الجانب الشرقي من العشار، المنطقة المحصورة بين الداكير وسوق المغايز، لها صور ومشاهد في الذاكرة.. تتميز بعطر الانسانية.. ونكهة الطيبة البصراواية المتميزة..
سوق العطارين، بجانب سوق الندافين، والنجارين، وتجار القماش… مكتظة بالحركة والنشاط الاجتماعي والتجاري..
سوق العطارين فيه حمام (مسبح) عام، يشغل مساحة اكثر من دونمين، وله سطح واسع، فيه غرفتين، تسكنهما عائلة ابوفهد. وهو معتقل سياسي، ترك عائلته بلا معيل.
في نهاية الستينات، تم الافراج عن ابوفهد، بعد ان صدر عفو عام عن السجناء السياسيين.. فاستقبلته العائلة، وشعر افرادها انهم بعثوا من الموت الى الجنة، وهم يشمون عطر الوالد.. طاروا بجناح المودة وجناح الرضا.
كان ابوفهد متشوقا للحركة، ومتحمسا للمشي في كورنيش العشار، بعد ان ابتعد عنه لسنوات . فقال لهم:
“بدلوا ملابسكم خل نطلع..نروح حديقة الامة..”
خرج مع العائلة عصرا، زوجته وبنته واولاده ثلاثة اصغرهم بعمر سبع سنوات.
قبل الاعتقال، كانت العائلة تملك عددا من المعامل، لكن الان جيوبهم خالية تماما من اية نقود.
العائلة غنية بوجود الوالد. تركوا البيت خاليا من الخبز، لكنه عامر بمئات الكتب والمجلات.. ولم يشعروا بالفقر، حينها، او انهم اقل من الاخرين. بل يساورهم شعور بالافضلية، والامل بمستقبل افضل.
▪️ قطعوا سوق المغايز، فصادفهم بائع الصمون.. ابو احمد المياحي، وكان يجلس في السوق وعنده صندوق (بسطية) ويعرض نوعين من الصمون، ابيض واسمر.
وقعت عين الصغير على الصمون الاسمر اللامع، ولم يقاوم طعمه الذي اختلط بلعاب مخيلته… فسحب يد والده واشار بيده الاخرى، هاتفا:
بوية صمونة..
فتصبب جبين ابو فهد عرقا، وانحنى يهمس في اذنه:
بعدين.. ما شايل فلوس..
وسارع في المشي بعيد عن ابو الصمون..
لكنه لم يفلت.. فقد امسك به المياحي، حاملا صمونة.. متوسلا:
خل ياكل بروح ابوك..
▪️لم يضع ابواحمد حسابات الربح والخسارةالمادية، في ذهنه. بل حسابات الربح والخسارة المعنوية.
▪️اعتقد ان الطيبة والقيم، كانت ولا زالت هي نكهة الحياة التي تميز الحضارة والمدنية عن الصحراء الجرداء.. وليس الابنية والماديات… لذلك مدن العراقيين سوف تبقى مزدهرة، ما دامت مفعمة بطيبة اهلنا وتمسكهم بالكرم والاخلاق.
▪️الحضارة والمدنية ان تجد يد العون تمتد لك، عند الحاجة، وان يكون الفرد غنيا، لكونه يمتلك القدرة على الانفاق، بعيدا عن حسابات الربح والخسارة. مثل ابواحمد المياحي.