تحليل سيكوبولتك
يمكن القول إن العراق هو الوحيد الذي يمتلك ذاكرة حروب تمتد آلاف السنين،وان المجتمع العراقي يكاد يكون الوحيد بين مجتمعات العالم الذي خبر العنف لأكثر من سبعة آلاف سنة ولا يزال!
وأكيد أن الأمر لا يتعلق كلّه بالتركيبة الوراثية، إذ لا يُعقل أن ( جينات ) الإنسان العراقي تختلف عن ( جينات ) باقي البشر( مع أن البعض يرى أن جينات العراقي تكيّفت للعنف )، أو بالمناخ ( حَرّ شديد وبرد شديد ) أو الطبيعة غير المستقرة في العراق وكثرة الفيضانات …) إنما الأمر الأهم يتعلق بطبيعة ( الصراع ) على السلطة، الذي بسببه تعرض الفرد العراقي الى اضطهاد وقسوة وظلم وقهر واستلاب تفوق ما تعرض له البشر الآخرون . فتاريخ العراق هو تاريخ العنف والدم والمعارك والأهوال والكوارث..ليس من بدء المشهد الكربلائي وتحوّل السلطة في الدولة الإسلامية الى وراثية،بل الى ذلك التاريخ القديم جدا، الذي يذكر لنا معلومة لها دلالة هي أن المهاجرين الى العراق القديم كانوا من المحاربين الأشداء!
صحيح أن تاريخ أوروبا كان مليئا بالحروب، لكنها ودّعت العنف وصار توجهها نحو الحياة ، فيما نحن نمارسه بأفضع صوره حتى صار توجهنا النفسي يميل أكثر نحو الإفناء، لا سيما في السنوات السبع والثلاثين الأخيرة التي شاعت فيها ثقافة العنف .
والغريب في الأمر،أن السيكولوجية العراقية والإسلامية ( بعد أن صارت بغداد مركز الدولة ) أشاعت العنف وجعلته الوسيلة الوحيدة لحل النزاعات ولإجبار الخصوم على الطاعة والخضوع . وكانت لا تلجأ الى التفاوض والحوار إلا بعد أن تقطف السيوف رؤوس أفضل ما في القوم..وهذه خاصية سيكولوجية في العنف، أنها تغلق كل نوافذ التفكير وتحشد كل قوى الحقد والعدوان باتجاه الانتقام.
ان ذاكرة تاريخ العراق الحديث مشحونة بحوادث بشعة،من بينها:
* قتل الملك فيصل الثاني صبيحة 14 تموز 1958، وقطعت يدي الوصي وآخرين وطاف بها الناس في شوارع بغداد .
* وقتل في عام 1959، وسحل بالحبال ، وعلّق على المشانق ، أشخاص في الموصل وكركوك .
* وقتل عبد الكريم قاسم في رمضان 1963، وشوي في الشهر نفسه بالنار سكرتير الحزب الشيوعي العراقي وعدد من أعضاء الحزب وهم أحياءٌ، وآخرون محسوبون على نظام قاسم جرى التمثيل بهم .
* وعقب هزيمة الجيش العراقي في الكويت عام 1991، وصل العنف بالعراقيين أنهم وضعوا إطارات السيارات في رقاب عناصر من البعثيين وأحرقوهم وهم أحياء .
* وبعد انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية في 1988 أُبيد اكثر من مئة وثمانين ألف كردي في عمليات الأنفال ، وأُحرقت آلاف القرى الكردية ، فضلا عن مجزرة حلبجة المعروفة .
* وفي عام 2003 اكتشف العشرات من المقابر الجماعية تضم رفات آلاف العراقيين ، بينهم نساء وأطفال دُفنوا وهم أحياء .
وتبين أن السلطة في نظام الطاغية استعملت وسائل العنف في التعذيب حتى مع من كان موضع شبهة، مثل وضع الشخص وهو حي في الأحماض التي تذيب اللحم والعظم ، والكي والحرق وتقطيع الأعضاء .
