جزر صغيرة، مبعثرة في غابة، من الماء. لم اتوقع ان اطفالها الملونين بالتمر، سوف يكون لهم دور في مركز المدينة. الهوير والخاص وخميسة كانت مساحات مائية شاسعة، قبل ان يجففها الديكتاتور. بيوت في وسط الماء، او قرى تقع على نهر الفرات. تابعة لقضاء المدينة في محافظة البصرة.
هنالك ذكريات كثيرة وفريدة، اكتبها لاحقا. لكن اليوم اتحدث عن اطفالها في الخمسينات، الذين كبروا، وانتقلوا الى العشار، مركز المحافظة. ودخلوا في صراع الارادات. صور ولقطات في ذاكرة بصرية:
1️⃣ حسين، قطعة من البراءة. والشهامة. دخل كلية الهندسة البحرية، ونجح بتفوق، وتم اعتقاله في المرحلة الرابعة عام 1979، وتم اعدامه. اخوه حيدر اضطر ان ينتمي لحزب الحكومة، لاجل الحصول على قبول في كلية التربية، تخرج، ولاجل الحفاظ على حياته، انصرف الى السكر والملاهي.
2️⃣هذه عائلة حجي خيري، متزوج نسوان اثنين. الثانية، مدللة عنده ولها خمسة اولاد، تخرجوا، وتم اعدام اثنين منهما. حيدر ثم اخوه الطبيب يعرب. اما زوجة الحجي الاولى، فقد اهملها. ولها ولدان، احدهما محمود، وهو بطل هذه القصة.
3️⃣ابن البايرة، هو ابن الزوجة الاولى التي اهملها الحجي، لاسباب لا اعرفها. كان محمود حريصا على تنفيذ اوامر الحجي، كذلك اوامر اخوانه الصغار. فهو الخادم في البيت رغم انفه.
واجبات واعمال كثيرة لا تنتهي في حياة الريف. الاف النخل يحتاج الى تلقيح وتنكيس وتكريب. عشرات الابقار تحتاج الى اطنان من القصب والبردي كطعام. كذلك نصب شباك الصيد صباحا ثم جمعها قبل المغرب.
هذه التكليفات، اغلبها بحتاج قطع مسافات طويلة بالبلم او المشحوف. وسيلة الانتقال في النهر والهور. ويحتاج الفلاح الى هذا الزورق وعصا طويلة يدخلها في الماء ويدفع. وهذ يعني قيام محمود بمئات المرات من الدفع بعصا المردي.
ا4️⃣غلب هذه الاعمال تقع على راس محمود. وبالرغم من ذلك الواقع المتعب، لم ارى محمود متضايقا. بل المدهش انه بعد صلاة المغرب، يبدا مراجعة دروسه، في الظلام. لان الحديث هنا في الخمسينات. يعني لا كهرباء ولا ماء في هذه المناطق الريفية. فالماء من النهر، والضوء من جهاز البطل. وهذا عبارة عن قنينة عصير فارغة يضعون فيها خيط (سوتلي) ويغلقونها بتمر.
5️⃣الموضوع الاهم، ان محمود ابن الحجي نجح، ودخل معهد معلمين في مركز المدينة. وتخرج وتزوج وصار مدير مدرسة. واسس عائلة كبيرة. ولم يدرك محمود اني اتذكره دائما، وينتابني شعور غريب، عندما استعرض معاناته، وكيف استطاع ان يستمر بدراسته مع العوز المالي الشديد. فقد زارنا اكثر من مرة، وشاهدته وهو ياكل بشراهة عندنا، ليعوض جوعه الطويل. لكن محمود، قد اصر ان يصنع مستقبله بجهده، وهو الان شخصية مرموقة ومحترمة.
6️⃣حرص محمود ان يمارس دورة معلما محبا لطلابه، يزرع فيهم الامل، ويحثهم على الاجتهاد، ليصلحوا حالهم كما اصلح هو حاله. واعتقد انه اتخذ من احد معلميه قدوة. ذلك المعلم الذي وقف الى جانبه، وساعده على ان يتحمل معاناة خميسة، ليشق طريقه في الدراسة والنجاح.
7️⃣ سكن محمود في منطقة شط العرب، ولا زالت جهوده الطيبة تثمر في المحلة. فقد كان يسارع في السلام على الاخرين مبتسما. ويشاركهم في مناسباتهم. ويقتسم مع فقيرهم رغيف الخبز. وحرص على تنظيف الشارع صباح كل يوم، حتى اصبح ذلك من الاعمال التي تعلمها جيرانه منه. واستطاع ان يقنعهم بزراعة عدد من النخيل على جانب الطريق.
كتبت هذه الاحداث الحقيقية بتصرف، لاسباب فنية.، لاني اجدها ضرورية لشبابنا، في هذه الفوضى الاجتماعية. وللحديث بقية.