حروب متلاحقة ، خطفت ارواح آلاف الشباب ، خلفت الاف الأرامل والأيتام ، نزيف دم لاينضب ولا ينتهي ، فناء وموت يحصد الأرواح كل يوم ،. مصائب وكوارث متلاحقة ، مرض وعوز، حاجة وتشرد ، حيرة وضياع ، دمار ومآسى ، الم وعذاب ، منذ عقود وعقود ، في بلد منكوب اسمه العراق
ذكريات قاسية مؤلمة حزينة ، تراكمت فوق الذكريات لاتهدأ ولا تنام ، تتوسلها الروح ، ان لا تنتفض ، فتلكأ الجراح التي تقيحت من فرط ما تراكمت ، جراح فوق جراح
كتب احد الأصدقاء ذكرياته عن حرب الخليج ، فانتفضت تلك الذكرى المرة الحزينة ، مخترقة السنين ، نافضة عنها غبارالزمن ، لتعلن عن ايام ملؤها الدم والدموع
في ذلك الوقت القريب البعيد ، كنت احد القلة من العراقيين المهاجرين الى السويد ، الذين غادروا الوطن مرغمين !!! كل يحمل شوقه ، وحنينه ، وجمرات الامه ، ليخفيها بين الضلوع ، لتحرق الروح والوجدان ، في صمت ، ومرارة ، وفي خشوع .
غزا صدام حسين الكويت البلد الجار ، فجر 2 / آب / 1990 كانت صدمة مروعة لنا ، نحن العراقيون المغتربون ، أفقنا على هذا الخبر المفزع ، الذي احال ايامنا الى معاناة وخوف على بلدنا واهلنا ، الذين وضعهم فيه ذلك الطاغية ، الدموي ، المغرور .
توقعنا من خلال متابعة الأخبار العالمية الأحداث المأساوية التي ستحل على بلدنا العزيز
بقينا ملتصقين بالأجهزة المسموعة والمرئية ، نترقب الأحداث الجسام بصمت ، وبعيون متحجرة حائرة .
في ليلة 17 كانون الثاني 1991، بدأ الهجوم الجوي على بغداد من قبل قوات التحالف ، المكونة من 34 دولة ، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، تحت إسـم حرب تحرير الكويت او( عاصفة الصحراء ) ، استمرت الى يوم 28 شباط 1991
أيام قاسية مرت علينا ، امتزجت فيها المشاعر الأنسانية المتضاربة ، بوجوم
وصمت في قلوبنا ، من امتعاض …هلع …فرح حزين .. تنتظر ( لعل ذلك الكابوس الأسود ، الحزب الفاشي ورئيسه الدموي ، الذي خيم على العراق واحرق الأخضر واليابس ينتهي إلى غير رجعـة ، وبتنا نرى التسلسل العائلي لحكم العراق حتى احفاد (حلا) أبنة المقبور صدام الصغرى ) – بعد أن اصابنا اليأس من رحيله دون حـرب.
عشنا الخوف ، وانتابنا القلق على اهلنا ، من المصير المجهول الذي ينتظرهم ، والبلد قد تحول الى شعلة من نار ، وهام اهل بغدادنا على وجوههم كل في طريق …الى مصيره المجهول ، لم يكن بيدنا الا الجلوس وكلنا عيون جفت دموعها ، شاخصة الى التلفزيون ، الذي كان يبث الأحداث بصوره مباشرة من بغداد في ليلة الهجوم ، بعد ان يئسنا من التلفون الذي لايرد هناك في بيوت اهلنا واحبتنا .
لن انسى كلام المذيع وهو يصف بغداد التي تحولت الى مدينة اشباح وقوله ان سماء بغداد تشبه سماء الدول الأوربيه يوم كرسمس ( يقصد اطلاق الألعاب الناريه احتفالا ) ، ولكنه يعقب انها على سماء بغداد قنابل حية
كنا قد شاهدنا القنابل وهي تمطر وبالا على بغداد الحبيبة ، وكان البث حيا في تلك الليلة المشؤومة ، وفي اليوم الثاني انقطع البث الحي ، واخذوا يبثون لقطات متفرقة في نشرات الأخبار ، اضافة الى التحليل السياسي والتصريحات …الخ
استمر القصف وازداد الخراب والدمار ، وفي كل مرة يقصف فيها مكان ، نطمع ان فيه نهاية ذلك المجرم ، لكي تنتهي مأساتنا ومآسي بلدنا ، دون جدوى حتى كان ذلك اليوم الرهيب ، هو اليوم الذي امر فيه القائد الضرورة الجيش العراقي بمغادة الكويت ، والرجوع الى العراق . حيث أن الطريق الوحيد بين الكويت وصفوان هو الطريق السريع رقم 80 و من صفوان الى البصرة
انسحب الجيش العراقي من الكويت بالياته العسكرية ، وكان عددهم وحسب ما صُرح في الأخبار حوالي مائة الف عسكري ، مائة الف … أكثرهم شباباً بعمر الزهور ، وصل الجيش المنكوب الى هذا الطريق واصبحت فلول الجيش المنسحب من الكويت مكشوفة كليا ، عندها بدأ طيران التحالف بالقاء القنابل على طول الطريق وعرضه ، فقصف حتى آخره .
