7 أبريل، 2024 10:35 ص
Search
Close this search box.

ذاكرة بصراوية/ القدم الثابتة

Facebook
Twitter
LinkedIn

اعتقد ان النجاح، هو ان يبقى احدنا كما هو، محتفظا بنقاء الطفولة، وبراءتها، وصدق الحديث. بالرغم من ضغوطات الحياة التي تدفعه الى الكذب والخيانة. وان ببقى ثابتا، في العاصفة، لان الرياح سوف تتوقف رغم انفها.
هذه ليست سفسطة، او كلام مثالي لا وجود له في الواقع. بل هو حقيقة، تجسدت بشخص من اهالي قضاء المدينة في محافظة البصرة. هو صالح ابن الحاج فلاح.
1️⃣ عام 1957، صبي نحيف يركض بين نخيل ضفاف الفرات، وقع على غلف سلحفاة ميتة، فانجرح في الركبة. تلوث الجرح، ولم يشفى، وماتت اعصاب رجله اليسرى. ولم يعد قادرا على ثني قدمه بعد ذلك، فقد اصاب الشلل الركبة واصبحت قدمه ثابتة لا تنثني.
اصبح صالح من ذوي الحاجات الخاصة. بالرغم من ذلك استمر في دراسته الابتدائية لغاية الصف الثالث. وهذا يعني، سابقا، انه يحسن القراءة تماما، ويكتب بخط جميل.
2️⃣ هذه الاحداث في قضاء المدينة، التي كان يجلس على ضفة نهرها، بلونه الاخضر الفاتح، فيغمره شعور السعادة التي لا تنتهي، مثل الظمآن وهو يشرب اللبن. يلمس امواجه ويداعبها، مثل جناح حمامة بيضاء. تجري في عروقه. صالح يجزم ان هذا نهر من الجنة.
يمكن تلخيص حياة بطلنا، ان هذا الفتى الجنوبي، قد اصيب بعوق في قدمه. تم اعفاءه من العسكرية. ولاجل العمل اضطر ان ينتقل الى مركز المحافظة. اشتغل عامل في مطعم، ثم اشتراه. وفي الحرب، انتعش وضعه الاقتصادي الى حد كبير. وبالرغم من صعوبات العمل والوضع السياسي في العراق، لا زال صالح يمتاز بذلك النقاء والطيبة والشفافية، كانه ذلك الصبي الذي ركض فوقع فتعوق.
3️⃣ الجنوب، كباقي العراق، ارضه طيبة، واهله اكثر طيبة. فما يخرج من الارض الطيبة من زرع، يتشوق ان يتحول الى خلايا حية في جسم الانسان العراقي. واعتقد هذه دورة تكامل. النبات ياكله السمك والانعام، فيرتقي في سلم الحياة. لان الحيوان اكثر رقيا من النبات. ثم ينتقل النبات والحيوان الى معدة الانسان، فيرتقي ويكون جزءا من موجود ارقى. وبالرغم من هذه القاعدة العامة، الا ان الطيبة والانسانية عند اهل القضاء هي الارقى. وخاصة اهالي قضاء المدينة. وقد لمست ذلك فعلا، تلك البراءة والشفافية، نسبيا، طبعا.
4️⃣ كان الصبي صالح يحظى بحصة حب خاصة من والده. بالرغم من كونه احد افراد اسرة كبيرة. لانه الاصغر بين اخوانه العشرة. لان والده الحاج فلاح قد تزوج من اربع نساء. وهو يعمل في الزراعة وله حوالي 50 دونم، على ضفاف الفرات.
وبشكل عام الحياة صعبة، جدا، مع وجود الافطاع. فقد كان هؤلاء يستغلون الفلاحين بشكل بشع، وبدعم من الدولة.
الاقطاعي يعتبر مالك للارض (ملاج) وياخذ النسبة الاعظم من المحصول. ولا زالت مشاهد التعذيب المرعبة التي تعرض لها الفلاحين، تعشعش في راس صالح. وغالبا يقص لاسرته تلك المآسي، ثم يهتف:
الف رحمة على روحك عبدالكريم قاسم.
