خـــارج الـــســـوق:
قبل انتشار وباء ( كوفيد 19) والمشهد الثقافي والإبداعي في بلادنا؛ تتضبب معالمه وأهدافه ؛ حتى أمسى مصابا بعـِلَّة الخرس والبكم واللامبالاة من لدن دعاة الكتابة والتنظير والتفكير؛ ومن طرف ما يسمى تجاوزا( مثقف)؟ علما أنهم لم يصابوا بالكساح لكي لا يهرولون نحو الموائد وفتات العوائد المالية من كتابة شطحات فكرية في بعض المجلات وتنميق الكلمات المنافقة لروح الابداع والفن في بعض الجلسات ؛ بحيث ساد المال عن أخلاقية الفكر والقيم التنويرية؛ وبالتالي لا يسعنا إلا أن نشير بأنه لا شيء أسوَء من القـَلم الخائن لقضيته ؟ فكم من قضايا وأحداث تمظهرت في النسيج الفني والإبداعي؛ وخاصة إبان وبعيد انتشار الوباء ( الكوروني) وبالتأكيد تحتاج لتفعيل تدويني؛ ولبوح منطقي وعقلاني، وذلك من أجل إثارة النقاش وتبادل الأفكار حجة بحجة. بعيدا عـن المزايدات أوتصدر (الآنا ) المريضة . لكن الصمت أمسى لزوم مالا يلزم ؛ كظاهرة فريدة أصابت النسيج الثقافي؛ وانعَـدمت الكتابة التحليلية والتساؤلية والإشعارية والفكرية ، ولاسيما أن (الكتابة عندي فرض كفاية ؛ إذا كتب غيري وأجاد عن الموضوع فلا أجد كتابتي إلا تكرارا؛ وبالتالي فعزوفي عن الكتابة عنها ليس موقفا، بل إيمانا بأنه ليس لدي ما أضيفه لقضية واضحة ومحسومة وصريحة.
الكتابة ليست إثبات موقف بل إضفاء قيمة معـرفية (1) وبناء على هاته الرؤية ؛ فمؤخـرا : أعلن أحدهم عـرض نــفــسه للــبيــع !! ( 2) وكنت شخصيا أنتظر كتابات ونقاشا مثمر تجاه ( الحدث/ النازلة) لأنه موضوع يغـري للنقاش من عـدة مجالات ومن بينها الفقه الإسلامي وأحكامه واستحضار أفكار وفتاوي الفقهاء والعلماء تجاه النازلة؛ التي بحق عجيبة في خضم العجائب ؛ والتي تم طرحها بعـد سنة ونيف من توقف المشهد المسرحي عن الحركة؛ وإغلاق القاعات ودور الثقافة ، وتمظهر التهافت والهرولة نحو صندوق تدبير الجائحة ؛ والبعْـض التزم الصمت لأن لهم مداخل ومشاريع وبعض منهم مارس ألاعبه الشيطانية ليعيش في مستواه المعتاد وآخرون تصارعوا عما يسمى الدعـم ( الاستثنائي) الذي خلف نصوصا مسرحية وسيناريوهات سينمائية بالحجة والإثبات ؛ لمن يرغـب الكتابة في المجالين !
