كلّ شيء بدا على ما يرام في بيروت. الساهرون في بيوتهم كانوا يسترخون أمام تلفزيوناتهم. التلفزيونات كانت تواصل برامجها المعتادة. بعض السياسيّين كانوا قد نبّهوا اللبنانيّين إلى نعمة الأمن قياساً بأوضاع الجوار. سياسيّون آخرون كانوا قد طمأنوا إلى أنّ العهد الجديد لا يقلّ عن عصر جديد.
فجأة تأهّب مشاهدو التلفزيون المستلقون على كراسيهم. عدّلوا جلستهم المسترخية وأصابهم شيء من الاستنفار. فجأة تحوّلت القناة التلفزيونيّة موقعاً حربيّاً، وصار السؤال: هل يسقط هذا الموقع ومتى يسقط؟
قليلون جدّاً هم الذين صدّقوا أنّ شربل خليل ومحطّة «الجديد» أهانا الإمام موسى الصدر. ولنقل، بالصراحة التي تعكس الحساسيّات اللبنانيّة المعروفة، إنّ من المستبعد، إن لم يكن من المستحيل، أن يتجرّأ صاحب محطة سنيّ وصاحب برنامج مسيحيّ على رجل دين وسياسة يُنسب إليه تأسيس الشيعيّة السياسيّة في لبنان. وهذا فضلاً عن أنّ الصدر، لم يعد فاعلاً سياسيّاً منذ تغييبه قبل قرابة أربعة عقود. ثمّ إنّه، ولا سيّما بفعل تغييبه الظالم، محطّ تعاطف واسع عابر للطوائف.
هكذا بدا طبيعيّاً أن تتّجه الأنظار فوراً إلى أسباب أخرى وراء الغزوة «الجماهيريّة» التي حاصرت المحطّة والعاملين فيها: هناك الودّ المفقود بين رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي وصاحب القناة التلفزيونيّة تحسين خيّاط، وهناك عموم الخريطة السياسيّة، في ظلّ عهد جديد واحتمال قانون انتخابيّ آخر، وربّما وضع مختلف في المنطقة. هذا بدوره قد يحضّ الأطراف السياسيّة الفاعلة على استعراض قوّتها وتوكيد أهميّتها في موازاة التحوّلات المقبلة والممكنة. لحالات كهذه، هناك معادلة شهيرة ترجع إلى عهد عنترة بن شدّاد: أضرب الضعيف ضربة يطير لها قلب القويّ!
لكنّ ما تعرّضت له قناة «الجديد» (وموقّع هذه الأسطر ليس من عشّاقها) أخطر وأبشع من أن يمرّ مرور الكرام. ففي تلك الليلة التعيسة، قُدّمت عيّنة باهرة على الحياة اللبنانيّة الراهنة، وعلى موقع الحرّيّة في توازناتها الفعليّة.
واقع الإعلام وأزماته في لبنان، صار يستدعي النظر بعين أوسع. الكلام عن حكم المؤسّسات وسيادة القانون، والذي لم يُحمل مرّة على محمل الجدّ، صار لا يُحمل إلاّ على محمل التشدّق.
أبعد من هذا وأهمّ، ذاك الأساس التحتيّ الذي يحكم العيش اللبنانيّ، والذي جاءت ليلة «الجديد» تكشف على نحو بليغ رخاوته وتهافته. فالمؤسّسات والحرّيّات شيء والمقدّس المحميّ بالسلاح شيء آخر. والشيئان لا يلتقيان بتاتاً. المقدّس – الذي قد يكون قضيّة – سريعاً ما يتقلّص إلى زعيم أو مرجع أو قطب. والسلاح المقدّس – الذي يقال إنّه مخصّص للعدوّ – ينشر في المجتمع حالة سلاحيّة قد تكتفي بالمفرقعات، كما في تلك الليلة المشؤومة، وقد لا تكتفي بالسلاح، كما في 2008، ولا باستدعاء الحرب، كما في 2006، ولا بالاغتيالات، كما في 2005.
فليس صحيحاً ما قاله رئيس الجمهوريّة من أنّ لا تناقض بين الدولة والسلاح الذي ليس في يدها. وليس صحيحاً أنّ لا تناقض بين الدولة، ومعها المؤسّسات والحرّيّات المكفولة بالقانون، والمقدّس. والواقع وتجارب الماضي القريب تقنعنا بأنّه كلّما زادت قداسة المقدّس (أمين عام حزب الله مثلاً، أو القضيّة التي ينتدب نفسه لتمثيلها) زادت احتمالات الدوس على الحرّيّات والمؤسّسات والدولة.
ذاك أنّه ما من شيء مقدّس إلا المقدّس، أي المنزّه عن الحياة الزمنيّة والسياسيّة. غير ذلك عنف دائم، ظاهرٌ مرّةً كامنٌ مرّة أخرى، وبضعة شبّان هائجين يسهل تجميعهم ودفعهم إلى حيث «ينبغي» أن يندفعوا. وهذا يبقي السلم – الذي «نُحسَد عليه» – هشّاً جدّاً وظاهريّاً جدّاً.
نقلا عن الحياة