18 ديسمبر، 2024 5:18 م

قصّة قصيرة
1 ـ الأصابع غير المرئية.

ماذا؟ أنت أيضا.. تضنّ أنّي معتوه.. لا. لا.. أنت لست مثلهم.. اعتقدتُ أني وجدت أخيرا صديقا يسمعني بدماغه.. لا. هم يسمعون بآذانهم فقط.. سطحيّون.. بؤساء.. لذلك يشكّون في كلّ شيء. أمّا أنت.. أنت فقط.. تستطيع يا صديقي أن تسمع وترى.. أن تنجح في إدراك الأشياء..
ـ بدماغك هذا.
ثمّ وضع أصبعاً قرب أذني اليمنى، وضغط على مخّي أكثر:
ـ أترى؟ هذه هي ذراع الجحيم.
في هذه اللّحظة، أحسست بالأرض تدور، تحاول إسقاطي.
تمتمتُ بصعوبة شديدة:
ـ كيف؟ كيف وأنت تضع كلتا يديك في الجيوب؟
قال:
ـ الآن، هل تأكّدت أنّي أملك ذراعا ثالثة.
همست مذعورا:
ـ مستحيل.
فصاح غاضبا:
ـ مستحيل ؟ لأنّك لا تراها؟ إنّها ليست كهاتين. هي ذراع من عالم آخر.
وأخرج أصابعه العشرة من جيبي المعطف الطويل. وشرع يستعرض أصبعا تلو آخر، ثمّ أضاف بنبرة حازمة:
ـ وجدتها هناك.. في الرّماد.. كانت وحدها.. (هي.. أنا.. ورماد الجحيم).
في لحظة ما تختلف الأوضاع. اليقين مقابل الشكّ. مثل الحروب تماما. يطلاّن برأسيهما من الخنادق، ويبدأ القصف. لكن ما هو الشّكّ في أخلاقيات الصّراع، إذا لم يكن مجرّد جهل باستخدام الأسلحة. جهل من نوع سطحي ومقرف. جهل لطيف في غالب الأحيان.
صفع خدّي الأيمن بدعابة خفيفة، دون أن يحرّك ذراعيه الاثنتين. يريد ربّما أن يزيل آخر فقاعة شكّ من رأسي.
ـ المشكل.. أعني.. ماذا أفعل بها؟ دخت يا صديقي.
أظلم المساء في وجه شجيرات الأُترجّ. ولم تعد “حومة ” القايد عاشور ترسل من دكاكينها رائحة النُّخالة، حتّى الخطوات الحزينة للعائدات من المحكمة اختفت عن الاسفلت المنكوب. كنّ طوال اليوم يلعنّ بصوت بدويّ مكاتب المحامين ومرائب الكتّاب العموميين.
أظلم المساء.

2 ـ آخر كائن يضحك بجدّية.