في ذلك اليوم المروع ، وبعد انتهاء القصف الجوي بث التلفزيون السويدي مشاهد حيه عن ذلك الشارع المشؤوم ، الذي سمي بشارع الموت ، نعم مائة الف شاب عراقي ذبح لتمتزج دمائهم بتراب ذلك الشارع.
كانت المشاهد التي بُثت بعد ان اخلي شارع الموت تماما من الجثث ، شاهدنا بقايا مبعثرة لحافلات محطمه بالكامل ، احذية كانت في ارجل المنكوبين … هنا وهناك ، بقايا دماء كالوشم على البقايا الباقية ، اوراق مصبوغة بالدماء مبعثرة بين الأنقاض المتبقية ، التقط المذيع احدها وبدأ بقراءة ماسطرته انامل احد العائدين ، كلمات اخيرة قليلة سريعة خطتها انامل عريس لعروسه لم يستطع اكمالها وبقى اسمه مجهولا كتب لقد قتلونا .. سوف لن اراك ثانية .. انا احبك
شاهدنا الأكياس البلاستيكية ذات السحّاب ، التي جلبت من امريكا مباشرة ، قبل قصف الشارع ، لقد كان كل شيْ مدروسا ومحسوبة نتائجه مسبقا ، حتى عدد الأكياس التي أعدّوها لوضع اشلاء خيرة شباب العراق ، ( ترى اين هي القبور الجماعية التي اودعوا فيها كل هذا العدد من المغضوب عليهم ( أولاد الخايبة ) ، الذين لم يشاهدوا في حياتهم القصيرة الا طواحين الحروب الهوجاء يدورون بها من حرب الى اخرى ، يشعلها ويديرها طاغية عميل مجرم ، جاؤوا به من الشارع ، وأعدّوه لتنفيذ مخطط اجرامي لعين ، يراد به تدمير العراق ، وإبادة خيرة اهله وشبابه الذين يمثلون الحاضر والمستقبل ، وتشريد القسم الآخر ، واذلال من تبقى..
لقد اغتال ذلك المجرم ، بسلوكه الدموي وحزبه المشؤوم واسياده مستقبل العراق .
الحديث ذو شجون ، والذكرى موجعه ، والحقيقة مؤلمة ، لا تطاق ، والمستقبل يدور في دوامة ، الرجاء ، والضياع ، والعذاب ، والأمل المفقود.
اما عن الأنتفاضة.. بعد تلك الأحداث , بث التلفزيون مشاهد عن بداياتها.. احدها لجندي عائد من شارع الموت
بحالة مروعه ( احد المحضوضين القلائل الناجين ) وهو يمزق صورة الطاغية المكشر عن انيابة المتعطشة الى الدماء..
ومشهد اخر لقلة وهم يهتفون بسقوط النظام ، برعب ، وبعدها اعلن البث ان هناك انتفاضة في الجنوب..
في البداية رحب الغرب بهذه الانتفاضة وهلل لها, وبدون مقدمات انقلب المشهد
ومن خلال بث حي قال المذيع
هناك طائرات تقصف الثوار ولا نعرف هويتها ، بعد قليل ، اعلن ان الطائرات التي تقصف هي امريكية قادمة من جهة الكويت ، … والنهاية الحزينة يعرفها الجميع ..
هذه الذكريات المؤلمه حقائق وشمت في الذاكرة.. ولكل عراقي قصص وذكريات ملؤها الأحزان ، والدموع
توالت الاحداث الجسام والمحن ، على بلدنا المنكوب ، وشعبنا ، لازال يئن ، وينوح ، و يسبح في بحر من الدماء ..
ويسير نحو المجهول … عرفنا البدايه
ترى متى وكيف هي النهاية…؟