23 ديسمبر، 2024 1:41 ص

ذراء الجامحة – 6 –

ذراء الجامحة – 6 –

الحلقة رقم – 6 –

أشفق على حالها عندما كان يشاهد التقلبات المستمرة التي تطرأ على تقاسيم بشرتها المستوحاة من بشرة والدتها. لقد عذبته بذلك السوط الجلدي قبل ساعات قليلة ولكنه يستطيع الأن أن يسحقها بكلماته عن والدتها وعن حبه المفقود في زمن غابر. يا الهي كم بدت له ضعيفة أمامه الآن!. هل يسحقها وينتقم لتلك السياط التي أحرقت جسده قبل ساعات؟. أنه يرأف على حالها الأن، لن يحطم فتاة أو امرأة مهما كانت الظروف المحيطة به. شاهدها تتكور في زاوية من زوايا الملجأ تستعطفه في داخلها أن ينهي مرافعته عن تلك الجريمة التي لم يرتكبها في حق والدتها. نظر اليها وهو يستطرد في حديثه الطويل قائلاً ” ..عندما أنهت – وفاء – حديثها حاولت أن أهجم بأقتراح أعرف بأنه مستحيل ولن تقبل به مطلقاً طبقاً إلى نشأتها العائلية. قلت لها- الحقيقة شعرت بأنني كنت ضيفاً ثقيلاً عليك ولذلك إنسحبت من أمامك، ولكن طالما أننا الوحيدان اللذان جئنا إلى الجامعة..أعتقد أننا سبقنا الزمن، لايوجد أي طالب . لماذا لا نذهب إلى شوارع العاصمة ونلقي نظرة على المحلات التجارية وربما نشتري شيئاً ما .. لم أحضر إلى العاصمة إلاّ مرات قليلة جداً مع شقيقي الكبير. لقد أعطتني والدتي عشرة دنانير هذا اليوم وأعتقد أن هذا المبلغ كاف لشراء قليلاً من الطعام والذهاب إلى السينما لمشاهدة أحد الأفلام الهندية، سأشتري لك بطاقة الدخول إلى السينما ، كنتُ أتحدث أليها بطريقة هادئة وكأنني لا أهتم لجوابها. أردت أي طريقة للهروب والعودة إلى قريتي الصغيرة فقد أشتقت لها بشكل لا يوصف أردتها أن ترفض ويذهب كل شخص إلى طريقه الذي جاء منه. أردت الخلاص من هذا التجمع البشري البسيط بأسرع وقت. الغريب أنها نظرت اليّ بعينين مندهشتين ثم قالت بثقة نفس عالية “..تصورت أنك شاب ريفي خجول. يبدوا أنني أخطأت في تصوراتي. كيف تجرؤ على دعوتي إلى السينما والتجول في شوارع العاصمة؟. لم نعرف بعضنا البعض إلا قبل لحظات قليلة. حقاً أنتَ جرئ” . ضحكت وهي تقول:«ولكن مع هذا سأوافق على دعوتك. لن تأكلني إذا سرتُ معك في الشارع ولا حتى داخل السينما. أعرف كيف أدافع عن نفسي، ولكن أنتَ تتحمل كافة المصاريف فليس لديّ سوى أجرة العودة إلى البيت ” . فتحت حقيبتها وأخرجت النقود وهي تقول ” ..أنظر، حتى أكون صادقة معك، ليس معي سوى هذه النقود ” . شعرت بالسعادة والحرج في نفس الوقت عندما كنت أنظر إلى النقود التي كانت تقبض عليها في يدها اليمنى كأنها كنز ثمين. لم أتصور أن هناك فتاة تأتي إلى هذا الصرح الجامعي الكبير وفي اليوم الأول للدراسة وليس معها سوى هذه النقود القليلة. وشعرت بالسعادة لأنني سأظهر أمامها كأنني الفتى الذي يملك زمام الأمور المالية. قلتُ لها بنشوة ” “..فلنذهب إذاً، وليكن هذا اليوم يوماً تعارفياً لكلينا.” ………… سرنا في شوارع كبيرة مزدحمة بالناس والسيارات والمحلات التجارية . كان ذلك اليوم بالنسبة لي يوماً كرنڤالياً. لأول مرة في حياتي أشعر بالمسؤولية تجاه مخلوق بشري، أحسستُ أني أصبحت رجلاً كبيراً. كانت تتحدث عن كل شيء، وكلما أستطردت في حديثها عن نفسها وعن عائلتها إزداد إعجابي بها. لم أتصور أن شياً كهذا سيحدث معي يوماً ما. قرأت روايات رومانسية لا تعد ولا تحصى ولكنني لم أشعر طعماً لسعادة كهذه السعادة التي أمر بها الأن. تناولنا طعاماً بسيطاً وشربنا مشروبات غازية كثيرة. كلما دفعت عنها كانت تقول لي ” ..