ابتداء أود تسجيل استنكاري للعمل الإجرامي الذي قامت به مجموعة من عديمي الأخلاق بتعطيل موقع كتابات، وأود تسجل تأييدي الكامل للموقع وإدارته، وأقول هذه الضريبة لا بد من دفعها حين قول الحق، فاصبروا على الأذى، وكل عراقي شريف معكم.
احتل صدام حسين الكويت في شهر آب عام 1990م، وفي الشهر الأول من عام 1991 بدأت الحرب، وبدأ قوات عاصفة الصحراء تدك العراق من شماله إلى جنوبه، فلم تترك جسرا على طول الطرق يمكن أن تمر منه القوات العسكرية، ولم تترك محطة توليد طاقة كهربائية عامرة، ومسحت من الوجود كل شيء اسمه اتصالات سلكية، فصارت مدن العراق معزولة عن بعضها البعض تماما، وصارت حكومة بغداد عاجزة عن حماية مدنها خارج العاصمة، وغدا العراق مفتوحا لكل من يريد أن ينفذ مخططا، أو يدمر شيئا، وهنا حدثت الكارثة الجديدة لأهل أبو الخصيب.
أبو الخصيب في الأصل مدينة سنية بامتياز، تحسب على سنة العراق، يكفيها لإثبات ذلك أن الخليل بن أحمد الفراهيدي من سكانها، والإمام ابن الجوزي مدفون فيها، وأشهر نتاجاتها الحديثة مبتكر الشعر العربي الحديث بدر شاكر السياب، ولكن كما ذكرنا في المقالين السابقين بأن هناك أسبابا أدت إلى حدوث تغيير في التركيبة السكانية، ولكن لغاية دخول صدام الكويت كانت الغالبية العظمى من سكان أبي الخصيب تنتمي إلى الطائفة السنية، ولكن هذه الطائفة كانت مهملة من قبل سنة العراق في وسط العراق، وغربه، وشماله، وذلك لأسباب كثيرة، منها: البعد المكاني عن التواجد السني الكبير في الوسط والغرب والشمال، وأيضا لاختلاف الثقافة واللهجة، فسكان أبو الخصيب خليجون بامتياز، وسكان أرياف، وسنة العراق في المناطق الوسطى والغربية والشمالية هم سكان مدن، أو سكان بادية، وحتى سكان الأرياف هناك هم في الأصل قبائل بادية توطنت في الريف، ومن الأسباب أيضا اختلاف التركيبة النفسية، فسكان أبو الخصيب فيهم طيبة زائدة عن الحد الطبيعي وهذا غير مناسب لطبيعة العراق الحادة العصبية، الأمر الذي يجعل الآخرين يستهينون بهم، ولا يضعونهم في الاعتبار، على الرغم من الرقم العددي الكبير لهم، حيث يصل السكان السنة في أبو الخصيب في ذلك الوقت إلى ما يزيد على ثلاثمائة وخمسين ألف نسمة إذا اعتبرنا أن الفاو امتداد لأبو الخصيب، وهناك أسباب أخرى كثيرة، والخلاصة من هذا أن سكان أبو الخصيب ليسوا في قائمة الاعتبار عند سنة العراق، ولذلك لم يحصلوا على مناصب سيادية، أو حتى مناصب قريبة من العليا في العهد الذي كان لسنة العراق فيه شأن، فقد كان سكان أبو الخصيب في المؤخرة دائما.
ولكن المثير في الأمر أن خصوم حكومة صدام التي كان يقال أنها سنية كانوا يعادون كل سني، حتى أولئك المضطهدين، أو المهملين من قبل تلك الحكومة، وبالتالي فعندما ضعفت حكومة بغداد بعد الضربات الموجعة التي وجهت إليها من قبل قوات التحالف اتجهت الأنظار في الجنوب الذي يتكون غالبيته في ذلك الوقت من الشيعة إلى المناطق السنية في الجنوب للانتقام منها، لعدم قدرة الخصوم في ذلك الوقت على الانتقام من صدام، وكان أبو الخصيب في مقدمة تلك المناطق التي تعرضت للانتقام، وهذا ما حدث حين دخل جيش التوابين، وقوات بدر وغيرها من إيران إلى الجنوب، إذ دخلت جموع غفيرة إلى مناطق أبو الخصيب، يساندهم عدد (أقول عدد وليس الجميع) من شيعة أبو الخصيب تهتف هتافات طائفية، وتضع تلك الجموع علامة إكس حمراء على البيوت التي يسكنها السنة في أبو الخصيب، وليس البيوت التي يسكنها الشيعة، وهي إشارة بارزة لبدء عملية الانتقام من تلك البيوت، كما تم ذبح الرفاق البعثيين السنة فقط، ولم يتعرض أحد للرفاق البعثيين الشيعة، فمن قتل في ذلك الوقت