23 ديسمبر، 2024 3:39 م

ذاكرة الحروب في الشخصية العراقية والطريق لبناء السلام (2-2)

ذاكرة الحروب في الشخصية العراقية والطريق لبناء السلام (2-2)

تحليل سيكوبولتك
لقد عملت هذه الأحداث على تشكيل ذاكرة شخصية الفرد العراقي بخصائص سيكولوجية وعُقد نفسية نوجز أهمها بالآتي :
1 . عقدة البارانويا .
تعني البارانويا : اسلوبا مضطربا من التفكير يسيطر عليه نوع غير منطقي ” أو غير عقلاني ” من الشك وعدم الثقة بالناس ، ونزعة دائمة نحو تفسير أفعال الأخرين على أنها تآمر أو تهديد مقصود أو مهين .
وقد نجمت هذه العقدة عن تواتر الاستيلاء على السلطة في العراق بالثورات والانقلابات الدموية والانتقامية ، فأُصيب بها كل من أخذ السلطة ،وسيطرت على أغلبهم حالة هوسية من التآمر عليهم والشك بالآخر حتى لو كان بريئا.
وبالمقابل ، تولّد لدى الناس اقتران شرطي بين السلطة والظلم ، ناجم عن تكرار السلطات المتعاقبة لممارسة الظلم على الناس .
ومن هذه العلّة النفسية تحديداً (عقدة اليأس من مجيء سلطة عادلة ) نشأت فكرة ” المخلّص المنتظر ” الذي سيأتي ويملأ الأرض عدلاً ، والتي يؤمن بها معظم العراقيين بغض النظر عن العرق والدين والمذهب والمستوى الثقافي سواء كان أمّيا أم حامل الدكتوراه.
2 . عقدة الاستهداف
إن تكرار غزو العراق من قوى أجنبية ( لخيراته وموقعه الاستراتيجي ) ولّد لدى الفرد العراقي حالتين نفسيتين ، الأولى : يقينه أن العراق سيبقى مستهدفاً وأنه ” الضحية ” في كل غزو. وادراكه بالتجربة المتكررة أن كل غزو يحصل يشطر العراقيين الى ثلاثة أقسام : متعاونون مع الغزاة ، ومحايدون أو من جماعة ” اليأخذ أمّي يصير عمّي ” ، ومعارضون ..يحكمهم جميعا : الخلاف مع الآخر .
والثانية : كره العراقي للحكومة وتعمّق الهوة النفسية بينهما ، الناجمة عن اعتقاده بأن أية حكومة تتولى السلطة لابد أن تكون مسنودة من قوة أجنبية ، وأنها تخدم مصالح الأجنبي أكثر مما تخدم مصالحه ، الأمر الذي أدى الى أن تكون نظرة العراقي للأمور في حال يشبه فيه حصان العربة : النظر باتجاه واحد هو الخلاف مع السلطة والعمل على اسقاطها .
3 . عقدة أخذ الثأر
ان جسامة ما وقع من احداث وبطش الآخر بالآخر ، سواء بسسب الصراع على السلطة او بسبب معتقد او مذهب او فكرة ، عملت على توريث عقدة ( أخذ الثأر أو الحيف ) من الآخر ، وتحكّمت بسلوك العراقي في أزمات الحاضر ، بانفعالية تعطّل التفكير العقلاني بأسباب هذه الأزمات أو بمن يخلقها .
4 . عقدة التعصب لــ” الهوية ”
سكنت العراق أقوام متعددة : عرب ، كـُرد ، تركمان ، كلدان ، آشوريون ، يزيديون ، شبك..ونشأت فيه أديان ومذاهب متنوعة : اسلام ،مسيح ، يهود ،صابئة ،مجوس..،شافعي ، جعفري ، حنفي ، مالكي ، حنبلي .
وتفيد الاحداث أن هذه الأقوام والأديان والمذاهب تعايش أهلها بسلام حيثما كانت السلطة بعيدة عن التدخل في شؤون خصوصياتهم ، وأن الصراعات تنشأ في ما بينها ، حدّ ابادة الآخر ، حين تكون السلطة او قوة غازية محرضاً بشكل علني او خفي .
ولأن الانسان به حاجة نفسية الى (هوية ) فأنه يضطر الى الدفاع عن هويته حين تتعرض الى الخطر . ولأن كل ( هويات ) الجماعات العراقية لحقها أذى وتعرضت الى هذا القدر او ذاك من الخطر ، فأنه نجم عن ذلك تغليب الانتماء الى الهوية الخصوصية (بدافع الحماية والأمن ) على الانتماء الى الهوية الوطنية ، مصحوبة بحالات من التطرف أو التعصب العرقي أوالديني أوالمذهبي .
5. الزهو بالذات والتباهي بالماضي .
يشعر الفرد العراقي بأنه سليل حضارات ، وأنه ابن بلد ” الاوائل ” : أول من اخترع الكتابة ، أول من اخترع العجلة ، أول من بنى المدن ، أول من سن القوانين ،أول من ابتكر آلة موسيقية ،أول من زرع الأرض وابتكر نظام الري ، أول البلدان في عدد الانبياء … الأمر الذي نجم عنه نزوع سلوكي الى عدّ الخلاف مع الآخر من صفات الذي يريد أن يكون ” الأول ” أو من صفات التي تليق بأبن ” الأوائل ” .
ويتداول العراقيون مقولة ( ارفع راسك انت عراقي ) . ومع أنها حالة ايجابية حين تشكل موقفا” ضد الاذلال والنيل من الكرامة وعزّة النفس ، الا انها تتضمن معنى ” التباهي ” بالماضي ، وتشير ضمنا” الى بؤس الحاضر ، وحالة من عدم التوازن النفسي لدى الفرد تفضي بالنتيجة الى ميله نحو الخلاف مع الآخر .
6. العنف الثقافي
يوصف العراق بأنه بلد التنوع الثقافي والعقائد العجيبة ، وفيه نشأت مدارس فلسفية وفكرية وفقهية وايديولوجيات من اقصى اليمين الى اقصى اليسار ، اعتمدت في أطوار من مسيرتها أسلوب الاختلاف مع الآخر في الرأي ، نجم عنه ازدهار ثقافي ونزوع نفسي نحو الابداع المعرفي الذي من خصائصه الاتيان بما هو جديد ومخالف لما هو موجود.
غير أن السلطة تدخلت ، في اطوار اخرى من مسيرة هذا التنوع الثقافي ، فحولت الاختلاف مع الآخر على مستوى الرأي الى خلاف معه على مستوى الفعل ، اعتمد أساليب العداء والاضطهاد بأنواعه وانتهى بالعنف الذي يستهدف القضاء على ” ثقافة ” الآخر سواء بالسجن او بدس السم او الاعدام او الحرق علنا بتهم الكفر والالحاد والزندقة .
ما يعنينا هنا أن ذلك الواقع افرز حالة سيكولوجية بأن شطر المفكرين والمثقفين الى قسمين متضادين يتحكم في كل منهما أسلوب النظر الى الامور بثنائية ” اما اسود واما ابيض ” وهو اسلوب معرفي متصلّب يفضي الى الخلاف مع الآخر في السلوك والعناد العصابي في مواقف الصح والخطأ على السواء.
ومن مفارقات التنوع الثقافي والمعرفي الذي انفرد به العراق، انه انتج نوعين متضادين من التفكير: علمي ، انتشر بشكل محدود بين النخب الثقافية ، وخرافي انتشر بين العامة من الناس وبين من يعدّون انفسهم مثقفين . فحين دخل القطار الى العراق بدايات القرن الماضي ، اعلن أحد رجال الدين المؤثرين تحريم استخدام القطار قائلا : ” أتتركون حمير الله وتركبون الشمندفر “.
ان (الخلاف مع الآخر ) علّة نفسية مصابة بها الشخصية العراقية ، وقد لا استثني أحدا منها لاسيما الذين صارت أمور البلاد والعباد بأيديهم ، وأنها فعلت بنا ما فعلته ثارات الجاهلية باجدادنا.

