17 أبريل، 2024 11:29 ص
Search
Close this search box.

ذاكرة بصرة/ الحاج فالح

Facebook
Twitter
LinkedIn
ارض سوادي، تقع على ضفة الفرات..تابعة لقضاء المدينة، الذي يقع بين ثلاث محافظات جنوبية هي البصرة والعمارة والناصرية..
هذه الدوانم قضى فيها جدى حياته كلها، ابا عن جد. كنت اراه يخرج عند الفجر، ويعود قبل المغرب بنصف ساعة…
حرصت ان ازوره في العطلة الصيفية… مع والدي في الستينات. او وحدي في السبعينات..
 استيقظ مع جدي فجرا،  لاجل الفطور. كوب حليب (استكان) وخبز… ليس اكثر من ذلك..
وبعد صلاة الظهر، احمل له وجبة الغذاء. هي قطعة سمك وخبز.. واتعشى معه تمن قليل ولبن..
هذا البرنامج الغذائي هو ما يسمح به الوضع الاقتصادي .. او هو نتيجة لقلة اهتمام العائلة بقضية الطعام… فعلا، لم يكن الطعام محور التفكير،، بل العمل .
هذه الوجبات الثلاث هي من انتاج العائلة.. قد يشترون السكر والشاي والكبريت فقط.. ولا اعتقد انهم يستخدمون الزيت او معجون او مادة اخرى .
بينما تبيع العائلة اكثر من منتج زراعي، وغالبا يشتري التجار منهم الزرع لاجل التصدير .. لان الزرع العراقي مرغوب جدا في الخارج، وخاصة في الخليج…
هنالك فعاليات كثيرة يوميا،، تتعلق بالزرع ورعاية الحلال (الابقار)، فضلا عن نصب شباك الصيد ثم جمعها…
اما في موسم تلقيح النخيل او تنكيسه فهنالك عمل اكثر.. والايام الحرجة هي موسم التمر.. لان هنالك الالاف من النخيل…
ثم عملية الغلي، حينها يتم وضع تمر (الجبجاب) في اواني كبيرة (صفاري).. ويتم طبخه، ثم نشره في الشمس لينشف.. ثم يصدر اغلبه الى الخليج…
وكان هذا المصدر الاساس للكسب، فضلا عن الشلب والحنطة التي ينتظرها التجار.
المورد المالي يتم انفاقه لشراء السلاح والملابس والتبغ والزوارق (طرادات) والوقود.. وضروريات اخرى..
كنت اتابع جدي وهو يعمل في الارض، بجد ونشاط وهدوء..
الحاج فالح شخصية جادة، تفرض احترامها على محيطها، بكياسته وقلة كلامه.. وانشغاله بعمله.. وذريته الكثيرة التي تحيط به، واولاده الذين هاجروا الى العشار، مركز البصرة..
لم اسمعه يتكلم، او ربما سمعته قليلا او نادرا.. لم اكلمه كثيرا،، لانه لا يسمع..
سالت والدي عن سبب مرض جدي…
فقال: اي مرض..
قلت: انه لا يسمع..
فابتسم وقال: انه يسمع جيدا …ولكن لا يرد غالبا…
كان جدي قليل الكلام…حتى تصورت انه لا يسمع…
1️⃣ كان العمل والمواقف الطيبة هي محور تفكير المجتمع… ولم يكن الهم الشاغل هو الطبخ والاكل…
واعتقد ان في العقل الجمعي، هاجسا، يشده الى العودة الى الجذور… وقد ينتج عن هذا، هجرة معاكسة لريف جديد، ينشأ في اراض قاحلة..
2️⃣ النساء والاطفال، كانت طلباتهم موضوعية، والاسرة منسجمة، يمر يومهم بهدوء وتفكر ولطف..
مواد البناء هي من البيئة المحيطة، والنخيل يوفر مواد اولية لعشرات المنتجات، من السعف والكرب والجذوع، حتى الطلع والبذور..
كذلك، منتجات الالبان، من البقر والجاموس، ولم تكن البيئة الاهوارية، تسمح بتربية الاغنام…
كانت الابقار بمثابة مصانع، تستحق الرعاية، وتلتهم اطنان من البردي..
وبالمناسبة، لم اسمع يوما، انهم ذبحوا بقرة . واعتقد انهم لم يذبحوا واحدة طيلة حياتهم..
لم يسمعوا بمصطلح “نباتي” لكنهم واقعا، كانوا “نباتيون” وان لم يعلنوا ذلك..
3️⃣ كان جدي حكيما فعلا، وله مواقف وطنية. لم اسمع عنه الا خيرا …
 تم اعتقاله من قبل الاحتلال، في العشرينات…
فقد كان جدي يغوص في الماء، ويضع في فمه قصبة، ليتنفس بها… ثم يهاجم جنود الاحتلال.. وعند الصباح يجلس في المقهى ليسمع احاديث الناس عن ثائر مجهول الهوية، مطلوب القبض عليه، بسبب عملياته ضد المحتلين، ليلة البارحة..
 4️⃣كان جدي معروف بذكرى طيبة، وخاصة في نفوس ابنائة واحفاده… وفي قلبي ونفسي حب واحترام خاص له. بالرغم من كلماته القليلة التي سمعتها..
من المؤسف، انني تصورت انه لا يسمعني…وكنت اتمنى ان اساله عن حوادث كثيرة.. وعن نفسه..
5️⃣ بعد اكثر من تسعين عاما، من العمل الشاق، توفى جدي، في 1984، بعد ان فقد بصره، لكن كان سمعه جيدا، الى حد بعيد..
هذه ذكرى بصراوية.. وللحديث بقية..

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب