اليوم، وفي إحدى مساءات الهدوء، اتصلت هاتفيًا بالصديق العزيز والأخ الوفي، الشيخ المهندس ناظم علي داود، وكان حديثه يحملني على أجنحة الذكريات إلى سبعينيات القرن الماضي، إلى جنوب الموصل، إلى زمن الألفة والمحبة الصافية التي جمعت أبناء المنطقة بمختلف عشائرهم. كان الانتماء حينها للقرية والأرض أكبر من أي انتماء آخر، وكانوا يعيشون بروح الجيرة الواحدة، والعائلة الممتدة، والمصير المشترك.
تذكرت قريتهم گبر العبد القريبة من ناحية حمام العليل وتذكرت بساتينها العامرة التي تنطق بحكايات التاريخ، وتروي قصة الفلاح الحمداني الذي لم يفارق محراثه يومًا. وتذكرت ذاك البستان الذي اشتهر بزراعة الباميه، والتي انتشر اسمها في كل أنحاء العراق تحت مسمى الباميه الحسيناوية. لم يكن صيف العراق يكتمل من دونها، فهي نكهة الثريد العراقي – أو ما نسميه اليوم التشريب – الذي لا يعرف طعمه الحقيقي من لم يتذوق تلك الباميه.
ويا صديقي أبا عمر، ما أجملها من أيام حين كانت العائلة تجتمع مساءً حول صينية الباميه بالطماطة، يعلوها اللحم البلدي، فيما يقوم رب الأسرة بتوزيع قطع اللحم علىالواقعة الجميع بحب وعدل. لم تكن الوجبة مجرد طعام، بل كانت طقسًا من طقوس المحبة والألفة. وما إن ينتهي العشاء حتى يعلو صوت الملاعق وهي تدور في الاستكانات مع الشاي، فتسمع لها رنينًا يشبه السيمفونية الموسيقية التي تُطرب السامعين.
ثم تأتي لحظة أخرى لا تُنسى، حين تُقطع الرگيّة العراقية – أو ما يسميها البعض “الشمسي” – والتي كانت تُزرع محليًا وتسقى من ماء دجلة. كنا نُسمي الحبة الكبيرة منها العكِس، وما إن تلمسها السكين حتى تنفلق وحدها، كأنها لا تحتمل أن تحبس في جوفها ذلك الطعم اللذيذ واللون الاحمر الممزوج بماء النهر وصفاء الأرض. وطعمها ما زال حاضرًا في ألسنتنا إلى اليوم، يستحضر معه أيام الطفولة والشباب.وايام دچة الوحل..
لقد أعادني الشيخ ناظم بحديثه إلى قُرى جنوب الموصل ونواحيها : حمام العليل وقرى العريج، وقبر العبد، والصلاحية، وجهينه وجهوني، ومنيره والخفسان، وگطبة الى قريتي العين واصفيه، وصولًا إلى ناحية الشوره وقرى ناحية القيّارة.
كلها محطات في ذاكرتنا لا تمحى.
وأتذكر جيّدًا يوم قام أحد أبناء عمومتي بشراء ساحبة زراعية من قرية گبر العبد. وحين وصلت إلى قرية العين واصفيه، بدت لنا كأنها سيارة حديثة بأحدث الموديلات! كانت في زماننا تعتبر ذروة الفخر نتباهى عندما نصعد فيها ، فقد أصبحت وسيلة النقل الوحيدة التي نذهب بها إلى ناحية الشوره لجلب النفط الأبيض في الشتاء، أو لزيارة ماكينة الطحين لطحن الحبوب. وكنت آنذاك في بدايات حياتي، وسعيدًا أنني كنت السائق لتلك الساحبة، وكان مجرد الجلوس خلف مقودها حدثًا كبيرًا وذكرى لا تُنسى.
ولا أنسى أيضًا بدايات معمل سمنت حمام العليل حين انطلق بالإنتاج، وكيف كانت شاحنات الإسمنت تصطف بانتظام بانتظار دورها لتحمل خيرات الصناعة الوطنية إلى كل محافظات العراق. واليوم، عندما ننظر حولنا، نتساءل: أين ذهبت كل تلك الصناعة الوطنية؟ وأين صارت تلك الزراعة التي كنا نعتمد عليها؟ ورغم كل شيء، ما زلنا نبحث عن الباميه الحسيناوية، نضعها في البراد، لنستعيد طعمها في أيام الشتاء.
لقد كان حديثي مع الشيخ الفاضل حديثًا ممتدًا في الذاكرة، فهو من أبناء إمارة بني حمدان ومن قبيلة البو حسين، من آل الداود المعروفين بمكانتهم بين القوم، شيوخًا وأعمدة، يدافعون عن عشيرتهم في المحافل الاجتماعية ويقفون سندًا لأبناء منطقتهم. وهم أيضًا عوائل علمية برز منها الطبيب والمهندس والمحامي والمعلم والموظف، فجمعوا بين السلاح والقلم، وبين الزراعة والعلم، وبين الشجاعة والتضحية.
آل داود هم من العوائل العربية الأصيلة التي لم تبخل بدمائها في سبيل العراق، وقدّموا الشهداء منذ تأسيس الدولة العراقية، وكان من بين شهدائهم الأبرار صديقي الشيخ عامر علي الداود، وما زالوا يواصلون العطاء. للحفاظ على وحدة المجتمع وبناء التعايش السلمي الأهلي.. وفي الوقت نفسه، تجدهم متمسكين بأرضهم وزراعتهم، فمواسم الباميه في بساتين گبر العبد لا تزال تُنتظر كما كانت في الأمس، شاهدة على تاريخ طويل من الحب والعطاء.
نعم يا صديقي أبا عمر، إنها ذكريات لا تُنسى، ذكريات نكهتها الباميه الحسيناوية، ورائحتها بساتين جنوب الموصل بشطريه الشرقي والغربي ، وأصوات هدير نهر دجلة وهو يروي أرضنا الطيبة.