إذن ؛ فتوقيت إعلان ذاك الـذي عـرض نــفــسه للــبيــع ؛ هو اللغـز الأهم !! وهَـذا الحدث المضحك والساخر ! أعيد بي لسنة1986 حينما قمت بإخراج مسرحية ( رجل رهَـن نفسه ) للكاتب العراقي – المهدي السماوي- في إطار الإقصائيات الوطنية لمسرح الهواة؛ لكن اللجنة الوطنية اقصت العمل بناء على تقريروهْـمي ( ليس هناك في زماننا وفي بلادنا من يبيع أو يرهن نفسه ) ؟ والذي خاض غمار مسرح الهواة ممارسة وتجربة ومشاركة في الإقصائيات من يوم تأسيس الجامعة الوطنية لمسرح الهواة 1975 إلى حدود اغتياله في ظروف غامضة ( ؟ ) يعْـرف جيدا استراتيجية والبعد الإيديولوجي للمهرجان الوطني . والمصادفة ؛ أن المخرج عبد المجيد نجدي من مدينة الجديدة؛ بدوره أخرج نفس العمل؛ وتم إقصاؤه ؟ ولم يعـرف السبب؟ وبما أن أخبار المسرح سواء الإقصاءات والإقصائيات وكذلك القضايا كانت تتداول ( صحفيا ) حدث تواصل بيني وبينه هاتفيا قبل بروز الهاتف( النقال) ووصلنا لقناعة أن العمل أقصي و رفض لأسباب في عمق إيديولوجية ( النص) لكن الأهم عندنا مسألة ( الرهـن) هل يجوز للمرء رهـن نفسه ؟ بداهـة هـو سـؤال فقهي بالأساس رغـم أنه يندرج ضمـن قانون العقود والالتزامات والقانون المقارن . وبالتالي الرهن جائز انطلاقا من قوله تعالى: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [س/البقرة: 283 ] ولهذا فالرهْـن هو ذلك الاتفاق الذي يتم بين طرفين ، وفق عقد قانوني ، يمنح فيه الطرف الأول ملكية خاصة به للطرف الثاني ، مع بقاء احتفاظ الطرف الأول المالك الأصلي للشيء بملكيته ، وذلك يكون وفقاً لشروط معينة .علما أنه لا يصح رهن ما لا يجوز بيعه مما يتم إطلاق مسمى ( الرهن ) على العقار لا غير كالأرض والسكن ونحوه ولا يمكن أن يباع ( المرهون) إلا بإذن صاحبه و بتسليم المال الذي عليه والقاعدة القانونية تشير بأن الراهن له الحق في منع البيع. هنا لا يمكن للمرء أن يرهن نفسه مقابل المال ؛ ولكن النص ( رجل رهن نفسه) يحمل دلالات عميقة لحٍـربائية الانتهازيين والإمبرياليين ؛ وإدانة صريحة للعملاء الذين يرهنون عقولهم للآخر؛ ويتركون أجسادهم في أوطانهم؛ وربما أن المبدع – المهدي السماوي- تأثر بنص فاوست ؛ لكن الإشكالية أن الرهن ليس هو البيع ؟
داخـــل الــســوق :
فلو أعلن ذاك الـذي يعتبر نفسه مسرحي ! أنه يرهن نفسه ضد إغلاق القاعات ؛ لكان الأمر عادي؛ ويندرج في مزحة أو حالة غضب عفوية ؛ أوتمقص دور [فاوست] الذي باع نفسه للشيطان، [مفيستوفيليس] مقابل الحصول على قدرة فائقة، ومعرفة عالية يستطيع من خلالها أن يفعل بها ما يعنّ له من الخوارق ؛ في فتح القاعات والمسارح أمام المسرحيين والسينمائيين ، لكان طرحه مقبولا
ولكن الإشكالية في إعلان(تجارة) عـرض نــفــسه للــبيــع !! والبيع لغة: نقل الملك بعوض، ويطلق على إعطاء السلعة وأخذ الثمن. وذلك بناء على عقد إلزامي في شأن المقايضة بين البائع والشاري.
ولقد عرف المشرع المغربي عقد البيع في الفصل 478 من قانون العقـود والالتزامات بأنه :”عقد بمقتضاه ينقل أحد المتعاقدين للآخر ملكية شيء أو حق في مقابل ثمن يلتزم هذا الأخير بدفعه له.
من خلال هذا التعـريف يتبين لنا أن المشرع المغربي يشير إلى أهم خاصية لهذا العقد والمتمثلة في التزام البائع بنقل ملكية المبيع إلى المشتري، مقابل ثمن نقدي”
إذن فصاحبنا أعلن عن بيع نفـسه ؛ باعتباره ملكية / سلعة / منقول/ لأن نقل الملكية من البائع إلى المشتري يعَـد من أهم الخصائص المميزة لعقد البيع . وبالتالي ليس عبثا أن يطرح نفسه داخل السوق للمساومة مقابل (المال) ولكن عمن كان يراهن لشرائه من السوق هل ( على) مواطن أوروبي أم خليجي أم أمريكي أم مواطن ( ما ) مولوع بالسبايا ؟ لأن البائع لا يطرح سلعته اعتباطيا بما فيهم أصحاب ( الخردة/ الجوطية) بل ارتباطا بالماركوتينك وما يتداول أكثر رواجا في السوق بيعا وشراء .
