تؤكد الحقائق العلمية أن البعوض ليس له ذاكرة مطلقا، وإن كانت فهي ليست اكثر من ثوان معدودات، وثبت ذلك علميا عبر التجارب التي أجريت، فأنه ينسى الأخطار التي يتعرض لها ويقع سريعا في شرك الادوات التي توضع له، والحال ينطبق على ذاكرة السمك الذي يهرب من خطر سنارة الصياد ثم يعود اليها بعد برهة من الوقت ليقع اسيراً.
والشيء نفسه ينطبق على الانسان إذ أن بعض الناس يملكون ذاكرة مثقوبة وتؤكد بعض الحقائق التأريخية ذلك، ويشير أحد المؤرخين البريطانيين إلى أن بعض قطّاع الطرق في السماوة بعد الحرب العالمية الأولى كانوا يعملون الكمائن للقطار البريطاني الذي كان ينقل المؤن من البصرة إلى المحافظات الأخرى ويمر في اطراف السماوة، ويضيف المؤرخ البريطاني، إن أحد الضباط اقترح أن يرمي بعض القطع الذهبية على جانبي الطريق في المنطقة التي يتعرض فيها القطار لكمائن هولاء، ويتولى جندي آخر تصفيتهم عند ظهورهم لاخذ القطع الذهبية، والشيء المفاجئ أن هولاء وعلى الرغم من تكرار العملية اسبوعيا، لم يتعظوا من مكائد الانكليز فهم يتركون اسلحتهم ويتسابقون للحصول على الذهب مما يتيح للجندي البريطاني تصفيتهم، واستمرت هذه الحالة الى ان ترك البريطانيون استخدام هذا القطار.
وفي حالة أخرى في زمن نوري باشا خرجت تظاهرات كبيرة تنادي بإسقاط متصرف لواء الانبار، الذي ابرق لحكومة بغداد يعلن رغبته في تجنب المواجهة مع المتظاهرين وتقديم الاستقالة، إلا ان الباشا ابلغه رفضه القاطع ووجهه بدعوة زعماء المتظاهرين وتقديم الرِشا لهم.
المتصرف عمل بنصيحة رئيس الوزراء واتصل بقادة المتظاهرين ورحب بهم ترحيباً متميزاً وقدم لهم مبالغ مالية كبيرة وطلب منهم انهاء التظاهرات مقابل منحهم امتيازات أخرى، وبالفعل خرج هولاء القادة إلى الناس طالبين منهم الرجوع إلى البيت لان اهداف الثورة قد تحققت عبر ملء جيوبهم بالاموال.
وامثلة كثيرة وكثيرة جدا نشهدها، ولم نجد من يتعظ منها، فحين يتولى المسؤول الإدارة سرعان ما تثقب ذاكرته وينسى الماضي، ولن تعود له تلك الذاكرة حتى يترك كرسيه ويبقى معه غضب الله والناس. والحال ينطبق على الناس فحين يكتشفون أن اختيارهم غير موفق يعاهدون انفسهم على اختيار الافضل، لكنهم يعودون لاختيار الاشخاص انفسهم.