18 ديسمبر، 2024 9:14 م

ذكريات ثقافية : سوتشكوف وكافكا ومؤتمر الرواية في لينينغراد

ذكريات ثقافية : سوتشكوف وكافكا ومؤتمر الرواية في لينينغراد

كان بوريس سوتشكوف في الثالثة والعشرين من عمره في عام 1940، ويتقن ثلاث لغات عالمية ( الالمانية ، الانجليزية ، الفرنسية ) ، ومن اكثر المثقفين الروس اطلاعا على الآداب الغربية ، حين شرع بكتابة أولى مقالاته النقدية : ” دراسة جديدة عن اونوريه دي بلزاك ” و ” الأدب الانجليزي في مفترق الطرق ” و ” روايات عن الحرب العالمية الأولى ” وهي مقالات أصيلة ، تنم عن نظرة نقدية ثاقبة ، ولكنه اختار طريقا خاطئا ، وظل طوال حياته معذبا ونهباً ، لمشاعر متناقضة ، ففي الوقت الذي كان مسحوراً بأعمال كبار الكتّاب الغربيين ، سخًّر كل قدراته الفكرية والتحليلية الرفيعة للدفاع عن الأدب الواقعي – حسب المفهوم السوفيتي الجامد للواقعية – ونقد وتفنيد كل ما لا يتفق مع هذا المفهوم الأدبي من اعمال ادبية طليعية غربية.

كتابات سوتشكوف لقيت ترحيبا لدي المسؤولين وسرعان ما برز بين اقرانه من النقّاد السوفيت ، بذكائه وقدرته التحليلية البارعة ، وأصبح رئيسا لتحرير مجلة ” الأدب العالمي ” ، وعمل في الوقت ذاته موظفا بارزاً بقسم الدعاية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ، ومديرا لدارالنشر باللغات الأجنبية.

كان الخلاف حينذاك على اشده بين رئيس قسم الدعاية في اللجنة المركزية وبين وزير الأمن لافرينتي بيريا . طلب الأخير من سوتشكوف أن يكتب تقريراً يدين رئيسه في القسم ، ولكنه رفض ذلك ، رغم الضغوط النفسية التي تعرض لها . فتم تلفيق تهمة ضده ، وهي التجسس لصالح الولايات المتخدة الأميركية ، وحكم عليه عام 1947 بالسجن خمس وعشرين عاما . وبعد ثمان سنوات من الاعتقال والأشغال الشاقة ، شمله العفو العام عن سجناء الرأي الذي صدر عام 1955 ، فاطلق سراحة ، وعاد الى موسكو .

دخل سوتشكوف الى السجن شاباً شهماً أبياً ، وخرج منه تابعاً مطيعاً للحزب . حيث تعلم الدرس جيدا : لا حياة لمن لا يخدم السلطة والحزب القائد بكل مواهبه وطاقاته .ولكنه مع ذلك ظل طوال حياته انساناً حذراً وطيباً ولطيفاً بعيداً عن روح المشاكسة والتخوين والتسقيط التي كانت سائدة في الوسط الثقافي السوفيتي في العهد الستاليني .

وشهدت السنوات التالية صعوده المهني السريع وشغل وظائف مهمة ( نائب رئيس تحرير مجلة ” زناميا ” الأدبية المرموقة ، استاذ جامعي ، مدير معهد الأدب العالمي . وحصل على شهادة الدكتوراه في الأدب ، وانتخب عضوا مراسلا في اكاديمية العلوم السوفيتية . وأصدر العديد من الكتب في نظرية الأدب ، وعلم الجمال ، لعل أهمها كتاب : ” المصائر التاريخية للواقعية “( 1967) ، الذي ترجم الى العديد من اللغات الأجنبية ، وصدرت ترجمته العربية عن دار ” الحقيقة ” اللبنانية عام 1974 . وتناول سوتشكوف في هذا الكتاب تطور الواقعية في الادب العالمي .

ومن كتبه الأخرى ” وجوه العصر : مقالات عن الكتَّاب والعملية الإبداعية ” وقد صدر في مجلدين عام ( 1969) .وكتاب ” فعالية الفن ” الذي صدر عام 1978 بعد وفاته .

كما صدرت تحت اشرافه المؤلفات الكاملة – المترجمة الى الروسية – لتوماس مان ، وستيفان زفايج وكتاب غربيين آخرين . وقد كتب لكل منها مقدمة تحليلية مسهبة من منظور ايديولوجي ماركسي .

توفي سوتشكوف عام 1974 بسكتة قلبية ، وهو في أوج نشاطه الأدبي ، وذروة نضجه الفكري والابداعي ، عندما كان في بودابست للاشتراك في مؤتمر أدبي . وفي العام التالي لوفاته قررت السلطة منحه جائزة الدولة التقديرية في الأدب لعام 1975 عن كتابه ” المصائر التاريخية للواقعية ” .