عندما أتخرج سأعيد لك هذه النقود أضعافاً مضاعفة ” . كنت أضحك من كلامها وأقول:«ومتى تتخرجين؟. بعد أربع سنوات!!. لا أريد نقودك، سأكون قد تخرجت مثلك». كنا نضحك على كل شيء ومن كل شيء. كانت تتمتع بروح الدعابة. كان بعض الشباب ينظرون إلينا عندما كنا واقفين قريباً من شباك التذاكر كنت أقول لها مداعباً ” .. ماذا لو هجم علينا هؤلاء الفتيان؟ “. كانت تقول ضاحكة ” ..أنت لا تعرفني دعهم يفعلون شيئا ما، وسترى ماذا سيحل بهم” . الغريب أنها كانت تمدّني بشجاعة لم أجد لها مثيل من قبل. إنتهى ذلك اليوم بسعادة لا توصف. قالت بأنها تريد مرافقتي إلى السيارة التي تأخذني إلى محافظة(…..). وقبل أن أستقل السيارة قلت لها ” ..أشكرك جداً أعدتِ اليّ الحياة فقد كنت عازماً للذهاب إلى الكلية العسكرية بعد حديثي الأول معك. سأعمل المستحيل لأكون من الطلبة الأوائل في هذه الجامعة من أجلك فقط.” . إبتسمت بحياء وغطت خديّها صبغة حمراء كتلك التي تستحوذ على الفتيات العذراوات عند لقائهن الأول مع من يعشقن. دون وعي أخرجتُ ثلاثة دنانير ووضعتها بقوة في يدها وقفزت نحو الحافلة التي تأخذني إلى الطريق الطويل حيث القرية التي نشأت بها منذ ولادتي. ظلت مذهولة وهي تركز نظراتها على النقود القليلة–الكثيرة- في نظرها. إنطلقت الحافلة. رفعت يدي ملوحاً لها كأنني ذاهب مع الريح بلا عودة. رفعت يدها اليمنى وأبتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها. بقيت أنظر إليها إلى أن إختفت تماما عن الأنظار. أغمضت عيناي وأنا أريح نفسي في المقعد الأخير من الحافلة. كنت أستعيد كل لحظة من لحظات وجودها معي. أحياناً أبتسم وأحياناً أخرى أضحك بصمت. يا الهي هل هذا هو الحب البريء الذي يتحدث عنه الشعراء والقصاصون؟. قلبي يخفق بشدة، يكاد يقفز من بين ضلوعي. بدأت أرى الحياة بمنظارٍ أخر. لماذا أنا فرح إلى هذا الحد؟ هل صحيح إنني أعيش هذه الروحية الأن؟. أشياء وأشياء لا تعد ولا تحصى. ولكن لماذا أشعر بالشوق الشديد لمشاهدتها مرة أخرى؟. هل أن القدر ألقاها في طريقي أم أن القدر القاني في طريقها؟” . توقف الرجل عن الحديث فقد شعر بأرهاق شديد من هذا السرد الذي لا ينتهي. ظل صامتاً ساهماً في أفكار كثيرة. نهضت سميرة وأتجهت نحو-الطباخ النفطي الصغير-. قالت بهمسٍ وكأنها تتحدث إلى نفسها ” ..سأعمل قدحين من الشاي، يوجد هنا كل شيء فقد كان والدي قد وفر لنا أشياء كثيرة في هذا المكان.. كان يوصينا بضرورة أدامة هذا المكان. كنا نجلب أشياء بين فترة وأخرى تحسباً لحدوث طارئ ما . وبالفعل لقد جاء اليوم الذي نستطيع الأستفادة من هذا المكان” . كانت سميرة تتنقل في أرجاء الملجأ لتحضر ما تحتاجه لعمل الشاي. كان ينظر إليها بعينين شاردتين، كانت تتلوى في حركتها مما يجعل بعض مفاتن جسدها تتكور تحت الملابس وكأنها تصرخ بها طالبة منها أظهار تلك المفاتن لذلك الرجل القابع في الزاوية الأخرى من الملجأ. لم يكن يرى سميرة أمامه، كان يرى حبه القديم في صورة فتاة أخرى.