كنت أدقّ الباب الخشبيّ يمين المصبنة القديمة في حومة القايد. كلّ شهر تقريبا، تحت إلحاح شديد منه، تعلّمت مع مرور الوقت، أنّ صديقي مستلقٍ الآن تحت البطّانيّات الخشنة، فأنا لا أراه من هذه النّقطة بالضبط، حيث تلتقي طريق المحكمة بالأخرى الآتية من باب المسجد العتيق. غالبا يكون جالسا على كرسيّ من خشب الموسكي، تحت شجرة الأترُجّة، أمام عتبة المرأب البارد.
سيكون عاري الرّأس والقدمين كالعادة، تحت المصباح الوحيد في الغرفة، المتدلّي في سلك إسْودّ غشاؤه الأبيض ببراز الذّباب. يفترس في نهم زائد أخبار الحروب أو الكوارث. ولا يهدأ من تسريح شاربه الطويل. التلفاز الصّغير معلّق منذ سنين على ربع خشبة الأكاجو. يدعّمها مسماران كبيران وغريبا الشّكل، أظن أن فصيلتهما قد انقرضت من السّوق منذ عشر سنوات على الأقل. على سرير معدني لا يكفّ عن الأنين، يسند رأسه للجدار الآيل للسّقوط. في الخلف منازل من الثلاثينيات قد سقطت فعلا، أو هي فارغة من السكان، تستعمرها عشرات القطط ذوات العيون الكاذبة: عيون تنظر إليك بإمعان ملّح فتظن أنّ لديها سرّا من أجلك. والحقيقة هي نظرات خادعة، إنّها تفكّر مثلها مثل معظم البشر في أشياء تافهة، كالتناسل بعنف مغربيّ في ظلال الجدران المهدّمة. أو في حقول البابونَج الّتي تغزو ساحات الدّيار المهجورة.
كنت أزور أحنصال كلّ شهر. لأنّي أجد فيه صديقا عظيما من العهد القديم. الجلسة العسكريّة والصوت البدويّ والّلكنة الأمازيغية الصلدة. ورغم الظروف الّتي يعيشها، إلّا أنّه يملك هيبة جنرال من الحرب العالمية. كان أحنصال طويلا، عريض الكتفين، وجهه يحمل آثار كوارث كبيرة. ستّون سنة التي عاشها حتّى الآن ،خلّفت كلّ التجاعيد الميّتة الّتي تغزو وجهه الأسمر. وحوّلته إلى ما يشبه قراب جلد عتيق.
كان يرتدي دائما جلبابا صوفيا. ويضع فوق الجلباب معطفا عسكريا في لون الصّبار. المعطف طويل وممتدّ حتى يكاد يلامس الحذاء الأسود الثقيل. عمامة صفراء تلتفُّ حول الرأس في لفّتين ثمّ تختفي خلف القِبّ. على الصّدر يعلّق نجمة فضّية وخيوطا ملوّنة: زرقاء وبيضاء. وميداليّة عسكريّة يقف في مركزها جنديّ من الكوم بوجه صلد وعيون تائهة، شاهرا بندقية الكاركانو نحو صدر العالم.
كان يضحك محدثا قهقهات ضخمة.. متتالية.. مسترسلة. بعدها ينسى موضوع الحديث تماما. فيعود بعد استراحة خفيفة ليسأل:
ـ أين كنّا يا صديقي.
وكنت قد تعلّمت أن أحتفظ برؤوس المواضيع حتّى ينتهي من الضحك. وأغلب الضن أنّ تلك القهقهات المدوية كانت تعجبني أكثر من حكاياته الّتي لا تنتهي، عن مغامراته في الحرب الهند الصينية ـ لاندوشين ـ كما يسمّيها هو. وكنت أقول في نفسي، إنّ الرّجل يضحك من قلبه. في كثير من الأحيان اعتبرته آخر كائن يعبّر بمجرّد ضحكة عن روح الإنسان فينا. عن صفاء السريرة المفقود. كائن صلب. فشلت المدينة في تغيير جوهر الطبيعة داخله. عكس ما وصلته الشوارع والدّروب والعمارات المعاصرة من زيف خادع.

3ـ رماد.. رماد فقط.

