23 ديسمبر، 2024 4:18 ص

ذكريات .. والدي وحاكمية المخابرات ومحكمة الثورة

ذكريات .. والدي وحاكمية المخابرات ومحكمة الثورة

في مثل هذا اليوم وقبل ثمانية وعشرون عاما تم تطويق منزلنا والمنطقة المحيطة به ،في مدينة الناصرية جنوب العراق من قبل رجال مديرية المخابرات وبعودة والدي من عمله أوقفه ضباط المهمة ليقتادوه الى مقر مديرية مخابرات المحافظة وتبين فيما بعد ان هناك سيارة أعدت خصيصا لهذا الواجب لنقله من الناصرية الى مقر حاكمية المخابرات في بغداد.
ارتبكت العائلة وعم الحزن والبحث والتقصي عن التهمة الموجهة وحجمها والطريقة التي تم القبض عليه ، كان الوالد “رحمه الله” تاجرا في مجال الاستيراد حيث ان الدولة حينها منحت المستورد إجازة تحويل مالي بوساطة البنك المركزي العراقي الى البلد المراد الاستيراد منه فكانت وجهة الوالد الاستيرادية المملكة المتحدة.
ساد الوجوم … وما في اليد حيلة… فتلك دائرة المخابرات العراقية بعنفوانها الصدامي المخيف … مرت الأيام حبالى وأي مولود ستلد حيث فوجئنا بكتاب يعمم لجميع الدوائر والمصارف بعدم التصرف بأموال القائمة المكونة من (23) تاجر لحين إتمام محاكمتهم لصدور قرار بمصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة.
تعقد الامر اكثر ومرت الشهور ثقال حتى وردنا خبر إتمام الإجراءات المتخذة بحقهم من حاكمية المخابرات وإحالتهم الى محكمة الثورة بتهمة قيامهم تحويل مبالغ مالية الى لندن عبر وسيط خارج سياقات البنك المركزي العراقي وحدد لهم يوم المرافعه امام محكمة الثورة .. حينها توجهت الى البصرة للقاء احد مشايخ العائلة السعدونية الكريمة لنتفق على موعد لمقابلة رئيس محكمة الثورة عواد البندر بحكم العمومة التي تربطه معه .. وبعد يومين تواجدنا في بغداد لنذهب الى منزل رئيس محكمة الثورة آنذاك ، حيث عبر عن استعداده للمساعده ولكن اخبرنا “ان الامر يتعلق بالدائرة
القانونية لرئاسة الجمهورية وملف التجار معروض امام رئيس الجمهورية ولا أظن أوفق بالمساعدة التي تتصورون” وأبدى الشيخ مازحا “ماكو واحد يسلم منكم رجل فلوسه وهو حر فيها يضمها يحولها شنو دخلكم بيها” وانتهت الزيارة
… بعد ايام حضرنا لبناية محكمة الثورة في منطقة ابو غريب ننتظر في الباب الخارجي مع مجموعة من أبناء التجار المراد محاكمتهم والانتظار المرير تحت أشعة الشمس اللاهبة على الشارع المحاذي لبوابة محكمة الثورة وحتى الساعة الثانية ظهرا خرجت سيارة المحكومين وخرج شاب من موظفي المحكمة قال ان الجميع صدرت بهم احكام متفاوتة ويمكنكم مواجهتهم الأسبوع القادم في قسم الأحكام الخاصة في سجن ابو غريب بعدها التقيت والدي في قسم الأحكام الخاصة في ابو غريب وبدا يكلمني عن مراحل التحقيق في حاكمية المخابرات وزنزانة الحجز المريرة ومحاكمتهم في محكمة الثورة.
بعد ثلاثة أشهر تسلمت إدارة سجن ابو غريب أمرا رئاسيا باعفاء التجار لما تبقى من أحكامهم … قد يشعر المسؤول حينها بالحيف الذي لحق بهذه الطبقة الاجتماعية.
بعد عام ٢٠٠٥ التقيت احد التجار الذين حوكموا مع الوالد في محكمة الثورة … التقيته في عمان وبعد جلسة الذكريات المريرة بين محكمة الثورة وحاكمية المخابرات اخبرني ان مجموعة التجار في صدد إقامة الدعوى ضد صدام
حسين للحيف الذي لحق بهم والمطالبة بالتعويض والاقتصاص منه .. أخبرته ان الرسالة سأصلها الى والدي وهو الذي يقرر ذلك.
بعد عودتي تحدثت مع الوالد عن ما اخبرني به صديقه التاجر بشأن إقامة دعوى ضد صدام حسين في المحكمة المعده لمحاكمته. التفت لي وقال: ما رأيك؟
أجبته: أنا انقل رسالة أصدقائك التجار المتضررين الذين يرومون إقامة الدعوى وانت معني باتخاذ القرار لأنك المتضرر…
كرر السؤال مأهو رأيك القانوني؟
أجبته: بمزحة احتفظ بالرأي يا أبا قحطان … المهم رأيك انت…
أجابني … “وهل تقبل ان أباك قد شارف الثمانين من العمر ليقف امام المحكمة واضعا يدي على القران اني لم اخالف تعليمات البنك المركزي حينها… لأطلب الشكوى ضد صدام حسين.”
واضاف:”دقق يا ابني بين الضرر الشخصي الذي لحقني من صدام حسين كحاكم وبين مخالفة قد مورست من قبل التجار لتعليمات البنك المركزي …وعلى الرغم من الأحكام الجائرة الذي لا تتناسب مع تلك المخالفة ولكن كان للدولة الحق ان تحمي نفسها من اخطار تحويل العملة حينها…” “لذا أنا أقرر عدم الاشتراك بتلك المسرحية …” ولكن أنا مستعد لان اشترك في إقامة دعوى ضد صدام حسين لأخذه البلاد باتجاه الحروب والمديونية وتبديد الثروة والاقتصاد.
وحين ينجلي معدن الرجال يكون النتاج الرفعة والتعاظم عن صغائر الأمور ومن لديه مطالب وطن تهون عليه مطالبه الشخصية.
وفارق الحياة عن عمر ناهز الخامسة والثمانون عاما وانا أودعه نمقرير العين أبا قحطان فنحن على درب العراق الوطن لن نحيد وستبقى الثوابت وطنا وعنوان حياة.
*[email protected]