تقع مدينة سيدكان قربَ المثلث العراقي التركي الايراني وفي الطريق اليها من ناحية ديانا وحتى سيدكان تشق عجلة الايفا الطريق صعودا ونزولا بين مرتفعات رأس العبد وكلاو حسن وغيرها من الجبال الذي دعينا الى رباياها كجنود احتياط بعد أن كنا نعيش احلام القراءة الخلدونية في مدرسة البواسل في قرية من قرى اهوار الجبايش.
هناك انتقلت راحلة ابن بطوطة لتؤدي خدمة الاحتياط .
من أم شعثه الى ناحية سيدكان ، يا لهذه المسافة الشاسعة ، وكأن الجغرافية التي تحدث عنها أبي بقوله : حتى الخطوة الواحدة تحتاج الى خارطة جديدة ، تمنحكَ دهشة هذا المكان النائم في السهل المتشح بغابات كبيرة فيما تلوح القمم البعيد وتبدو مثل قبعات هائلة كالتي يرتديها رجال افلام الكابوي .
يسكنكَ الشَعر ، وأنت تتجول في الشوارع النحيفة للناحية وهي تستظل بأشجار الكمثرى والخوخ والجوز ، تشعر براحة ابدية في روحكَ وتتمنى للوجوه الغريبة التي تتأملك في ثوب الجندية أن تفهم أن دهشتكَ امام يافطة المدرسة الابتدائية المسماة ( كمال جنبلاط ) هو تساءلكَ من اطلق هذا الاسم الدرزي على مكان نأي في اقصى جبال العراق ، وما علاقة جنبلاط بالناس هنا فربما أغلبهم لايعرفون الرجل الذي اغتيل برصاص الحرب الطائفية في بلده .
أكثر من شخص اسأله . فلا أجد سوى اجابة مقتضبه من شاب عابر قالها واختفى امام وجهي مسرها : لأنه ثوري ويساري.
لا أدري أن كان تعريف الشاب صحيحاً , غير أننا ايام مدرسة البواسل في اهوار الجبايش كنا نناقش حادثة اغتياله ، ولم نصل الى جواب سوى أن الرجل يدافع عن طائفته ، وديانته ، وبلده .
كل يوم حين اذهب الى سوق المدينة الصغير الذي اغلب حوانيته مبنية من جذوع الاشجار وسقوفها من أوراق اغصان الشجر اليابس ، اختار مقهى صغيرة ، احاول أن اسرق بعض المفردات الكردية غير صباح الخير وفي امان الله وشكرا ، وكم تمنيت أن اعلمهم شيئا من لهجة معدان الجنوب لتكون جغرافية ابي امينة في حدس متغيرات الخطوة المسافرة ، لكنهم هنا لا يريدونَ أن يتعلموا ، بل الجنود هم من يتعلمون ، وكأنهم يهمسون لك : تذكرْ جواميسكَ هناك واذهب اليها لتكمل منهجك الدراسي ، فقد بقيت ثلاث فصول من درس الجغرافية لم تكملها لتلاميذك ودعوك الى خدمة الاحتياط ودعْ تلامذة مدرسة كمال جنبلاط لمعلمي يعلمون الاطفال جغرافية احلامهم ليكونوا رعاة دون أن تسقط في الحقول التي يسرحون فيها مع ماشيتهم قذائف مدافع تأتي من هنا أو من هناك.
يوم انتهت اشهر الاحتياط ، وقفت اخيرة أمام يافطة المدرسة ، أمسك جفن الذكريات ، واتخيل كيف يكون الفرق بين جنتين ، واحدة تنتج الخوخ والكمثرى واخرى تنتج الخريط والقيمر ، وبين الجنتين اتخيل عيون جنبلاط الحزينة وقت ما قرروا اغتياله .
في الطريق لم يبقْ من اشهر الجغرافية تلك سوى طيف قصيدة نسيت اوراقها هناك:
( ( طاغور هندي .
والملا مصطفى كردي.
عمر الخيام فارسي
واراغون فرنسي ….
وكمال جنبلاط لبناني
وأمي مسماية عربية …
وشفتيكِ…
جنسها غير مُعرفٌ في التفاصيل .
غير أن المكان هنا ( سيدكان ) .
مثل مخفر حدودي
حراسهُ يمتلكون وهم الاشباح فقط…!))