5️⃣ يتالم صالح كثيرا وهو يروي لهم قصص تعذيب الفلاحين من قبل الاقطاعي. يقول:
كان الاقطاعي يطلب من الفلاح كمية من الانتاج اكثر من الانتاج الفعلي. لذلك غالبا، يعجز الفلاح ان يوفر ذلك، فيقوم زبانية الافطاعي بربط الفلاح على نخلة، حتى يموت.
واحيانا يبكي صالح وهو يتحدث عن تلك الايام الصعبة. ثم يهتف مجددا:
الف رحمة على روحك عبدالكريم قاسم.
وتاخذه النشوة، ويضحك، وهو يتذكر الثورة، وكيف انتقم الفلاحين من الاقطاع.
قال ضاحكا:
الفلاح يحمل المنجل (سكين) ويركض خلف الاقطاعي. والاخير يهرب خائفا ومستغيثا.
صالح لم يدرك ان العراق قد خسر الامان بعد هذا الانقلاب الدموي. وان باب الفوضى قد انفتح ولم يغلق حتى يومنا هذا. وان السنوات القادمة سوف يعاني الشعب من اسوا نظام حكم، ديكتاتوري، مجرم. ويبدو ان الانقلاب كان برعاية امريكية، خفية.
6️⃣ عام 1958 تحول العراق من الحكم الملكي الى الجمهوري. وبدات الزراعة تنكمش تدريجيا، فبدات الهجرة من الريف الى المدينة. لان الحكومة بدات حملة اعمار واسعة في المدن. وصارت فرص عمل افضل. نسبيا. فاضطر صالح الى الهجرة من الريف الى مركز البصرة. وسكن في منطقة العشار، في المطعم الذي عمل فيه خادما.
7️⃣ مطعم الافندي يقع قريبا من سوق الندافين. النداف هو من يصنع الفراش القطني. حينها، كان الفراش القطني هو المتعارف، ولم يكن مستوردا، لذلك ولوجود الطلب الكبير لهذه الفرش، تاسس سوق كبير لخياطة وصنع هذا الفراش، هو سوق الندافين.
صاحب المطعم مهندس متقاعد، استطاع ان يستثمر وظيفته السابقة لبناء مطعم كبير، مع محلات محيطة به. ولديه سائق اسمه جبار، هو ابن عم صالح. ولوجود علاقة طيبة بين جبار والافندي، توفرت فرصة عمل، لصالح في المطعم. وكان هذا نصرا وفتحا عظيما، ومناسب لشخصية بطلنا، الذي صار يصول ويجول في المطعم، متناسيا العوق.
طبيعة صالح، هي النشاط والتفكر وحب الخير. ولم يكن هو يخطط للسلطة، او الملك. الا ان الكسل والفتور في محيطه، اجبره على ان يتحكم بمقاليد المطعم وصاحبه. وكان يعمل باختياره من الفجر حتى منتصف الليل، بابتسامة لا تفارق شفتيه.
8️⃣ عام 1970 سافر، من مركز المدينة الى القضاء، لمراجعة دائرة الاحوال المدنية. وصل باكرا، واتجه الى النهر، بشوق وشهوة.
كانت البلام (الزوارق) تتراقص على ضفافه. وشاهد عدد من الرجال يتناولون الفطور. افتتحوا يومهم بما هو متوفر لديهم. ليس القيمر او الجبن، بل سمك الزوري. لا يسمح لهم الوضع الاقتصادي الا بشواء عدد من السمكات الصغيرة، تناسب فطورا خفيفا.
9️⃣ استمر صالح بالعمل في المطعم. لم بكن الافندي، صاحب المطعم مهتما بالافكار التطويرية التي طرحها صالح، وغير مستعد ان يحرك ساكنا. ولم يوافق على توسيع المطعم وتحديث الطاولات والكراسي، او صبغ الجدران.