جلست سميرة مرة أخرى في مكانها بعد أن قدّمت له قدحاً من الشاي. قالت بهدوء وهي ترتشف رشفات صغيرة من قدحها:«وماذا حدث بعد ذلك»؟. تطلع إليها الرجل بعينين مرهقتين، كان يرأف لحالها. لم يعد له ذلك الحماس في سرد الواقع الماضي الذي كان بالنسبة له مجرد ذكريات مطوية تحت غبار الزمن السحيق. وضع قدحه الفارغ بالقرب منه، ثم نظر إلى الأفق البعيد من خلال الفتحات الصغيرة. أراد أن يتوقف عن سرد باقي القصة القديمة وطوي صفحة الماضي إلى الأبد بَيْدَ أنه أحسّ فجأة بضرورة مُلحّة لأنهاء ما كان قد بدأه في حكايته. إستطرد بعدها قائلا بحزنٍ شديد ” ..ىالنسبة لي كانت السنة الدراسية الأولى ضرباً من ضروب الخيال. كنا لا نفارق بعضنا لحظة واحدة طيلة اليوم. نجلس قريباً من بعضنا البعض داخل قاعة المحاضرات، نلعب كرة الطائرة سوية. نتجول داخل الحرم الجامعي- لدرجة أن الفتيات بدأن يتسألن عن موعد الزفاف. كنتُ أنظر إليها كزميلة فقط، لم أفكر بالزواج منها في ذلك الوقت. نقشت أسمها على فخذي الأيسر وكان ذلك مصدر سخرية من بعض الطالبات. كان- أسم وفاء واضحاً على فخذي الأيسر، كنتُ أتباهى عندما كنا نخرج جميعاً إلى ساحة الملعب الرياضي-في درس التربية الرياضية- كانت وفاء تقول لي بأنني سببت لها بعضاً من الإحراج لأن الفتيات بدأن يتغامزن حين أرتدي الشورت الرياضي أثناء لعب كرة الطائرة. كنت فخوراً بذلك ، لا بل كنت أشعر بسعادة غامرة. في السنة الثانية من الدراسة وفي يوم ثلجي قالت لي بأن مدرس التربية الرياضية في الجامعة طلب يدها للزواج وأخبرتني بضرورة أتخاذ قرار فوري وحازم في هذا الصدد- أما أن أتزوجها فورا أو أنها ستقبل بالزواج منه- في البداية كنت أتصور أنها تمزح معي أو تريد أثارة غيرتي، لكنها كانت جادة في الموضوع. أعطتني مهلة ثلاثة أيام أو أنها ستعتبرني مجرد أخ أو زميل وتذهب هي في طريقها الجديد طريق الحياة الزوجية-. إسودت الدنيا في عيني وشعرت أن الأرض تدور بي. أخبرتها أن تنتظر ثلاث سنين أخرى أي بعد التخرج- ولكنها قالت بأن هذا محال، ولا تستطيع أن تفقد هذه الفرصة من يدها. كان وضعي الأجتماعي والمادي لا يسمح أبداً حتى لخطبتها. فجأة غابت عن الجامعة…………. عادت بعد أسبوعين وكأنها فتاة أو امرأة أخرى- إبتعدت عني، لم تعد تجلس قربي أثناء المحاضرات، كنت أشاهدها تستقل سيارة مرسيدس زرقاء مع الرجل الجديد- عفواً مدرس الرياضة-. بدأت أسير وحدي في الحرم الجامعي، لم أعد أقترب من أي فتاة، تركت الرياضة – كنت أغيب في درس التربية الرياضية-. بدأت أدرس كل الوقت داخل الجامعة،لم أضيّع لحظة واحدة. بدأت بعض الطالبات يتقربن مني، إلا أنني كنت أهرب منهن على الدوام. أصبحت انطوائيا تماماً. كنت أنظر إلى أي فتاة داخل الجامعة وكأنها