ويُخطئ مَن يرى أن هذا التفنن في العنف كان من مبتكرات النظام السابق ، بل هو في الأصل ( إرث سيكولوجي ) من الأنظمة السابقة التي حكمت العراق ، منذ أن صارت بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية لألف عام . ففي هذا الإرث مشاهد من العنف قد تكون أكثر بشاعة وإهانة لقيمة الإنسان ، إليكم واحدا منها :
في عام 291هج جاء جنود السلطان بالقرمطي ( الحسين بن زكرويه ) ومعه أكثر من ثلاثمئة من اتباعه ، وقد وضعوا في فمه خشبه مخروطية وشدت الى قفاه كهيئة اللجام . وأمر الخليفة ( المكتفي ) ببناء دكة في المصلى العتيق . وتجمهر الناس، وجيء بالأسرى يتقدمهم القرمطي ، فصعدوا به الى الدكة وقدّم له أربعة وثلاثون من الأسرى وقد قطّعت أيديهم وأرجلهم وضربت أعناقهم واحدا بعد واحد . ثم قدّم كبيرهم فضُرب مئتي سوط، وقُطعت يداه ورجلاه وكوي ثم أُحرق ورفع رأسه على خشبة ، وصلب بدن القرمطي في طرف الجسر الأعلى الواقع في بغداد طبعاً.
وكان العراقي أكثر بني البشر- في زمانه – تعرضا للقسوة والذلّ والإهانة. ففي زمن الخلافة العباسية فقط، ضرب الحصار على بغداد اكثر من عشر مرات ، أضطر الناس فيها الى أكل القطط . وفي زمن الخلافة العثمانية ( نحو 500 عام ) كانت حتى العشائر في الريف تتصارع من أجل السيطرة . وكانت بغداد تنهب وتدمر وتهان لألف عام من الظلم والطغيان وإذلال أهلها من قبل الغزاة . والحقيقة – التي تعيد نفسها اليوم – أنه حيثما حكمت بغداد أو احتلتها سلطة أجنبية ، ساد العنف كل أرجاء العراق .
الشخصية العراقية ..وسيكولوجيا الخلاف مع الآخر
كان لديّ شك يتاخم اليقين أن الشخصية العراقية أكثر ميلا الى الخلاف مع الآخر منه الى الاتفاق. وتحول هذا الشك الى يقين بعد أحداث السنوات التي تلت عام 2003 ، فرحت أبحث عن اسبابه فوجدت أن هذه الصفة ليست من صنع حاضر قريب او بعيد ، انما تعود الى تاريخ يمتد الاف السنين ، وانها ليست ناجمة عن سبب بعينه ( القول ان العراقيين جبلوا على هذه الصورة مثلا ) انما عن شبكة معقدة من الأسباب تفاعلت فيما بينها فأنتجت الشخصية العراقية بهذه الصورة .وقبل استقصاء عدد من هذه الاسباب اودّ ذكر معلومة قد تبدو جديدة للبعض.
هنالك نظرية في الشخصية تسمى النظرية التطورية Evolutionary ترى أن المورّثات ” الجينات” السلوكية تخضع لقانون الانتخاب الطبيعي فتعمل – عبر التاريخ التطوري للانسان -على تقوية مورّثات “جينات” سلوكية معينة واضعاف مورّثات اخرى (مقارب لقانون دارون :البقاء للأصلح). وهذا يعني أن الأحداث التي عاشها الانسان عبرتاريخه التطوري تدخلت في عمل المورّثات “الجينات ” بثلاث صيغ : تقوية مورّثات معينة ، واضعاف أخرى ، ودثر أخرى .
تأسيا على ذلك فاننا – أبناء هذا الجيل من العراقيين – لسنا فقط نتاج تكويننا البيولوجي الخالص،انما ايضا نتاج ما صنعته الأحداث من تأثير في مورّثات ” جينات ” أسلافنا العراقيين . ولك أن تقول : ان ” جيناتنا “الحالية مشّفرة أو مسجّل في ذاكرتها الأحداث التي عاشها أجدادنا ، وأننا نقرأ عناوين هذه الأحداث ونرى صورا منها عبر سلوكنا وتصرفاتنا.
ولكي لا يساء الفهم او يستنتج من قولي هذا أنني أميل الى تغليب العوامل البيولوجية في تكوين الشخصية ، فانني أعدّ الذاكرة بموروثها الثقافي من أهم عوامل تكوين الشخصية . وأعني بالثقافة : القيم “بأنواعها الستة ” والاتجاهات والمعتقدات والمعايير والفنون والآداب والعلوم ..وكل ما ينتجه المجتمع وينتقل عبر اجياله . وأزعم أن الثقافة – بالمفهوم المعرفي – تعمل على تكوين ” مركز سيطرة” داخل الفرد يقوم بتوجيه سلوكه نحو أهداف محددة ، وأن الاختلاف بين الأفراد ، في سلوكهم وتعاملهم مع الناس والأحداث ، يعود في واحد من أهم أسبابه الى مركز السيطرة الثقافي المعرفي هذا.
نقلا عن المدى