30 أبريل، 2025 10:10 ص

كانت قريتنا جميلة جدًا بمناظرها الخلابة التي وهبتها لها الطبيعة، وكانت النسائم تدغدغ أجسادنا مع أزهار الربيع الملونة، ورائحة العطور تملأ المكان. وكانت السماء تميل بغيومها البيضاء وهي حبلى بمزنة ربيعية.
كنا ننظر إليها وإلى تلك الألوان الزرقاء عند ذلك الأفق البعيد، والذي كان في نهاية ذلك المشاع الريفي للقرية.

سائرون بين الحشائش، وعلى يسارنا سكة القطار، طريق المواصلات الوحيد الذي يربط مدينة الموصل بالعاصمة بغداد. في تلك اللحظات تشعر بأن العالم كله أصبح ملكًا لك، وأن سكانه كلهم طيبون، وأن جمالية المنظر هي هدية لك في هذا المساء. جميل أن أرسم لكم هذه الصورة بكلمات مفرداتها حروف، ولكنها زهور ربيعية تجسد تلك اللحظات التي كنت أعيشها ببراءة الطفولة وبراءة ابن الريف الذي لم تدنسه العولمة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي.
أحكي لكم ذلك العشق الجميل بين الهواء النقي في قرية العين واصفية جنوب الموصل وبين الزهور التي خلقها الله ووهبها للطبيعة بدون تدخل يد الإنسان فيها.
جلست فوق ذلك الوادي الذي كان يبعد عن القرية مئات الأمتار، مراقبًا المياه وهي تجري تحته،
ومع غروب الشمس، وانا أسمع الأرض وهي تحاكيني بحكاياتها الجميلة، حكايات أبناء الفلاحين والأمنيات البسيطة التي لا تتعدى محيط ذلك الريف الجميل.
في هذه الأوقات كانت العصافير بأنواعها تتناجى في تلك الحقول الخضراء وتزقزق وكأنها تشاركني تلك الفرحة.
في ذلك المساء
رأيت الزهور تنحني وكأنها تقول لي مساء الخير، ورأيت نسيم الهواء الذي يأتيني من كل الاتجاهات بنقاوته وصفائه يخرج من بين الأعشاب الخضراء ومن بين جداول المياه.

أما في قلبي فكانت أمنيات في براري الذاكرة، وفتشت عن حلمي الذي لم يكن بعيدًا عني، ولكني فقدته لأن براءتي وذهابي إلى تلك المدينة يعتبر من المستحيلات. تذكرت تلك الضحكة العابرة وذلك الكلام العذب الذي كنت أحوله دائمًا إلى قصيدة شعرية، وما أن أنتهي من كتابتها حتى أقرأها لوحدي في تلك البراري، ثم أقوم بتمزيقها حتى لا يقرأها غيري، ولأحافظ على طهارة ذلك الحب وعلى براءة ابن الريف الذي يعتبر أن الممنوع محرم، وأن المحرم في تلك الشريعة يعتبر من جرائم العصر.
في ذلك المساء أدركت أن اللحظات تذهب ولا تعود، وأنني كل ما أكتبه من مشاعر كانت في حينها لا توصف، ولكنها ذهبت مع ذلك الربيع ومع غدير الماء ومع صوت وزقزقة تلك العصافير.

في ذلك المساء انتقلت للجلوس وحيدًا فوق ذلك التل الأحمر الذي يمر بقربه سكة القطار، والذي كنا نتسلى به من خلال القفز على ترابه الناعم. كنت أعيش بعالم الخيال لوحدي، وأنا أتخيل ذلك الثوب الأبيض وتلك العينين التي تلمعان كالنجوم في سماء قريتنا، وتلك الابتسامة التي لم أستطع أن أكتب الكلمات لأوفيها بعض الشيء. أسمعها تحاكيني ولكنني بلا جواب، تناديني وتقول لي هل سَرقَتك مني الأحلام والأماني، وأنا صامت وكأنني في محراب الصلاة عاجز عن النطق.

لماذا كانت كلماتها في أذني تهمس بلا ترتيب ولا موعد، وأحيانًا قهقهة الضحكة، ثم أنظر إلى ذلك الأفق البعيد، أجد نفسي وحيدًا ومن حولي الربيع والأزهار وصوت العصافير. كم أنا خجول أعيش مع الطبيعة وحيدًا، أكبت مشاعري وأمنياتي في ذلك القلب الضعيف.

كانت لحظات قصيرة، بعدها ساد الصمت، وكالمعتاد في نهاية كل طريق يأتي ظلام الليل، لأنهض من مكاني وأعود إلى قريتي، تاركًا تلك الأحلام وتلك الأمنيات فوق ذلك التل الأحمر وفوق سكة الحديد. وها هي قد غابت كل الأمنيات عني، وها أنا قد أفقت من ذلك الحلم وعدت إلى عبق الربيع في تلك القرية، قرية العين و اصفية المتربعة هناك فوق هضاب وتلال مناطق جنوب الموصل.