مشروع خيانة بحد ذاته. كنت أعود إلى القرية كل مساء مهموماً وكأن الدنيا سوداء تماماً. في أحد الأيام كنت جالساً تحت أحدى الشجرات الباسقات في البستان القريب من دارنا المحاذي للنهر الكبير أطالع دروسي بشرود ذهني تماماً. وأذا- بخالدة- تقترب مني. خالدة فتاة أنهت الدراسة الأعدادية ولكنها لم تذهب إلى الجامعة بسبب التقاليد الأجتماعية الصارمة في القرية لذلك توقفت عن الدراسة وأنصرفت لشؤون البيت والزراعة مع والدها وأمها وشقيقها أحمد. دون سابق أنذار جلست على مسافة قريبة مني وقالت دون حياء “..هل لازلت تفكر بها.. أقصد وفاء- شعرتُ بتيار كهربائي يجتاح كل زاوية من زوايا روحي. لم أتصور أن[خالدة]،تعرف شياً عن علاقتي بتلك الطالبة التي هاجرت بعيداً عن قلبي بسبب فرصة ذهبية حطت قريباً منها وتركت الفتى الريفي يتلوى في آلامه وأحلامه بعيداً عن الواقع المرير. فهمت منها أن شقيقتي الكبيرة هي التي أخبرتها كل شيء عن قصتي الفاشلة. كنت أحدث شقيقتي عن كل شيء يحدث مع تلك الفتاة القادمة من أعماق العاصمة. دون أن تهتم لأضطرابي قالت بجرأة ” ..لماذا أنتم هكذا أيها الفتيان؟ لماذا تفكرون بالفتاة التي تترككم وتنسون الفتاة التي تفكر بكم على الدوام؟. يبدوا أن من قال أن مطربة الحي لا تطرب كان محقاً في قوله. لماذا تعيش هكذا كالأنسان البائس المحطم؟. إنس الماضي وأبدأ حياتك من جديد. أنت لا تزال في عنفوان الشباب وأمامك مستقبل زاهر. فكر بمستقبلك فقط. ستنساها بعد سنة أو أكثر. وقد تجد فتاة أحسن منها آلاف المرات. أنا فتاة من الريف ولكن أستطيع القراءة، لقد قرأت كل الروايات التي تمتلكها أنت، كانت أختك تجلب لي رواية من رواياتك كلما أنهيت قراءة واحدة. لقد قرأت كثيراً عن آلام العشاق وكيف كانت بعض الفتيات يهربن مع بعضهم ويبقى الفتى يئن ويشعر بالضياع. لقد أصبحت أحتقر كل فتى يبكي ويتألم على فتاة تتركه وأقول مع نفسي- يا لهذا الفتى المغفل- يبكي من أجل فتاة لا تريده , أين رجولته وأين كبرياءه. كنت أشعر أن هؤلاء الفتيان ما هم إلا صور ورقية تتقاذفها الرياح. لو كنت فتى مثلك وتتركني الفتاة التي كنت أتعلق بها، لمزّقت كل صورها وأبدأ حياة جديدة. إترك هذا الخيال وألتفت إلى الواقع الذي تحيا به. إنها ليست نهاية العالم . الغريب أن كلماتها أعادتني إلى الواقع حقاً. سكتت قليلاً وقالت بتحدي وهي تنظر في عينيّ ” .. إسمع. قل ما تشاء عني ولكني سأقول لك شيئاً مهما. قبل سنتين وأنا أحلم بك زوجاً لي. كنت أتقرب من شقيقتك من أجلك فقط، ولكنك كنت غارقاً في حبكَ الوهمي. أسمع جيداً. أنا أحبك وأذا أردت الزواج مني سأنتظرك مئات السنين ولكن لا أحب أن يكون الفتى الذي أحلم به زوجاً ضعيفاً مثلك هكذا. ،إذا أردت الزواج مني أذهب فوراً