ذات زمن في بغداد – قراءة في مذكرات مارغو كرتيكار

ذات زمن في بغداد – قراءة في مذكرات مارغو كرتيكار

تأتي مذكرات مارغو كرتيكار، المعنونة في ترجمتها العربية بـذاتزمن في بغداد، بوصفها شهادة حية على لحظة عراقية كانت تموجبالتحولات العاصفة. فهذه الصفحات ليست مجرد سيرة شخصية،بل سردية نابضة لجيل كامل عاش التعددية ثم شهد تصدعها،تنطلق من ذاكرة فتاة يهودية عراقية نشأت في قلب بغداد، قبل أنتبدأ المدينةوالوطنفي الانغلاق على ذاته، ويصبح الماضيعبئًا والهوية خطرًا.

 ومارغو تكتب بأسلوب بسيط صافٍ، يخلو من التكلّف، لكنه مشبعبالوجع والتأمل. لا تتحدث عن ذاتها باعتبارها ضحية، بل باعتبارهاجزءًا من عالم تمزق. تنقل يومياتها المدرسية، علاقاتها بأقرانهاالمسلمين والمسيحيين واليهود، لهجة أمها، وأحاديث أبيها عن الدولة،وهي تفعل ذلك دون استعلاء أو لوعة مفتعلة، بل بحنين خافت يحملبين طياته نقدًا مريرًا لما آلت إليه الحال.

تقول عن تلك الطفولة البريئة التي لم تكن تعرف الفروق الدينية:

   “في مدرستي، لم يكن أحد يسأل الآخر: هل أنت مسلم أم يهوديأم مسيحي؟ كنا نغني للنشيد ذاته ونقف إجلالًا للعلم نفسه. لمأشعر بأن هناك فرقًا بيني وبين صديقتي زينب حتى بدأ الكباريهمسون بأشياء غريبة.”

   في هذه المذكرات، تتحول بغداد من مدينة إلى كائن حي، أمّحنون طُعنت في ظهرها. فحين تصف الأزقة، والمدارس، والكنس،والأسواق، فإنها لا تسترجع الأماكن فقط، بل ما كانت عليه الروحالعراقية من فسحة وتداخل وطمأنينة، قبل أن تعصف بها التحولاتالسياسية التي لم تميز بين الهوية والانتماء، فجعلت من كل اختلافشبهة.

ولفهم خلفية هذه المذكرات، لا بد من استحضار تاريخ اليهودالعراقيين، الذين يعدّون من أقدم الجماعات اليهودية في العالم،جذورهم ضاربة في أرض الرافدين منذ أكثر من ألفي عام. وفيالقرن العشرين، خصوصًا في عهد الملكية، لم يكونوا أقلية مهمشة،بل شريحة فاعلة في الاقتصاد، والثقافة، والتعليم، بل حتى فيالسياسة.

 لكن هذا الحضور بدأ في الانحسار بعد نكبة فلسطين عام 1948،حين صارت القومية الصاعدة تنظر إلى اليهود بوصفهمقنابلموقوتة، لا مواطنين. فُرضت القيود، وبدأت الاعتقالات، واشتدتوتيرة التضييق، إلى أن جاء التهجير الجماعي بين عامي 1950 و1952، والذي اقتلع أكثر من مئة ألف يهودي عراقي من جذورهم،في واحدة من أوسع عمليات الإفراغ السكاني في الشرق الأوسطالحديث.

تصف مارغو تلك اللحظة المروعة، لا من زاوية سياسية، بل منشقوق الذاكرة اليومية، فتروي: “أصعب ما مرّ عليّ لم يكن يوممغادرتي بغداد، بل اليوم الذي سمعت فيه جارنا المسلم يقول لأبي: ‘أنتو مو منّاأنت يهودي‘. عندها فقط عرفت أن الوطن يمكن أنيصبح سكينًا.”

 لم يكتفِ العراق الرسمي بهذا النزف، بل واصل حملات التشكيكوالملاحقة لما تبقى من اليهود بعد ذلك، لا سيما في عهد البعثالثاني، حين غابت الثقة وتحولت الهويات الدينية إلى أدوات قمع. في هذا المناخ الملوث بالخوف، تشكّلت مذكرات مارغو كرتيكار،كوثيقة تحكي عن الإنسان حين يشعر أن تاريخه صار تهمة، وأنالمكان الذي أحبه قد تخلّى عنه.