ينتمي إلى بيت السلمان، وهم سنة، وإلى بيت الفداغ وهم سنة، وغيرهم من العوائل السنية الأخرى، واضطرت عوائل كثيرة في تلك الفترة إلى الهروب من بيوتها إلى مناطق أخرى خوفا من الانتقام، والجدير بالملاحظة أن هناك بعض عمليات الانتقام كانت بانتهاك الأعراض، ويبدو أن هذا عرف ثابت في الانتقام من السنة، فضلا عن أشكال أخرى من الإرهاب الطائفي، مثل كتابة شعارات طائفية على الجدران، والأهازيج الطائفية المليئة بالحقد، وطلب الثأر، فقد كانت الأهزوجة السائدة لجيش التوابين حين المرور بالمناطق السنية في أبو الخصيب هي: اليوم ثارك يا علي، ولا أدري ممن سيأخذ ثأر رجل قتل قبل ألف وأربعمائة عام؟
بعد انتهاء الأحداث، ودخول الجيش العراقي إلى البصرة مرة أخرى في شهر نيسان من عام 1991م، عادت سيطرة حكومة بغداد على الوضع في الجنوب، ولكنها سيطرة ضعيفة هشة، فقد كان النهار للحكومة، والليل لأي شخص أراد أن يكون حاكما، فالليل لرجاله، والنهار للحكومة، واستمر هذا الوضع طويلا جدا، وخصوصا في المناطق المحصورة بين الناصرية والبصرة، وبين العمارة والبصرة، وهي مناطق أهوار، فقد كانت هذه المناطق عاصية على صدام حتى إبان الحرب العراقية الإيرانية عندما كان صدام قويا، وكان لا بد من إيجاد حل للتقليل من تهديد تلك المناطق على أمن الدولة، وقد كان القرار هو تجفيف الأهوار، وترحيل أعداد من عشائره إلى مناطق أخرى، وفي نفس محاولة استمالة العشائر الشيعية في الجنوب لصالح الدولة، الأمر الذي جعل عدي صدام يدعي التشيع، ويهاجم الوهابية، وذلك من أجل التقليل من العداء الحاصل بين المناطق الجنوبية وبين الدولة، الأمر الذي كان ضحيته سنة الجنوب، فقد كانت تحدث اعتقالات عشوائية لسنة البصرة بحجة أنهم وهابية، ويزج بهم في الأمن، ويعذبون أشد تعذيب، وكان الأمن العراق يتقصد أن يسجن هؤلاء السنة مع مساجين شيعة، ثم يطلق سراح المساجين الشيعة ليقوموا بنقل أخبار تعذيب الوهابيين السنة في الأمن، وقد شهد جنوب العراق اعتقالات متكررة لأبناء السنة، وعذبوا أيما تعذيب من أجل إثبات أن عدي ومجموعة أخرى من القيادات الشيعية هم أنصار الشيعة، وأعداء الوهابية، وكان أولئك الأبرياء السنة ضحية لتلك السياسة، مما أدى إلى جموع كبيرة، وهي آلاف من العوائل إلى الهجرة من البصرة إلى الموصل، والأنبار، وغيرها من المدن السنية الأخرى خوفا من الأمن في النهار، وخوفا من ثوار الشيعة في الليل، فهم بين مطارق كثيرة، لا سبيل لهم لدفعها، لضعفهم، ولعدم تكاتفهم، ولعدم وجود شوكة لهم في الدولة، فلم يكن لهم خيار إلى الرحيل، فيالبؤسهم من أناس ضعفاء.
ومما زاد الأمر سوءا هو توطين كثير من عشائر الأهوار الشيعية في المناطق المحصورة بين أبو الخصيب والفاو، وبأمر من عدي صدام حسين مباشرة، فمنحت لهم البساتين التي هجرها أصحابها، ومنحت لهم أراضي الكويتيين، حيث كان الكثير من أهلنا في الكويت يحبون تملك أراضي في أبو الخصيب لأسباب كثيرة، منها صلة القرابة الوثيقة حيث لا توجد عائلة في أبو الخصيب إلا ولها أقارب في الكويت، وكذلك لجمال مناطق أبو الخصيب، فقام عدي بمنح تلك الأراضي للوافدين الجدد، وهكذا وبين عشية وضحاها قام عدي صدام حسين بجعل عشائر الأهوار ملاكا لأراضي أبو الخصيب على حساب أهل ذلك القضاء الضعفاء، الذي لا حول لهم ولا قوة، فهم أضعف من نسائهم، وأجبن من أن يقوموا بالمطالبة بحقوقهم، فتشردوا بين المدن، وسلبت منهم أراضيهم، وقتل من قتل، وشرد من شرد، وصاروا ضعفاء في أرضهم رغم كثرتهم، فهم غثاء السيل، وزبد البحر.
وفي الحلقة القادمة سوف نكمل مأساة ذلك القضاء، ومعاناة أهله الطيبين.
[email protected]