لأبي أو لأخي وإنظر في عينيّ كل واحد منهما وقل بتحدي(أريد الزواج من خالدة). أما أذا كنت لا تريد الزواج مني، فلن أبكي مثلك أو أشعر بالضياع. من يدري ربما يأتي يوماً ما فتى أحسن منك وأشجع منك. سأتزوجه ولكن سيبقى حبك في قلبي إلى الأبد. صحيح أنا قرأت روايات رومانسية كثيرة وأحلم أحياناً مثل بطلة القصة- أن يأتي الفارس على حصانه ويخطفني بعيداً ونتزوج بين الزهور والبساتين في عالم من السحر والجمال- ولكني فتاة ريفية واقعية أومن بالأشياء المحسوسة، الأشياء التي أملكها في يدي. الأمر متروك لك.. أذا كانت لديك رغبة أذهب فوراً. زواجي لن يكلفك أي شيء. من يدري قد أدفع لك مصاريف الزواج. لقد أدخرّت مبلغاً جيداً من المال من بيع المحصول الزراعي عدة سنوات. نهضت وهي تقول بثقة – بالمناسبة خذ هذا السوار الذهبي إنه هدية لك، بعه وأستفد منه فلديّ عدد لا بأس به من القطع الذهبية. القته أمامي وكأنها تتحداني وذهبت بهدوء نحو البيت الملاصق لبيتنا. شعرت بالذل والمهانة أمامها. شعرت أنها تتحداني. فجأة شعرت برغبة جامحة .. رغبة هستيرية للاستحواذ عليها بأي ثمن. كانت تتحدى رجولتي وشبابي الثائر. نهضت مسرعاً خلفها. حاولت اللحاق بها ولكنها دخلت بيتها قبل أن أصل أليها. ذهبت إلى والدتي وقلت لها:«فلنذهب الأن لنخطب خالدة.. أريدها أن تكون زوجة لي». نظرت إليّ وكأنها تحولت إلى إنسانة أخرى. إعتقدت أنني فقدت عقلي. قالت بهدوء:«هل أنت في كامل قواك العقلية أم أنت تمزح معي؟ أما شقيقتي فقد كانت تنظر إليّ وهي تبتسم ثم قالت – ولكن هل لديك ثمن الخطوبة؟ . قلت لها:«خالدة أعطتني هذا السوار الذهبي وطلبت مني بيعه والأستفادة من ثمنه» نظرت كل من والدتي وشقيقتي بذهول نحو القطعة الذهبية الكبيرة. لم يصدقا عينيهما. قالت والدتي- من المؤكد أنك فقدت عقلك. أنس الموضوع . حينما وجدت والدتي أصراري أردفت قائلة- حسناً، فلننتظر حتى الصيف القادم، إذا كنت لا تزال مصراً سأذهب معك لخطبتها، أما إذا كان الأمر مجرد نزوة عابرة عندها سننسى الأمر، ماذا تقول؟. دون أنتظار قالت شقيقتي – هذا شيء جميل أنا أوافق والدتي على ذلك، من يدري قد تستجد أمور. إذا كانت تحبك لن تتخلى عنك كما تخلت عنك وفاء.. شعرت بالهدوء وقبلت بذلك الحل. فجأة شعرت أن الحياة أصبحت غير تلك التي كنت أعيشها بعد أن غادرت وفاء إلى الأبد من محيط خيالي وحياتي. أصبحت خالدة تأتي إلى الشجرة الباسقة كلما شاهدتني أقرا دروسي هناك. بدأت تجلب لي بعض الطعام كلما سنحت الفرصة. قبل أنتهاء الدراسة بشهر جلبت لى كافة مصوغاتها الذهبية وهي تقول بهدوء:«إسمع خذ هذه المصوغات وقدمها لي في الخطوبة ولكن لا تقل لأي شخص من أفراد عائلتي بأنني أعطيتك إياها. لا أحد يعرف انني أملك كل هذه المصوغات الذهبية. كنت أدخر كل نقودي التي أحصل عليها وأشتري بها الذهب.». ولا أريد الاسترسال بتلك القصة الطويلة. في الصيف تزوجنا.