الشّهر الماضي كان ممطرا، كانت السّماء غاضبة، أخرجت كلّ العنف الّذي تخفيه في بطنها: رعد كثيف، وبرق يضيء المدينة في كلّ لحظة. وهبّت مياه الأمطار تغسل وجه الدّرب. وتحمل أوساخ الصّيف نحو غابة مرابّو.
ـ الأيّام لا تتكرّر. ( قال لي) رغم أنّها تبدو كذلك.
لم أفهم، وربّما تصنّعت عدم الفهم ذاك، بحركة من عينيّ. والحقيقة لم أهتم بهذه الفكرة الّتي يردّدها الكلّ في المدينة. هم لا يعنون بها أيّ شيء على الإطلاق غير ترقيع الفراغ. لقد كنت منشغلا بملامح السيد أحنصال الّتي تغيّرت للتّو. خمّنت لحظتها أن سرّا خطيرا على وشك الانفجار.
وبالفعل، علت مسحة مرعبة وجهه الخشبي:
ـ أتعرف أنّي كنت ميتا في لاندوشين؟
قلت وأنا أفكّر إن كان هذا هو السّر المدفون:
ـ لا. فأنت لم يسبق أن أخبرتني
ـ صحيح. اعتقدت أنّك مثلهم.. ستتهمني بالجنون.
ـ لكن. لماذا؟ كلّ النّاس تموت.
ـ حقّا تموت. لكن هل يسكن الموتى مرأبا في حومة القايد؟ هل يمكن مجالسة الموتى كما تفعل أنت الآنّ؟
ـ هذا مستحيل.
ـ لا صديقي. إنّه ممكن.
في هذه اللحظة دوّى رعد مرعب. أكثر عنفا من ذي قبل، ثمّ شرعت السّماء في التدفّق على سطوح المنازل وعلى الشّوارع. حرّكت الكرسيّ لا أعرف لماذا فعلت ذلك. غالبا تفعل النّاس هذا وهي تعتقد أنّها تستعدّ لخطر ما. عدّلت من جلستي.
ـ أتعرف.. ليس هناك سماء.. رماد.. رماد فقط.
يصعب فهم بعض الأشياء. باستخدام عقل قليل التجربة. بالمقابل، كلّ شيء قابل للنّقاش. حتّى الأفكار الّي تبدو استثنائية.
سألت:
ـ سيد أحنصال..
ثمّ صمَتّ. كنت سأسأل ما إذا كان كلامه هذا مجرّد هذيان. وفي نفس اللّحظة خمّنت أنّي لن ألعب سوى دور المخبول إن طرحتُ مثل هذا السّؤال. وتذكّرت أن الهذيان أصدق من كلام المناطقة. حتّى لو جنّدوا جلّ الألاعيب المنطقية الّتي في بطونهم. طيّب ما الهذيان إذن غير تلك الرّوح الشّفافة كقطع الثلج. الرّوح الّتي يمكن أن ترى عبرها الأفكار والنّوايا عارية كعرائس الغجر. عكس المنطق، الّذي يحشوه البؤساء بقرميد الواقع المليء بالشحّاذين. ربّما أحسّ أحنصال بما أخفيه، فمدّ يده ليداعب الشّارب.
ـ في الحقيقة، قمتُ بما يشبه عمليّة.
ردّدت:
ـ عملية في مستشفى.
عدّل هو الآخر من جلسته وقال:
ـ عملية انتحار أمام خندق في لاندوشين. لقد مللت حياتي هناك.
لم أستطع مجاراته في هذه الأخبار المرعبة. لكنّه كان يصرّ بشكل غريب. عرفت أنّه يريد أن يتحرّر من ثقل كبير. عزمت أن أمنحه فرصة. هكذا دوما تتمّ الأشياء، تمنح فرصة لتفريغ الحمولات الثقيلة، تمنح بسرعة ومن دون تردّد. لقد كان إنسانا من العهد القديم. وقد خبّر الحياة وعرف أنّها مجرّد صراع لا ينتهي إلّا ليبدأ من جديد. لهذا فهو يستحقّ فرصة. لذا عزمت أن أكون سخيّا مع هذا الرّجل الغريب. أن أجعله يقول.. يقول.

4 ـ كانت هناك.. تتحرّك.