كان سوتشكوف ، هو المنظر والباحث المتعمق الأكثراطلاعا على الآداب الغربية عموما ، والمشرف الفعلي على نشر ما يترجم منها الى الروسية في عموم الاتحاد السوفيتي ، بما لا يتعارض مع نظرة الحزب الحاكم الى الأدب والثقافة . وكانت كلمته مسموعة لدى المسؤولين في القسم الأيديولوجي في اللجنة المركزية للحزب .

لم يكن سوتشكوف يفصح عن آرائه الحقيقية ، حتى لأقرب المقربين اليه. فقد كان من المعجبين بأعمال فرانز كافكا ، وجيمس جويس ، وبروست ، ولكنه كان في كتاباته المنشورة يحلل ويحاول التقليل من شأنهم وشأن كتاباتهم ، وبأسلوب يبدو علمياً ومقنعاً ، متهما اياهم بالسوداوية وزرع اليأس والقنوط في النفوس .

سوتشكوف ينصب فخاً حميداً لعضو المكتب السياسي للحزب

في الفترة من الخامس الى الثامن من اغسطس عام 1963 عقدت جمعية الكتّاب الأوروبيين – التي كانت تضم كتّابا من معظم الدول الأوروبية ، وبضمنها دول أوروبا الشرقية – مؤتمراً مهماً في لينينغراد ( بطرسبورغ الآن ) ، عن مشاكل الرواية المعاصرة ومستقبلها تحت عنوان ” مصير الرواية ” ، حضره عدد كبير من اكبر والمع الروائيين في أوروبا ، بينهم بعض الحاصلين على جائزة نوبل في الأدب (هنريش بول ، غونتر غراس ، هانز فيرتر ريختر ، مارتن فالزر ، البرتو مورافيا ، ايتالو كالفينو ، فاسكو براتوليني ، الان روب غرييه ، جان بول سارتر ، ونتالي ساروت – التي ادهشت الكتّاب الروس المشاركين في المؤتمر . بلغتها الروسية الطليقة ، وتبين انها روسية الأصل واسمها الحقيقي نتالي تشيرناك ).

 

كان الوفد السوفيتي يتألف من (35) كاتبا وناقدا وباحثا بينهم ميخائيل شولوخوف ، وايليا اهرنبورغ ، والكاتب الروائي فاسيلي اكسيوف – الذي لمع اسمه في اوائل الستينات كأحد الكتّاب الشباب الموهوبين – والكسي سوركوف القيادي في اتحاد الكتّاب السوفيت . وكان ثمة فريق حزبي يشرف على اعمال المؤتمر برئاسة عضو المكتب السياسي ليونيد فيودوروفيتش ايليتشوف .

كان سوتشكوف – المنظر الأدبي ، والباحث اللامع في علم الجمال الماركسي – احد أعضاء الوفد السوفيتي ، ويفهم كل ما يدور في كواليس الحياة الثقافية في روسيا ، وفي أروقة المؤتمر .

قبيل انعقاد المؤتمر اجتمع ليونيد ايليتشوف برئيس واعضاء الوفد السوفيتي للاستماع الى آرائهم بصدد المؤتمر . ويقول فاسيلي أكسيونوف ، في محاضرة له القاها في جامعة جورج واشنطن عام 1982 :

” كان ايليتشوف جالسا على مفعد دوّار ويتحدث عن أشياء تافهة . وعلى حين غرة انبرى سوتشكوف قائلاً : ” ليونيد فيودوروفيتش : ” نحن نلاقي صعوبة شديدة في مناهضة أعداءنا الأيديولوجيين . الذين لديهم ثلاثة آلهة ، ثلاثة حيتان ( كافكا ، وجويس و بروست ). جويس وبروست نعرفهما فليلا ، فقد نشر بعض اعمالهما قبيل الحرب ( يقصد الحرب الالمانية – السوفيتية ( 1941 – 1945) – أما كافكا فلا نعرفه على الاطلاق ، وليس بوسعنا محاربته ، ونحن نجهل عنه كل شيء”.

ايليتشوف : ” ماذا تريد ان تقول بهذا ” ؟ فسأله

سوتشكوف :” لدينا ترجمة جاهزة لرواية كافكا ( المحكمة ) ، ويمكننا نشرها ، وبذلك نلجم افواه البورجوازيين ، الذين يزعمون باننا لا نسمح بنشر اعمال كافكا .هذا اولا ، وثانيا عندما نعرف كافكا من السهل علينا محارته , وقد قيل – لكي تهزم عدوك ، يجب ان تعرفه جيداً”.