إذن لنقبل بأن الحاجة والفقر هي الدافع الأساس لبيع المرء نفسه أو بيع أبنائه في الماضي والحاضر وهناك أمثلة عدة على أرض الواقع وقعت لتسديد الديون أو توفير لقمة العيش لبقية أفراد العائلة.. بحيث هناك مواطن مصري :أعلن صاحب مخبزين عن مزاد لبيع اطفاله لسداد مخالفات متراكمة عليه(… ) حيث أعلن عن بيع أبنائه التسعة بينهم جنين لا يزال في رحم أمه لسداد 100 ألف جنيه (حوالي 17 الف دولار)(… ) ووزع إعلانًا على كل معارفه حدد فيه أوصاف أبنائه مثل النوع والسن واللون، وعرض بيعهم لأعلى سعـر(3) لكن إذا باع الفقير ابنته فهل يكون لها حكم الإماء ؟ هذا سؤال انطرح في سياق طلب (فتوى) والتي كانت مفادها: فلا يجوز بيع الحُـر -ابنًا كان أو ابنة أو غيرهما-، وقد اتفق على ذلك أهل العلم قاطبة، والعقد على ذلك يقع باطلًا باتفاق فلا يجوز لك شراؤها، لأنها حرة، وعقد بيعها باطل، بالإجماع (4) هـنا نهي مطلق؛ بناء على مقتضيات الشريعة والقوانين الدولية ممارسة النخاسة التي كانت في العصور القديمة . لكن صاحبنا عرض نفسه برغبته لإحياء نعْـرة النخاسة . فهل الحاجة دفعته لبيع نفسه وإن كان البيع باطلا قانونا ؟ فكما نعـلم ويعلم ( البائع) أنه موظف بوزارة الثقافة ينال أجرا قارا ؛ وله جميع الحقوق بناء على مقتضيات الوظيفة العمومية . وبالتالي فإعلان بيْـع نفـْسه أنه ( ماركة) غير مسجلة تجاريا . بمثابة ( بوز/تخريجة / مزايدة: لينتزع الإعجاب ( ربما ) لكن تخرجته خاطئة / بليدة ؛ تستدعي عمليا الشفقة والرثاء. لأنه على علم بكواليس وتحـركات( الوزارة ) متى سيتم إعلان فتح القاعات والمسارح . وبالتالي: نحن نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة؛ تتعلق بسيادة نظام أدى تدريجيا؛ إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة …. فتسيَّدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية ؛ وكل ذلك لخدمة أغراض السوق بالنهاية (5) ولهذا فطرح نفسه للبيع مسألة غير بريئة تماما (؟) ربما اندفع لتقديم إشهار بطريقة غير مباشرة لموقع QXL : الذي سمح لمن يريد ببيع نفسه والمزايدة عليها.. وأول حالة بيع من هذا النوع كان عام 2002 لشابة بريطانية تدعى كاي هاموند (24 سنة من بيرمنجهام) عرضت نفسها للبيع بحجة عدم وجود وقت تتعارف فيه على الجنس الآخر.. والغريب أن 38 ألف رجل دخلوا المزاد الذي انتهى بشرائها بمبلغ 251 ألف جنية استرليني غير قابلة للاسترجاع في حال قرر الرجل فصل العلاقة (حسب موقع BBC في 29 يناير2002)!!(6) وإن كان هذا مستبعدا، فأين كان ( البائع) منذ سنة وأزيد؛ والعديد من الفنانين يبحثون عن إنقاذ حياتهم من الفاقة والحاجة ؟ فلماذا لم يوقع ضمن لائحة المطالبين بفتح القاعات ؟ وإن كانت له فعلا غيرة وحرقة تجاه الفن المسرحي؛ فلماذا لم يعلن عن بيع نفسه أمام قبول مهزلة تقديم العروض أمام كراسي فارغة ؟ وإن كان لنا رأي آخر في موضوع (7) ولكن ها هي انفتحت كما قَــالــتْ جــدّ تي من قــبرها : قِــيل أن القاعات والمسارح فُـتِـحتْ؛ فــماذا أنتم فــاعــلون أيها المسْــرحـيون ؟؟(8) ففي غياب الدعم المتهافت عليه ؛ ستبقى القاعات فارغة ؛ وأتحدى من سيقدم عَـرضا مسرحيا خلال هذا الشهر الذي هو بوابة لفصل ( الصيف) .