  وما يمنح هذا العمل خصوصيته هو قدرته على التقاط التمزقالداخلي دون الوقوع في خطاب الضحية أو المظلومية. مارغو لاتهاجم العراق، بل تحبه رغم خذلانه. لا تتنكر لماضيها، لكنها تعريهمن الأوهام، وتقدمه في هشاشته الإنسانية، حيث لا توجد إجاباتسهلة، ولا أشرار مطلقون. بل هناك أفراد، ومؤسسات، وأحلام،انهارت بفعل الخوف وسوء التقدير السياسي، وغياب ثقافة التعدديةالحقيقية.

ولعل من أكثر المشاهد تأثيرًا ما كتبته عن مغادرتهم البلاد: “غادرنافي الليل، بلا ضجيج. حملتُ صورتين، ودفتر مذكراتي، وقليلًا منالتراب في كيس قماش صغير. لم أبكِ، كنت خائفة من أن يُسمعصوتي في الظلمة.”

 كأنها كانت تُدرك أن الرحيل لن يكون مؤقتًا، وأن الجرح لن يكونسطحيًا. هذا الصمت، وهذه الرمزية في التراب، تقول أكثر مماتقوله المقالات السياسية والخطب الصاخبة.

  في خاتمة هذه القراءة، تبرز رؤية وجودية حادة: الهوية ليستبطاقة ولا شجرة نسب، بل هي شعور بالأمان والانتماء إلى مكان لايتبرأ منك عند أول عاصفة. ومتى ما خذلك وطنكأو جعلك تشكفي حقك في العيش فيهفإنك لا تفقدهويتكبقدر ما تفقدإيمانك بالعالم.

 تكتب مارغو، وقد مضت عقود على مغادرتها العراق، في لحظة تأملمؤلمة: “بعد سنوات في لندن، لم أسأل نفسي لماذا لا أشعربالانتماء. كنت أعرف الجواب: لأن الوطن الحقيقي لا يُخلق منجنسية، بل من نظرة جار، ودفء شارع، ورائحة طعام أمك.”

مارغو، التي بقيت لغتها عربية، ومطبخها بغداديًا، وأغانيها عراقية،لم تغادر العراق فعليًا، بل غادرها العراق. وهذا هو جوهر المأساة.

 بقي أن نقول شيئًا عن الترجمة التي اعتمدها المترجم الرائع صلاحمهدي السعيد. لقد بذل جهدًا ملحوظًا في نقل النص إلى العربية،ليس فقط بدقة لغوية، بل بحسٍّ إنساني وفني عالٍ. جاءت لغتهسلسة، عذبة، تنساب بهدوء، حتى ليخال القارئ أنه يقرأ العمل بلغتهالأصلية. بل يمكن القول، من فرط التماهي بين النص والترجمة، إنهلو شاءت مارغو كرتيكار أن تكتب مذكراتها بالعربية، لما خرجت إلاعلى هذا النحو.

 لقد حافظ المترجم على روح المذكرات، وعلى بنيتها العاطفيةوالزمنية، وعلى صوت الكاتبة الداخلي. سعى لأن يتلبّسشخصيتها، وأن يبرز معاناتها وأفكارها كما أرادتها أن تُروى، دونأن يتورط في تزيين أو تطويع النص وفق مزاج القارئ العربي. كانت الترجمة جسدًا جديدًا للروح ذاتها، حيث ظل الجو العامللمذكراتبشخوصها، وأحداثها، وأمكنتهاحيًا ومتنفسًا فيالعربية كما في الأصل.

 وهكذا، تصبح هذه الترجمة ليس فقط وسيطًا بين لغتين، بل بينزمنين، وذاكرتين، وقلبين: قلب الكاتبة، وقلب القارئ العربي.

والكتاب من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين،  وصدر في أواخر سنة 2024 ب 400 صفحة من القطع الوسط.

أحدث المقالات

أحدث المقالات