عندما كنا معلمين في أمكنة النأي وبين أحضان طبيعة الأهوار التي لم يدخل اليها بعد براغي المكائن الحديدية عدا المسامير التي تربط بين خشب المشحوف وآلة المنجل ومواعين الطبخ ، وغير ذلك نحن في هذا المكان نتوارث عيش سلالات من القرى التي انزوت بعيدا عن مجد الملك السومري أور ــ نمو لأنها لا تريد أن تتورط في حروبه ، وربما عرف أجداد سكان هذه القرى أن نهاية هذه الحروب ستكون من أتعس نتائجها هو : احتراق أور.
ضيوف هذا المكان البعيد وزواره قليلين ، فلا يمرُ علينا سوى صدى الحياة الصاخبة للمدن البعيدة ، ويوم يعرف المعدان أن موظفي الدولة آتون الى قريتهم يختبئوا في غابات القصب النهار كله لأنهم يعرفون أن اؤلئك الموظفين أما جباة ضرائب أو مفارز لإحصاء مواليد التجنيد الاجباري ، لكنهم يبقون بكامل عدتهم وعددهم مع مراسيم استقبال بسيطة يوم يعلمون فيها ان المفتش التربوي آت في زيارة المدرسة ومعلميها.
هم لايعرفون طبيعة عمله ولماذا هو هنا ،لكنهم يهابوه عندما يشاهدون ارتباكنا وقلقنا في انتظار هذا الرجل الذي ترافقه حقيبة سوداء ونصف ابتسامة على فمه.
ولأن المفتش قد يبقى نصف نهار أو اليوم كله في مدرستنا ، يدقق السجلات ويراجع دفاتر الخطة ويدخل الصفوف ويجلس كأي تلميذ في آخر الصف ليشاهد طرائق المعلمين في تعليم تلاميذهم فأننا نقوم قبل يوم بتحضيرات الضيافة وأهم فقرة فيه ما نسميه نحن فقرة ( ديك المشرف التربوي ) وهي فقرة يشرفُ عليها مدير المدرسة ويذهب يدور بين حضائر دواجن القرية لينتقي ديكا احمرا ويشتريه من اصحابه ثم تُكلف أم مكسيم بطبخة بمساعدة واحد من المعلمين الذين يحسنون الطبخ .
يوم يؤتى بديك المشرف التربوي الى منصة الذبح اتأمل ايماءات الحزن في عيون هذا الذكر الداجن وبؤسه وهو يغادر صباحات ايقاظ النائمين من اهل القرية والمعلمين وليذهب الى بطن المشرف التربوي وتشيعه نظرات حزن من دجاجات كان هو يعلمهم دلع الانوثة والأغراء( المكافز ) حيث يحملن في بطونهم بيضه وشهيته وتأوهاتهن.
صورة الحزن في وجه الديك هي صورة الذكريات عندما تسكن العناوين التي تحسب حسابها في وظيفتك او جنديتك أو قراءاتكَ ، المشرف في المدرسة ، العريف في الفصيل ، الأب في البيت ، الرئيس في جمهوريتك ، أغراء الممثلة على الشاشة السينمائية ، والأم التي تشرب حليب حنانها ، والأمام الذي استشهد في عاشوراء .
هؤلاء وغيرهم يمثلون الجانب المهم من احساسنا بالآخر الذي يؤثر فينا ونؤثر فيه ، والغريب ان العلاقة بين كل هؤلاء تتم من خلال وسيط أسمه ( النذر ) ، أو القربان الضحية ولهذا فالشظية والرصاصة ربما هي القربان للعريف والزنزانة للرئيس وتحمل صفعة الخد للأب والعادة السرية لأغراء الممثلة السينمائية ، والدمعة لحليب الأم ، والنواح واللطم لموت الأمام الشهيد ، فيما الديك هو قربان تلك الزيارة التاريخية للمشرف التربوي التي يربك الاستعداد اليها كل حياة هذه القرية الوديعة.!