ذكريات الربيع تحت ضوء القمر

ذكريات الربيع تحت ضوء القمر

كان الشتاء في تلك الأيام يبشّر بالخير، ويعلن أن ربيعًا مميزًا قادم وراءه. وكان ذلك الربيع يحمل البشرى لأهالي القرى والأرياف، لأنهم يعدّونه بداية موسم الخير والحصاد.
‏هنالك، في تلك القرية المنسية البعيدة، كان شابٌّ ينظر إلى عشيقته نظراتٍ يرافقها شوق صادق، يخرج من القلب بلهفة، كلّما مرّ قرب دارها، وهي تسكن في ذات القرية. ولم يكن الأمر مجرّد مرور عابر، بل حكاية عشق بريء، تحمله أنفاس القلوب، وتزهر به أيام الربيع.
‏كل عاشقَين في العالم لم يجتمعا تحت ضوء القمر في ليلة ربيعية واحدة، يشعران أن شيئًا من العاطفة ينقصهما. فالقمر في ربيع القرى كان يمنح الأرواح أحاسيس مختلفة، تلوّنها مشاعر تشبه ألوان قوس قزح، وتداعب أعمق نقطة في الفؤاد.
‏وكان عاشقنا ذاك ينتظر فرصة اللقاء بلهفة، لكنه يصطدم بعادات وتقاليد صارمة لا تسمح باللقاء المباشر، حتى وإن جمعتهما صلة قربى أو جوار. في ساعات المساء الطويلة، كان يسمع مع حبيبته صوت القطار وهو يمرّ بمحاذاة قريتهم، متجهًا نحو محطات بعيدة، وفي ضوء عرباته السياحية كانا يتخيلان حياة أخرى وسفرًا إلى بغداد البعيدة.
‏إنها قصة تتكرر مع كثير من أبناء القرى والأرياف: عشق طاهر يولد في زمن الحرمان، حيث لكل شيء ثمن، وحيث التقاليد ترسم حدود العلاقات، فلا يُسمح بالتجاوز أو المساس بحرمات الآخرين. كان من المعيب أن يفكر أحد بأذية جاره أو بخدش شرف من يعيش معه.
‏ما أجمل تلك الليالي التي لم نعرف فيها المسكنات ولا المهدئات، ولم نعرف التجميل الصناعي، ولا الكلام المصطنع، ولا الكذب والافتراء. كانت الطفولة بريئة، والعشق تحت ضوء القمر صادقًا ونقيًا، لا يتعدى حديثًا عن الربيع، أو وصفًا لجمال الحبيبة كما هي، جمالًا طبيعيًا بلا رتوش.
‏رحم الله تلك الليالي، ورحم الله أهل القرى والأرياف الذين عاشوا ببراءة ونقاء، بعيدين عن الخداع والتصنع والادعاءات الكاذبة. لقد كانت حياة بسيطة، لكنها مفعمة بصدق المشاعر، ونور القلوب.
‏ولعل أجمل ما يتركه ذلك الماضي في ذاكرتنا، أنه كان يعلّمنا كيف نصنع الفرح من أبسط التفاصيل: من ضوء قمرٍ يرافقنا، من صوت قطارٍ عابر، أو من نظرة خاطفة نتبادلها على عجل. كنا نمتلك القليل، لكننا كنا نعيش الكثير. أما اليوم، ورغم وفرة كل شيء، فقد نفتقد ذلك الدفء، ونشتاق إلى زمنٍ كان فيه القلب وحده هو من يصوغ الحكايات.

أحدث المقالات

أحدث المقالات