أجبرتني على تعلم ركوب الخيل. كانت ماهرة جداً في ركوب الخيل وربما أفضل منكِ. كان لديهم أربعة جياد وكانت تتقن أمتطاء الخيل منذ أن كانت طفلة. كانت تقول لي دائماً«على الرجل أن يتعلم السباحة وركوب الخيل». الحقيقة كنت اكره السباحة ولكنني تعلمت ركوب الخيل. في السنة الدراسية اللاحقة طلبت مني أن أصطحبها إلى الجامعة- كانت تريد رؤية وفاء بأي ثمن-. حاولت أن أقول لها بأن هذا الأمر قد يسبب لنا بعض الإحراج. قالت بثقة:«لا تخشى شيء أنا أعرف كيف أتصرف». وفعلاً أخذتها معي في أحد الأيام وكنت في السنة الثالثة. كانت ترتدي العباءة السوداء- الحق يقال أن خالدة أجمل من وفاء- لها عينان دائريتان سوداوان كأنهما الهلال في ليلة مقمره وشعر طويل يصل إلى بطة ساقها. طلبت مني أن تنتظرني على نفس المقعد الذي قابلت فيه وفاء أول مرة. لم أدخل أي محاضرة ذلك اليوم، كنت أسير معها داخل الحرم الجامعي وكانت الفتاة- أو المرأة الوحيدة- التي ترتدي العباءة. كانت بعض الطالبات يتهامسن ويضحكن عليّ. لم أهتم لأي واحدة منهن. من بعيد جاءت وفاء- كانت حامل-، تقدمت نحوي- أو لنقل نحونا- دون مقدمات قالت لي- هل هذه شقيقتك التي حدثتني عنها طويلاً؟. ضحكت- خالدة- بهدوء وأدب قائلة -عفواً هل أنتِ وفاء؟. أعتقد ذلك. لأنني شاهدت بعضاً من صورك في ملابس الرياضة، أنت أجمل من الصورة بكثير، كان زوجي –نوار- يحدثني عنك كل ليلة، ولكن هذه هي الحياة، أحياناً لا نحصل على كل ما نتمناه. أنت تستحقين مدرس الرياضة- حقاً أنه وسيم- لقد شاهدت صوره هو الأخر- أما هذا الفتى المسكين- عفواً أقصد زوجي- فهو مجرد قادم من الريف ولا يستحق سوى فتاة ريفية مثلي-. ولكني أحبه أكثر من روحي. هو كل شيء في حياتي. بالمناسبة أذا ولدت لنا فتاة سوف نسميها-وفاء- فهو أسم جميل يدل على الأخلاص والوفاء بين العشاق.». كانت وفاء تستمع إلى كل كلمة – من كلمات خالدة- وكأن صاعقة تسقط على رأسها- وهذا ما لاحظته من خلال التعابير المختلفة التي ترتسم على وجهها. بعد تبادل كلمات قليلة – خاصة بالمجاملة- نهضت خالدة وهي تقول:«عفواً،أرجو المعذرة ليس لدينا وقت سنذهب الأن إلى القرية لقد وعدني- نوّار- بأنه سيدعوني إلى السينما هذا اليوم، هذه أول مرة أجئ بها إلى العاصمة وهذه فرصة ذهبية للسير قليلاً في شوارع العاصمة وتناول بعض المأكولات البسيطة قبل العودة إلى القرية.» إبتعدت –خالدة- وهي تقول:«سأنتظرك عنذراء الجامحة – 6 –د الباب الخارجي للجامعة، ربما لديك حديث خاص مع زميلتك وفاء…. إلى اللقاء.. وفرصة سعيدة» ذهبت بثقة دون أن تنظر إلى الوراء.

يتبع…