ـ هل التقيت أحدا هناك؟
ـ لا.
ـ إذن أنت لم تكلّم أحدا في الجحيم.
ـ لا. لكن.. كنت أكلّم نفسي.
ـ كيف؟
ـ كنت وحيدا.. أستلقي على رماد ممتدّ بلا نهاية، وأتمرّن.
ـ (صمت)
ـ كنت سأطلب من الرّب أن يسامحني. لأنّي عشت الحياة وحيدا.. طفلا بلا مأوى.. شابّا بلا عمل.. رجلا مثل دودة تحت الأرض، في بلاد الصين.. بلا أولاد ولا أوتاد.. كنت سأرجوه.. فأنا لم أملك ذراع عون في حياتي.
ـ ألذلك.. نلت ذراعا ثالثةّ؟
ـ أظنّ ذلك. وجدتها ساقطة قرب رأسي.. كانت هناك.. تتحرّك فوق الرّماد.
ــ لكن، فيم فكّرت ساعتئذ؟
ـ في.. لا شيء.. هي تحرّكت ثمّ التصقت بصدري.. بعدها وجدت نفسي واقفا في شارع المدينة.
ـ وأنت..
ـ نعم، وأنا أحرّك ثلاثة أذرع في جسدي. ذراعاي العاديتان وذراع الرّماد.
خمّنت أنّ وجهي أصبح أزرق اللّون من كثرة الرّعب. أحسست بفمي قد جفّ تماما. لا أدري هل أصدّق ما يقوله هذا الرّجل أم لا. لكن الرّجال يخفون دائما أكوام الخوف ولا يعلنون. ربّما هم هكذا دوماٌ.
ـ المشكل يا صديقي الأستاذ.. أنّي لا أعرف ماذا أفعل بذراع الرّماد هذه.

5 ـ ذراع الرّماد.

يبدو أنّ فصل الخريف قد اقترض أسبوعا كاملا من الرّبيع. كانت السّماء هادئة كطفل ينام بمُصيصة مطّاط. ريح خفيفة ودافئة تداعب شجيرات الشّارع. مثل هذه اللّحظات تشبه الفواكه الّتي تنضج قبل وقتها. غالبا ما تكون شديدة الإغراء. تذكّرت صديقي أحنصال. لا بدّ أن يكون وجيدا أصيل هذا اليوم. ينتظر أن تجفّ الجلابية والمعطف العسكري المنشوران على غصن الأترُجّة. يتلهّى بوجوه المارّة وهم ينزلون الدّرب في اتجاه الدّيار الحمراء في أقصى المدينة.
حين ألقيت أوّل نظرة على الشّارع، لم يكن هناك على الأغصان ملابس منشورة. الكرسيّ أيضا ليس هناك على باب المرأب. همست في نفسي:
ـ هذا غريب.. لأوّل مرّة يغيب أحنصال عن الدّرب في مثل هذا الغروب الجميل.
كان الباب الخشبي شبه مفتوح. غير أنّ موّاء قطة يخرج من الفتحة الصّغيرة. وهذا بالنسبة لي شيء مفاجئ. كان صوتها أشبه بولولة مفزعة. وقبل أن أدفع الباب، صاح مستخدم المصبنة.
ـ أستاذ.. تعازينا..
سألت
ـ أمات؟
عانقني:
ـ دُفن البارحة.. كان يسأل عنك طوال هذا الأسبوع.
بكيت. بعدها أغلق المستخدم مصبنة الحيّ، وغادر عبر زقاق ضيق. وجدت الفرصة مواتية لألقي آخر نضرة على المرأب المهجور. كان كلّ شيء هناك في المرأب البارد: السّرير الحديدي.. كرسيّ الأكاجو.. الجلباب والمعطف العسكري. وكانت القطّة السّوداء تقف مذعورة أمام ذراع الرّماد ذاك. اقتربت أكثر.
ـ نعم.. هي (ذراع الرّماد). ثمّ هويت للأرض، فقدت الوعي.
لحظات فقط.. وجدت نفسي ممدّدا في حقل جحيم مهجور، حيث لا سماء ولا شجر. وقرب رأسي تتحرّك الذّراع الغريبة وتقترب بهدوء مرعب.
وغرقت هناك في تفكير عميق:
عرفت أنّي في ورطة كبيرة.. فأنا أيضا لا أعرف ما أفعل بذراع الرّماد هاته.