ففي إطار النازلة العجيبة للمدعو ( المسرحي) الذي من المفروض أن يكون شامخا ذو عزة وكرامة ؛ ولاسيما أن المبدع كيفما كان مستواه؛ مرآة وصوت الشعْـب المقهور والمعذب في محنه وهمومه وتطلعاته !
فما عسانا نقول اتجاه مسرحيين وفنانين – مغاربة – لم يجدوا حتى ثمن مشروب قهوة ؛ في الأيام العادية ؛ فبالأحرى في زمن الوباء واجتياحه ؟ ولم يقدموا على محاولة بيع أنفسهم ؛ وذلك تقديرا لكرامتهم ؛ واحتراما للفن الذي يقدمونه كيفما كانت نوعيته ومحتواه. فكم من مسرحي عاش الفقر المدقع ونام في الطرقات : كعبد الرحيم إسحاق/ عبدالنبي الرياحي/ حوري الحسين/ جلول الأعرج/ مصطفى الجبيلي/حميد عمور/…/ أسماء كثيرة لا يعْـرفها – رحمهم الله ؛ فلم يبع أحد منهم نفسه ولا استعطى لمخلوق . ولكن لنقدم له نموذج مفاده: بعد أقل من أسبوع من إعلان الفنان المغربي، عزيز حسني، تدوينة على الفيسبوك عن عجزه التام لتغطية تكاليف عملية جراحية، و أنه سيبيع أغراضه الشخصية لتغطية تكاليفها، خرج الفنان الكوميدي المسرحي، عثمان جميل، بتصريحات مؤثرة عن وضعيته المعيشية(…..)وجد نفسه مضطرا لبيع مواد التنظيف من أجل ضمان قوته اليومي بشوارع سلا. (9) دون التوسع في قضية الفنانة زهور السليماني/ عائشة مهماه/ وعـرمرم من المسرحيين الإكفاء والموهوبين من فاس/ مكناس /وجدة/ أسفي/…/ يعيشون البطالة والفقر الذي لا يوصف ، فهل فكر أحدهم بيع نفـسه ؟ وإذا عدنا لتعـريف البيع عند ابن عرفة ؛ وخاصة البيع ألأعم الذي هو: عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة. فلا يدخل في عقد البيع: النكاح، والإجارة، والكراء. والمراد بالأعم مطلق المعاوضة( 10) ونختم بما قـــالــته جَـدتي من قــبرها : عجَـبا لذاك الذي أراد بيع نفـسه ( فمن سيشتريه) ربما ؟ وربما يحن لزمن النخاسة ؟ أين العـفة والشموخ ؟ أين الفكر المبدع ؟ إنــه التردي السافر والانحطاط المدمر لما تبقى من قطرة دم للمشهد المسرحي والفني !!(11)
الإحــالات :
1) نظام التفاهة للآن دونو- ترجمة وتعليق مشاعل عبدالعـزيزالهاجري ص16 ط1/2020 دار السؤال /لبنان
2) انظر جريدة الصباح المغربية في 25/05/2021 أوصحيفة المغرب اليوم في 27/05/2021
3) 3. مصري يعلن عن بيع اطفاله في مزاد صحيفة ‘المصري اليوم’ بتاريخ 11/05/2009
4) انظر إسلام ويب رقم الفتوى279250 في 4 ربيع الأول 1436 هـ – 25-12-2014 م
5) نظام التفاهة للآن دونو- ص13/14
6) هل يمكن للإنسان بيع نفسه؟ مقالة لفهد عامر الأحمدي في جريدة الرياض ع16396 في15 مايو 2013م
7) طالع موضوعنا: في أفـق تنظير للمسرح الكـُوروني ؟ في صحيفة كتابات بتاريخ 09/04/2021
8) انظر جداريتنا بتاريخ 02/05/2021
9) موقع عبير في 14/ سبتمبر/2018
10) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير مع تقريرات الشيخ عليش لأحمد الدرير/ محمد عرفة الدسوقي/ محمد عليش الجزء الثالث ص 2 دار الفكر بدون تاريخ
11) انظر لجداريتنا بتاريخ 25/05/2021