأسود الطويل، وما زال يفاخر بأنه (المختار) الذي أخذ بثارات الحسين من أحفاد يزيد حين شن عاصفته العسكرية الساحقة الماحقة على خِيَم الاعتصام في الفلوجة والرمادي، ولولا تسلط المتاجرين بمظلومية الطائفة السنية، دعاة المقاومة ومنظريها، أصحابِ القصور والفضائيات الذين تسلموا قناطير الذهب والفضة المهداة من الشيخ حمد آل ثاني إلى سنة العراق لنَصرِهم على هيمنة شقيقته الكبرى، إيران، فسرقوا ثلاثة أرباعها، وأنفقوا ربعها فقط على (ثوار العشائر) الذين كان كثيرون منهم، في الحقيقة، مشاريعَ داعشيةً تكاثرت تحت خيم الاعتصام، فكان جيش الإسلام السني العائد لغزو بغداد وتحريرها من سلالة نوري المالكي، ومن حزب الدعوة، ومن سنة الحكومة، وسنة الولي الفقيه.
والمريب الغريب العجيب أن سفارة الجارة (الشقيقة) إيران تروج بحماس لفكرة جمْع (كبار) قادة السنة العراقيين في مؤتمر تصالحي يعقد في بغداد، بعد أنقرة وأربيل، يضم سنة الحكومة، وسنة إيران، وسنة تركيا وقطر، وسنة السعودية، وسنة الأردن، وسنة جيبوتي والصومال، رغم معارضة وكلائها المتشددين، نوري المالكي وحزب الدعوة والائتلاف (الوطني) الإيراني.
ويمكن أن نفهم جميع الخفايا والزوايا والنوايا، من طقطق لسلام عليكم، إذا استطعنا تحليل ركضة النظام الإيراني العاجلة، وتفاهمه وتعاونه مع (الشقيق) التركي والحليف الإخواني، لنجدة حكومة قطر المعتدى عليها من قبل المطالبين بوقف دعمها للإرهاب.
فلو كانت جمهورية إيران الإسلامية وتركيا وقطر ومخابرات بشار الأسد معارضةً، بحق وحقيق، لولادة داعش، من يوم أن كانت نطفة، ثم علقة، ُثم مضغة، ثم عظاما كسيت لحما، لما تجرأ نوري المالكي على انتهاج سياسة التهميش والظلم والقتل والاعتقال الكيفي ضد أبناء المحافظات السنية الست، بالتحديد، لدفعهم بظلمه إلى احتضان الدواعش، ولما تيسر مرور المال والمجاهدين والسلاح إلى أيداعش وإلى أي تنظيم مسلح آخر، سنيا كان أو شيعيا، تجيز مبادئه الذبح والحرق وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، باسم الله ورسوله، ومن أجل نصرة الإسلام، وفي سبيل عودة الخلافة الراشدة من جديد، ولكان العراق، اليوم، وسوريا ولبنان واليمن بأحسن حال.
ومن يطالب بالدليل القاطع على الدور المحوري لإيران وتركيا وقطر في تصنيع المنظمات والعصابات الإرهابية نطالبه بأن يدقق ويمحص تفاصيل نشوء المليشيات والجيوش الإسلامية في العراق، أولا، وفي سوريا ثانيا، واليمن ثالثا، ولبنان رابعا، وأن يحاول التأكد من العلاقة القطرية التركية الإيرانية، القديمة منها والجديدة، وأن يتأكد من حقيقة العطف الإيراني على جماعة الإخوان المسلمين السنية العراقية، والسورية، والمصرية، وأن يتابع ما تفعله السفارة الإيرانية في بغداد، هذه الأيام، وبالأخص تبنيَها لفكرة استعادة (المصالحة) بين وكلائها العراقيين (الشيعة) وبين وكلائها (السنة)، بحضور سنة قطر وتركيا من العراقيين، سواءٌ منهم المشاركون في حكومة حزب الدعوة والمعارضون (ظاهريا) لها، ومنهم أؤلئك المحكوم على (بعضهم) بالإرهاب، والمطلوبون لعدالة قضاء مدحت المحمود. بالرغم من معارضة بعض المتشددين العراقيين الإيرانيين الرافضين لفكرة (عفا الله عما سلف) أمثال قيس الخزعلي ونوري المالكي وهادي العامري وعمار الحكيم.
وقبل أن نفرح بتحرير الموصل، وقبل أن نترحم على أرواح ضحاياها من المدنيين، ومن بواسل الجيش والشرطة الذين حرروها بدمائهم، لابد لنا أن نعترف بأن الذي ذهب هو تنظيم داعش، والتي بقيت هي إيران وقطر وتركيا، وبأن كل واحدة منها قادرة على أن تلد من جديد دواعش جديدة أكثر منها توحشا ودموية وهمجية.
وبوجود المتكسبين بالدين والعروبة وكرامة الطائفة، والمعروضين للبيع والإعارة لمن يدفع أكثر، يحق لنا أن نخاف من غدٍ أكثر (دعوشةً) من فقاعة أبي بكر البغدادي. وما خفي كان أعظم.