ثقافة السلام
يعرّف قاموس وبيستر “الثقافة” بأنها: تطور وتحسين وتهذيب العقل والانفعالات والاهتمامات والعادات والأذواق ، فضلا” عن الآداب والفنون والافكار والتقاليد والمهارات الخاصة بجماعة معينة في زمن معين . ويضيف قاموس اكسفورد ،ان الثقافة تعني الجانب الذهني للتمدن أو التحضّر .
وما يهم هنا أن الثقافة ،بوصفها قيم وأفكارومعتقدات، هي التي توجّه سلوك الفرد وتحدد نوع أهدافه.ولك أن تشبّه الثقافة ،من حيث قوة تأثيرها في السلوك، بالبرنامج الرقمي الذي يتحكم بعمل الحاسوب..وأن تفترض أن بداخل كل واحد منّا ” مركز سيطرة ثقافي ” هو الذي يوجّه سلوكنا ويحدد أهدافنا ..وكما أن الثقافة القائمة على التنافس تشجّع على العدوان فان الثقافة القائمة على السلام تشجّع على التعاون والايثار.
ويعرّف قاموس وبيستر ” السلام” بأنه : التحرر من الحرب وتحقيق الأمن الاجتماعي والتوافق والانسجام والصفاء بين الناس. وعلى هذا الأساس فان ( ثقافة السلام ) تقوم على ما ذكر في أعلاه، وتعمل على أن تكون الوسيط لنقل: القيم، الأفكار الأخلاقية ، المعلومات، التقاليد، العادات، الانفعالات، والفنون، بين : الناس والاجيال والأمم والحضارات.وبهذا تكون ثقافة السلام قوة منتجة من خلال نقلها للأنماط الثقافية من الماضي الى الحاضر ، وخالقاً مهماً ومؤثرا تربويا فاعلاً بما تمتلكه من قدرة على ابتكار ما هو جديد من القيم والمعايير والاتجاهات والسلوك.
وتتحدد قيم ثقافة السلام بالآتي:
1. فهم واحترام ثقافات الآخرين واديانهم.
2. حق كل فرد في أن يُعامل بشكل أنساني، واحترام قيمه الثقافية ومعاييره وتقاليده.
نقلا عن المدى