من الواضح ان سوتشكوف اقدم على مجازفة كبيرة ، عندما أعدًّ فخا محكما لايليتشوف. تسمًّر الجميع في مقاعدهم ، وحبسوا انفاسهم في انتظار رد ايليتشوف ، الذي دار على مقعده دورة أخرى وقال :

– ماذا عن كاتبكم كرافكا ؟ – تعمد ايليتشوف تحريف اسم كافكا – هل هو كاتب متشائم ام ماذا ؟ وقال الكسي سوركوف :” اجل انه كاتب متشائم” .

ايليتشوف : ” حسناً . اطبعوا كمية محدودة من النسخ ، حوالي ثلاثين الفاً “. وكانت هذه كمية متواضعة فعلاً ، لان اعمال الكتاب الكبار كانت تطبع بمائة الف نسخة واكثر .

سوتشكوف باكياً

عشية القاء كلمته في المؤتمر، كان سوتشكوف وأكسيونوف مع عدد من ضيوف المؤتمر الغربيين يتسامرون في جو مفعم بالود والصراحة في غرفة واسعة مخصصة لكاتب اجنبي كبير بفندق ” أوروبا ” في لينينغراد، كان الجميع في مزاج رائق ، وقد تآلفوا بسرعة ، رغم اختلاف اللغات التي كانوا يتحدثون بها ،

يقول اكسيونوف : ” سالت سوتشكوف : عن ماذا ستتحدث غدا في كلمتك امام المؤتمر؟ “.

حدث ما لم يكن في الحسبان . التمعت عينا سوتشكوف وهو يحدق في وجهي ، ثم اجهش بالبكاء ، وتساقطت دمعات على وجهه . كان يبكي بكاءً حقيقيا وصادقا ، ثم كفكف دموعه بيده . ربما كان للسكر دور في صراحته غير المعهودة ، وفي البوح بمكنون صدره. قال بصوت مخنوق :” غدا ساهاجم من احبه ، واشيد بمن امقته “.

في اليوم التالي وقف سوتشكوف على المنبر و حمَل على بروست وجويس وكافكا واثنى على شولوخوف

حكاية الكتاب الأسود

في عام 1965 –وكنت حينها طالباً في موسكو – انتشرت شائعة بين المثقفين الروس عن صدور كتاب يضم مختارات من مؤلفات فرانز كافكا المحظورة في الإتحاد السوفيتي حتى ذلك الحين . وفي اليوم المحدد لعرض الكتاب للبيع في متاجر الكتب ، اصطف منذ الصباح الباكر ، طابور طويل امام كل متجر، ، على امل الحصول على نسخة من الكتاب ، الذي طال انتظاره . وقفت في اليوم الموعود في طابور امام اكبر واشهر متجر للكتب في شارع غوركي ، ولكن النسخ المحدودة ، التي وزعت على كل متجر نفدت بسرعة ، وانفض الطابور ، ولم احصل على نسختي من الكتاب بالسعر الرسمي وكان أقل من روبلين . ومن حسن الحظ ، ولكثرة ترددي على المتجر ، نشأ نوع من الصداقة الغريبة بيني وبين البائعة في قسم الكتب الأدبية ، حيث كنت احصل على كل ماهو صادر حديثا من الروايات والمجاميع القصصية ودواوين الشعر لأشهر الأدباء الروس والأجانب ، ولكن باسعار مضاعفة .

قلت للبائعة الشقراء الجميلة :” أريد نسخة من كتاب كافكا .

قالت : ” لم تبق لديُّ أي نسخة . تعال غداً . ربما سأحصل لك على نسخة من الكتاب عن طريق صديقاتي

وهكذا دفعت عشرين روبلا لقاء كتاب ” فرانز كافكا ” ، الذي أشتهر في الاتحاد السوفيتي باسم ” الكتاب الأسود ” لكون غلافه من الورق المقوى الأسود ( هارد كوفر) .

يحتوي (الكتاب الأسود ) على رواية المحكمة و46 اقصوصة لكافكا ، تسبقها مقدمة تحليلية ضافية بعنوان ” عالم كافكا ” بقلم سوتشكوف .

أحدث الكتاب ضجة في الأوساط الثقافية وبين القرّاء الروس على حد سواء ، فقد سمعوا كثيراً عن كافكا ، ولكنهم لم يقرأوا له شيئاً ، ولم يكن يعرفه الا قلة من الكتّاب والنقّاد ، عن طريق ” سام ايزدات أو النشر السري ” أو الحصول على مؤلفاته بأحدى اللغات الأجنبية ،عند السفر الى خارج البلاد للمشاركة في بعض الفعاليات الثقافية . ولولا سوتشكوف لما ظهر ” الكتاب الأسود ” الى حيزالوجود .