نظر من نافذة غرفته -استجابة لرغبة نفحات الهواء الباردة التي لسعت وجهه تحثه- نحو ذلك المشهد الذي صار يتكرر أكثر مما يجب.
بدت الأمور على حالها لا تتغير منذ أعوام . الناس تتراكض في كل الاتجاهات من الفجر قبل أن تشرق الشمس على صباحهم المظلم علهم يجدون ما يحتاجونه من أدوات كي يرمموا ذلك الحطام الذي لم يبدُ أنه سيرمم يوما.
لكن الأمل … الأمل هو ما أطل عليهم كما تطل الخيوط الذهبية كل يوم ، لكن ما يختلف ،،، هو أن الأمل هذا لا يزول بزوال الضوء بل يظل متربعا على عرش القلوب التي تآكلها اليأس فترات طويلة.
تراءت له تلك الذكريات السوداوية.
-آه … لقد حان الوقت.
هكذا قال الرجل المراقب بعد تنهيدة قوية أطلقها . لقد آن أوان تلك الطقوس اليومية.
أرجع رأسه للوراء على الكرسي الذي كان عليه جالسا . أغمض عينيه واستسلم لسيل الذكريات.
“
صباح عادي كان الذي احتضن اليوم “المشئوم” ، حيث انطلق نداء الواجب يحث الرجال على ترك دفة القيادة في البيت ملبين صيحات الوطن الذي ناداهم لاهثا يطالب باسترداد حقه الذي سلب منه جبرا.
خرج من بيته ذلك اليوم حاملا بندقيته التي شهدت الكثير والكثير ، فقد ورثها من والده الذي ورثها هو الآخر من والده.
من الجد ، إلى الابن ، فالحفيد ،،، كان حب الدفاع عن الوطن يجري في عروقهم.
مرّ شريط الذكريات بسرعة أمام عينيه لتتشابك شرائط الماضي حابكة حكاية ذلك اليوم.
عندما انطلقت الصفّارة تعلن وصول العدو لمركز مدينتهم.
خرجوا جميعهم حاملين بنادق الحق ، وصارخين أنه لن تطأ أرض بلادهم الطاهرة تلك الأقدام الملوثة.
هممهم كانت تلامس السماء ومعنوياتهم ليس لها حدود ، فقد كانت رايتهم ترفع اسم الوطن الحبيب.
صوت صرخة مدوية هزت كيان “عماد” الذي انتفض من موقعه يلتفت يمنة ويسرة … لقد كان هذا الصوت مألوفا ، بل وغاليا عليه فلم يرتح له بال إلى أن عثر عليه ،،، ذلك الجسد الذي تضرج بالدماء بدا حقا يتألم ويئن من العذاب.
الدماء انتشرت في كل مكان ، ليس دماؤه هو وحسب بل الكثيرين ممن سلبت منه الحياة.
صوت الصراخ توقف ، أو بالأحرى صوت المتألم توقف ، بعد صرخة “عماد” التي اخترقت حجاب الرصاص : ســــــــــــــامــــــــــــــر !
لكن ،،، لا حياة لمن تنادي . فالروح غادرت الأرض آخذة معها تذكرة السفر للسماء.
وأي جسد بقي ؟ نصف جسد بالأحرى هو ما قد يصف ما ظل متروكا هناك.
أيام مرت ، وكأن الشمس لم تشرق على تلك الأرض المدمرة ، كيف تُرى أشعتها وذلك الدخان سلب نقاوة الهواء الذي لطالما تميز بصفائه.
،،،
لقد بكت الأرض كثيرا وقتها حتى اعتقد الجميع أن أوان جفاف دموعها الحمراء القانية قد حان.
صوت صفارة الإنذار انطلقت بصوت اعتاد عليه الجميع بعد أن كان صوتا لم تألفه القلوب الفتية.
لقد اكتملت مراسيم الاحتلال!
نظرات اليأس اعتلت الوجوه ، والأسلحة انخفضت لتلامس الأرض.
لقد أخفقت مهمة الدفاع عن الوطن ،،، أخفقت!
هذا ما تبادر لذهن “عماد” ورفاقه ممن بقوا أحياءً ، وهم يرون علم العدو يرفع في القاعدة التي بعدت عنهم 500 مترا فقط.
جثوا على الأرض بفقدان أمل تام ، وهم يسمعون صرخات الفرح من المحتل.
إلا أن شيئا ما قطع عليهم استماتتهم ، فصوت “عماد” اخترق عقولهم النائمة بكل تفاؤل : علينا أن نقاوم يا أبطال . هذا وطننا ويجب أن نحميه ونقاوم حتى آخر رمق فينا ،،، حتى آخر نفس فينا.
صوت جاءه من أحدهم : ولكن يا “عماد” ، نحن خمسة فقط ، فماذا قد نفعل لمواجهتهم؟
ابتسم المعني ابتسامة نصر ، ورفع كفه ليضرب به صدره قائلا بإصرار : هل نسيت؟ هل نسيتم جميعا العهد الذي عاهدناه عندما خرجنا للدفاع عن وطننا؟ لقد أقسمنا على ألا نسمح لأي قدم قذرة بأن تطأ أرضنا الطاهرة . الوقت لم يحن لنستسلم . بل هو الوقت المثالي لنريهم ولنجعلهم يعرفون من نحن حقا . نحن لسنا من نستسلم ،،، ماذا سيقول آباؤنا لو عرفوا بانهزامنا هذا؟ لا عار في هذا البلد … بل قتال حتى الموت لأجل الحـــــــــــــــريـــــــــة.
رفع يده بقوة عاليا ليردد الكلمة الأخيرة مرارا وتكرارا حتى تحث نفوسهم على الانطلاق.
الحرية ،،، الحرية ،،، سنسعى لأجل الحرية.
“
انتهت تلك الذكرى ،،، أو بالأحرى انقطع الشريط وتوقف عند هذا الحد.
البقية عند رفاقه الذين احتضنهم الثرى بعد أن كان مصيرهم كمصير “سامر” والبقية.
أما “عماد” فلم يستطع إكمال القتال وقتها لآخر لحظة رغم رغبته المستميتة لذلك.
لم يشعر إلا والشمس قد غادرت نافذته مختبئة خلف غيمة من غيوم السماء الرمادية.
-لقد غرقت في بحر الذكريات من جديد.
قالها بصوت مكسور ، وهو ينظر للبعيد ،،، لذلك الركام الذي بدأ أخيرا بالانصلاح.
أدار ظهره لنافذته التي شهد من خلفها الكثير ،،، مغادرا على ذلك الكرسي المتحرك!