كان الافندي ياتي المغرب لاستلام الدخل (النقود) بعد ان سلم مقاليد الامور للبطل. وغير مستعد لدفع اي مبلغ لاجل الصيانة او التطوير. بينما يحترق صالح من الداخل بنيران الحرص على العمل، وفكرة التطوير والتحديث.
صالح يعاني الان من محيطه الخامل. لذلك اقترح على ابن عمه جبار، سائق الافندي، ان يستاجرا المطعم. الا ان جبار رفض، وقال نحن لا نملك المال ولا نعرف كيف ندير الامور. فتعهد صالح له بتحمله للمسؤولية كلها. فوافق جبار على مضض. ثم ذهبا الى الافندي وعرضا مبلغ شهري (ايجار) مقابل المطعم والمحلات. وافق الافندي، لانه غير متفرغ حاليا له.
قام صالح بحملة توسيع وتطوير للمطعم. فقد ابتكر نظام جديد للطاولات، بشكل حيز خاص (كابينة) جذابة. وتضاعف عدد الزبائن بسبب ادارته الذكية والفذة.
1️⃣0️⃣ عام 1980 اندلعت الحرب مع ايران، وصارت البصرة ساحة حرب، وغصت شوارعها بالاف الجنود الجائعين، فضاعف ذلك من نجاح المطعم. لذلك، دخل الطمع الى قلب جبار، وبدا يضايق صالح. فما كان من بطلنا الا ان يتنازل عن حصته في المطعم دون مقابل، وغادر مبتسما.
بعد شهر تقريبا، سمع جبار بفتح مطعم جديد، بعنوان مطعم الفيحاء في منطقة الخضارة، بادارة صالح. الذي حقق نجاحا اوسع. وانتقل اغلب الزبائن الى المطعم الجديد، بينما اصبح مطعم الافندي فارغا بسبب سوء الادارة.
جاء جبار الى صالح، معتذرا له، راجيا عودته. فاعتذر.
خرج جبار متوجها الى جهاز الامن متهما ابن عمه بانه يعمل ضد الدولة، ويتكلم ضد السيد الرئيس. لكن صالح نجى باعجوبة. وبالرغم من معرفته بما فعله جبار، لم يعاتبه ولم يتكلم بالتفاصيل لغيري.
كسب بطلنا مبالغ ضخمة في مدة قصيرة. وقام بشراء عدد من البيوت في العشار، وثمنها بالمليارات حاليا.
⬛ قال لي:
كانوا ينادونني “الاعرج” … الا انني اشعر ان هذا العوق نعمة خاصة وعظيمة. لقد خلصتني هذه القدم الثابتة من الجندية والحرب. وقد انجزت ما عجز عنه الاخرين.
لقد استمر صالح برعاية اخوانه وزوجات ابيه الارامل. صالح هو الوحيد لامه، وبقية اخوانه من ابيه فقط، الا انه لم يفرق بينهم، بل حرص على صلة الرحم الى ابعد الحدود، وبشكل لا يصدق. بل ان اعماله الخيرية غطت محلته ومحافظته.
⬛ لم يكن مهما عندي، ما حققه صالح من انجازات اقتصادية ومالية. ولم ارهق نفسي بالكتابة الا لاجل ان اوثق حالة انسانية كريمة. وما يهمني فعلا هي تلك المعجزة التي اسميها اخلاق صالح. الذي اعرفه جيدا منذ عشرات السنين. كائن نقي صادق لم تلوثه السلطة ولا رعاعها. ولم يلجأ الى الكذب والنفاق لاسباب مالية او عند الضرورة. بل كان ولا يزال يبكي الما عندما يمر الى جانب صبي يدفع عربة. او شاب يبحث عن فرصة عمل. بطلنا ينفعل وهو يتحدث عن فساد السلطة ويعتصر قلبه الما على العراق. وانا اكتب عنه هذه السطور، صالح الان يدير مطعما مجانيا، في موكب يوزع الطعام للثوار في الخضراء، يساند الثورة الشعبية. وللحديث بقية.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب