امس ، مرت ذكرى وفاة شيخ علماء الاجتماع في العراق د. على الوردي ، ففي 13 تموز من سنة 1995 ، غادرنا الى بارئه هذا العالم الجليل بعد ان قدم الكثير من الابحاث والكتب التي تتحدث عن طبيعة المجتمع العراقي ، وشخصية الانسان العراقي ، وفق دراسة منهجية قل مثيلها ، وشخصيا ، اجد فائدة ومتعة كبيرتان حين، تقع عيناي في مكتبتي على كتب عالم الاجتماع د. علي الوردي ” طيب الله ثراه” لما لها من أهمية داخل المجتمع العراقي، فهي تنحو الى تفسير ما يجول داخل العقل البشري، منطلقاً في كتبه ومقالاته من مبدأ يقول ” أن المفاهيم الجديدة التي يؤمن بها المنطق الحديث تتطور من حال إلى حال”.. كما ذكر ” اننا نمر اليوم بمرحلة انتقال قاسية، ونعاني منها الأماً تشبه الام المخاض، كنا ننتظر من المفكرين ومن رجال الدين وغيرهم ان يساعدوا قومهم في ازمة المخاض هذه، لكنا وجدناهم على العكس من ذلك يحاولون ان يقفوا في طريق الإصلاح ا” و ” لست اريد في آرائي ان أمجد الحضارة الغربية او ادعو اليها.. وانما قصدي ان أقول انه لا بد مما ليس منه بد ”
وفي هذا الحيز من خلال رؤيتي لآراء د. الوردي.. وجدت ان عالم الاجتماع يؤكد على انه لا يمكن ان يكون هناك تطور مع وجود الاتفاق العام والمطلق في المجتمع الواحد حيث يؤدي الاتفاق الى تماسك مجتمعي ثم جمود وعدم تطور وهذا يشل قدرة الانسان على الابداع، بل العكس يكون مقلدا للعادات والتقاليد القديمة، وحينما يسافر المرء الى باريس او غيرها من الدول الأوروبية يجد ان هناك حركة دائمة ليل نهار، لكن في المجتمع العربي نجد ان هناك خوف من العجلة (العجلة من الشيطان) وهذا المصطلح القديم الذي يوقف عجلة التقدم.. والمدنية والقلق صنوان لا يفترقان (لماذا).. يجيب الوردي: ان الأساس الذي تقوم عليه المدنية هو العمل والشقاء والمعاناة، المدنية لها ثمن باهظ يتطلب بذل جهد والعكس يكون كسل لا وجود للمدنية.
منطق المتعصبين
اذن، نجد من الصعب او حتى المستحيل ان يفكر بنو البشر انهم احرار في تفكيرهم.. كما يقول د. الوردي، ويعزو السبب في ذلك ان الإطار الفكري قيد لا شعوري موضوع على عقولهم من حيث لا يحتسبون به.. ويمكن ان نوصها كالضغط الجوي الذي نتحمل ثقله الهائل على اجسامنا دون ان نشعر به… متى نشعر به عندما نتحول من مكان الى اخر حيث يتغير مقدار الضغط ونشعر ساعتها اننا كنا على خطا.. وهذا ما دفعنا للقول ان العقل البشري أحيانا كثيرة لا يحس بوطأة الإطار الموضوع عليه الا إذا انتقل من مجتمع الى مجتمع جديد..
، ويذهب بنا الوردي الى ساحة المحاكم والقضاء، ويشير الينا ان نتطلع الى ما يتحدث به أصحاب الدعاوى والمحامون فيها، فكل فريق يعتقد بان الحق معه وحده.. ما يدلل على ان الظلم والعدل امران نسبيان.. فليس هناك شيء اسمه عدل مطلق ولا ظلم مطلق.. ومن الصعب تحقيق حلم الفلاسفة الاقدمون في المدينة الفاضلة.. ولو تحققت لهم السعادة لما احتاجوا الى الحكومات والمحاكم.. اما أحلام الطوبائيين في تكوين مجتمع لا مشكلة فيه ولا خصام، فهي أحلام تصلح لعالم الملائكة..
التنازع والتعاون
ويخطئ د. الوردي عالم الاجتماع المتمكن بشجاعة، الفيلسوف اليوناني الشهير أرِسْطُوطَالِيس، الذي طالما أكد ان (الانسان مدني بالطبع) مؤكدا، ان الصحيح هو (الانسان وحشي بالطبع مدني بالتطبع) …يا ترى لماذا الوردي يذكر هذا…. ربما ان التنازع والاختلاف عنصر من عناصر الطبيعة البشرية. فخير مثل على التنازع والتعاون مشاهدة طفل يلعب مع من بعمره وهما متحابان وبمجرد ما يختلفان على لعبة تلاحظ التشابك والتصادم!
