احتفلت روسيا بتاريخ 6/6/2021 بيوم اللغة الروسية , والذي وحدّته بالذات مع يوم ميلاد بوشكين , باعتبار اللغة الروسية وبوشكينها (وجهان لعملة واحدة!) . وبعد ايام من ذلك التاريخ دخلت انا الى مترو موسكو , فوجدت امرأة ( في مرحلة ما بعد التقاعد!) تقف عند المدخل وتوزع مجانا جريدة , وكان المارة يمرون مسرعين من قربها ولا يأخذون منها تلك الجريدة , فاقتربت انا منها , وطلبت منها نسخة , فاعطتني الجريدة وهي تبتسم راضية , فشكرتها , وحاولت ان القى نظرة على الجريدة امامها , كي لا تشعر باني قمت بذلك تعاطفا واشفاقا , فوجدت ان اسم الجريدة (مترو) , وعلى صفحتها الاولى لوحة ملوّنة جميلة وغير اعتيادية تماما لبوشكين , ومكتوب تحتها بخط بارز – ( عملنا من بوشكين بطلا لزماننا) , وتعبير ( بطل زماننا ) هو عنوان رواية ليرمنتوف , العنوان الجميل , الذي ترجمه سامي الدروبي بشكل اجمل , وهو – ( بطل من هذا الزمان) , وتذكرت أنا آنذاك المثل العالمي الشهير حول اصطياد عصفورين بحجر واحد , فالعصفور الاول – ابتسامة الرضا من تلك المرأة التي كانت توزع الجريدة , والعصفور الثاني لوحة بوشكين المدهشة تلك , وهكذا اسرعت بالذهاب , بعد او وضعت (العصفور الثاني !) في حقيبتي , كي أتأمّله عند وصولي الى البيت بامعان ودقّة , واحاول ان أجد في تلك اللوحة السمات الجمالية بشكل تفصيلي .
بدأت في البيت بالاطلاع على جريدة ( مترو) ذات العشرين صفحة من الحجم الصغير , ووجدتها منوعة ورشيقة جدا , ومن الواضح انها تعتمد على واردات الاعلانات , وتوقفت طبعا عند الصفحة السادسة , التي نشرت خمس لوحات اخرى عن بوشكين بريشة الفنانة الروسية المعاصرة انجيلا جيريخ , التي نظرت الى بوشكين بعيون الواقع الروسي المعاصر , حيث كتبت تقول – ( ..ما الذي كان سيفعله بوشكين لوكان يعيش الان بيننا في روسيا؟) واجابت عن هذا السؤال بنفسها قائلة – ( ..كان سيذهب الى المستشفى ويقف في الطابور , وسيذهب الى المخزن للتسوق , والتنزه مع اصحابه…) , وهكذا رسمت انجيلا لوحاتها عن بوشكين في مستشفى روسي بحت وهو يرتدي الكمامة المضادة لكورونا ويقف عند الجدار بانتظار دوره للدخول الى غرفة الطبيب , او , وهو يخرج من المخزن ويحمل في كلتا يديه الاكياس المليئة بالطعام , او, متنزها في الغابة الروسية بين اشجار البتولا ذات الساق الابيض والاسود , او , وهو يدخن خلسة عند تمثاله , اما اللوحة المنشورة على الصفحة الاولى , فنراه يقف عند شباك شقة روسية نموذجية جدا وشعره مشعّث وهو ينظر بحزن الى جهة اليسار . لوحات انجيلا مرسومة باسلوب يذكّرنا برسومات الاطفال التي غالبا ما نراها في المعارض الفنية . انها لوحات ذات واقعية مباشرة بغض النظر عن تناسق عناصرها , وتحمل كل سمات الفن التشكيلي البدائي (الفطري) وقواعده المتنافرة جدا ومبالغاته الملوّنة الرائعة الجمال وانطلاقات الخيال التي لا تخضع لمنطق الاشياء , وتتناسب تلك اللوحات طبعا مع رشاقة الصحيفة فعلا , وتعكس – بلا شك – المزاج الروسي العام تجاه شاعرهم بوشكين , الذي يتقبله الروس باعتباره رفيقا دائميا – بالسراء والضراء – في مسيرة حياتهم اليومية , بما فيها من مرح وحزن .
تمتعت جدا وانا اتأمّل هذه اللوحات البوشكينة , وتذكرت طبعا , موقع بوشكين (الثانوي!) في حياتنا الثقافية العربية , و تذكرت ايضا, كيف دردشنا مرة في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد عن ذلك , بعد ان اطلعنا على حوار مع عبد الوهاب البياتي في احدى الدوريات , والذي قال البياتي فيه ما معناه , ان بوشكين عند الروس مثل المتنبي عند العرب . كان النقاش اولا , هل كان البياتي يعرف ابداع بوشكين فعلا ؟ ووصلنا الى قناعة , ان البياتي لم يكن يعرف ذلك , رغم انه عاش في موسكو عدة سنوات ( ولا مجال للحديث هنا عن هذا الواقع المؤلم) , وتناقشنا ثانيا , هل ان اهمية بوشكين عند الروس هي فعلا مثل اهمية المتنبي عند العرب ؟ ووصلنا الى قناعة تقول , انهما يختلفان من حيث الاهمية لشعبيهما , فنحن العرب نبحث عند المتنبي عن الحكمة الانسانية الخالدة , اما الروس , فانهم لا يبحثون عند بوشكين عن الحكمة , وانما عن لغتهم الروسية المعاصرة , اذ ان بوشكين ( الذي عاش 38 سنة فقط) هو احد الذين صاغوا هذه اللغة , التي يتحدث بها الروس اليوم , ويكفي الاشارة هنا الى ان (قاموس لغة بوشكين) يتضمن مفردات روسية اكثر بكثير من المفردات التي يضمها ( قاموس لغة تولستوي ) , صاحب الرقم الاول في عدد مؤلفاته , اذ ان مؤلفات تولستوي الكاملة تبلغ التسعين , علما ان تولستوي عاش اكثر من سبعين سنة بعد وفاة بوشكين , وليس من باب الصدفة ابدا , ان روسيا اعلنت يوم اللغة الروسية في عيد ميلاد بوشكين بالذات كما أشرنا في بداية هذه المقالة .
تحية من القلب الى بوشكين , استاذ السهل الممتنع العميق , والذي تحتفل بلاده بمرور 222 سنة على ميلاده, وشكرا جزيلا للفنانة التشكيلية انجيلا جيريخ , التي أتحفتنا بلوحاتها المدهشة الجمال عن بوشكين وهو يقف بيننا , وشكرا لجريدة (مترو), التي احتفلت باسلوبها المتميّز بعيد ميلاد بوشكين , والتي أشارت , الى ان بوشكين سيكون سعيدا بهذه اللوحات المرحة والضاحكة , لان بوشكين نفسه كان يعشق المرح والضحك ………