الوردي، كما يعرف محبوه ودارسوه، انه يميل للسفسطة كثيرا ويقول (أنى افتخر بان أكون “سفسطائيا” خيرا من الخزعبلات المنطقية التي يتمشدق بها أصحاب المنطق القديم) لماذا؟ يجيب: لأنها غير منافقة وتؤمن بالحقيقة النسبية قولا وفعلا.. السفسطة.. تعني قول الحقيقة كما هي دون خوف او تردد ” دون مجاملة” وكل انسان يرى الحقيقة حسبما تقتضيه مصالحه وشهواته. وبتنازع هذه الحقائق الفردية تنبعث الحقيقة الوسطى التي تنفع النوع الإنساني عموما.. ومن المبادئ السفسطائية “الانسان مقياس كل شيء” بهذا المبدأ خدموا الفلسفة من حيث تسليط الأنظار نحو دراسة الانسان ووضعوا الأساس للتربية النظامية.
التاريخ والتدافع الاجتماعي
من وجهة نظر الوردي ” ان المؤرخين القدماء دأبوا على النظر في التاريخ من ناحية واحدة واهمال الناحية الأخرى منه. فهم ينظرون من ناحية الملوك ويهملون ناحية الشعوب” أي يهتمون بوجهة نظر الحاكم ويتناسون المحكوم.. وانتقد الوردي المناهج المدرسية بشدة حيث قال” ان الكتب المدرسية عندنا تعلم التلاميذ على ان يكونوا عسكرين لا علماء باحثين”
ان الانسان لا يمتلك غريزة ثابتة تدفعه نحو الخدمة الاجتماعية كما هو الحال لدى النحل او النمل. وهذا يندفع في خدمة قومه لأنه يرى نفسه أولى من غيره بهذه الخدمة فالخدمة الاجتماعية تسبغ على من يقوم بها مكانة ومهابة بين الناس.. ومن الصعب ان يتخلص الانسان من قوقعته الذاتية مهما حاول. ومن الظلم ان نطالب انسانا عاش بين البدائيين مثلا ان ينتج لنا فلسفة معقدة كفلسفة (برغسون) او رياضيات كرياضيات (اينشتاين). لا ينمو عقله الانسان الا في حدود القالب الذي يضعه المجتمع له، ويعطي الوردي مثالا على ذلك بقوله ” الإنسان اعتاد ان يرى الأرض مسطحة وثابتة في مكانها، ثم رأى الشمس تخرج من الشرق وتختفي في الغرب، فاعتقد ان الامر بديهي ولا يجوز الشك فيه، ولما جاء العالم كوبرنيكس وقال ” ان الشمس ثابتة بالنسبة للأرض، وان الأرض هي التي تدور حولها ”
لو أمعنا النظر لوجدنا مشكلة المكان تشبه مشكلة الزمان الى حد كبير والاسئلة الفلسفية التي تدور حول طبيعة المكان الزمان تدور حول طبيعة المكان.. حيث نبقى في حيرة واسئلة تدور في الذهن، هذا الفضاء من اين يبدا وأين ينتهي؟
ان العقل البشري يقول الوردي، اعتاد ان يرى الفضاء محيطا بكل شيء، من هذه الأشياء التي يعالجها في حياته، ويظن البعض ان هذا الكون محاطا بقضاء، وهذا الفضاء، محاط بفضاء اخر… يقول اينشتاين ” ان الفضاء محدب وهو يلف على نفسه مثل الكرة، وهنا تجابهنا مشكلة أخرى. فالفضاء مكون من ثلاثة ابعاد.. طول.. عرض.. ارتفاع.. فإلى أي جهة الفضاء ينحني او يتحدب؟ اينشتاين اجابنا” ان الكون يحتوي على أربع ابعاد لا ثلاثة.. اي الكون ينحني على البعد الرابع، والبعد الرابع هو الزمان” إذا تم حل مشكلة الزمان والمكان بضربة واحدة.
وعندما قرأت أحببت تفسيره لكم.. الزمان والمكان مصطلح ظهر حديثا وهو مصطلح نسبي في الفيزياء يدمج الابعاد الثلاثة للمكان مع بعد واحد للزمن ليكون فضاء رباعي الابعاد، مثلما قال “نيوتن” انها قوة التجاذب بين كتلتين، ولكن العالم اينشتاين بعدما اضاف نظريته النسبية الخاصة في عام 1905 لتصبح الابعاد التي تغمر الكون أربعة لا ينفك أحدها عن الاخر والزمان يجري فيها نسبة الى تلك الابعاد الأخرى ويتأثر بحركة الجسم وسرعته.
**************
ومعروف، ان للوردي الذي توفي في 13 تموز من العام 1995 مؤلفات عديدة، وقد ترجم معظمها الى لغات اجنبية.. ومن كتبه المعروفة: مهزلة العقل البشري، وعاظ السلاطين، خوارق اللاشعور (أو أسرار الشخصية الناجحة)، هكذا قتلوا قرة العين، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث (8 أجزاء)، الأحلام بين العلم والعقيدة، منطق ابن خلدون، قصة الأشراف وابن سعود، أسطورة الأدب الرفيع، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، شخصية الفرد العراقي، بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الاجتماع الحديث، الى جانب أكثر من 150 بحثا مودعة في مكتبة قسم علم الاجتماع في كلية الآداب بجامعة بغداد.