23 ديسمبر، 2024 6:40 ص

كان يتهادى ويتمايل ويقفز بما يشبه الحركات الراقصة ، لقد كان شاب يرتدي زي دب ، للترويج للمول الذي يقف أمام واجهته ، بقيت أتأمله من بعيد ، ودارت في خلدي الكثير من الخواطر السوداء ، ما الذي يدعو شابا بدفن نفسه في كومة من الصوف والفراء ، وهو يؤدي حركاتا راقصة كانت عشوائية وغير متناسقة ، من الواضح أنه عمل لا يحبه ، لكن الأجر مع ضيق ذات اليد قد رجح الكفة ، فاعتقدت أنه لم يجرب الرقص يوما ، عزائي لهذا الشاب – الدب أن أقول له : أن المتنبي العظيم ربما قد مرّ بدافع آخرمن قبل أجبره على الرقص ، فقال (لا تَحسَبوا رَقصي بَينكم طربا .. فالطير يرقصُ مذبوحا من الألمِ) !.

من حسن حظ هذا الشاب ، أن وجهه يقبع خلف اللثام ، وإلا لتعرض للسخرية من معارفه أو أصدقائه ، فأسلوب الترويج هذا قد ينفع في الغرب ، ولكن ليس في مجتمعاتنا ، فأحدهم كان (نمرا) من الصوف أمام أحد مطاعم (ليز) المشهورة ، كان يؤدي تفس الحركات للترويج للمطعم ، فمرّت بقربه إحدى الفتيات ممن كان يبدو عليها مظهر الثراء ، والفضل لذويها طبعا ، فقالت بنَزَق مُسمِعة إياه (لو أعطوني الملايين ، ما وضعتُ نفسي في هذه المسخرة) ! ، فما كان من الشاب إلا أن يتوقف ، مثل لعبة نَفَذت بطاريتها ، فخلع قناع النمر المبتسم ، ليظهر تحته رأس شاب حزين موجوم ، وجلس على إحدى درجات المطعم ، ثم سالت دموعه بصمت ! ، لقد تَفَلّتت منه حتى بقايا فُتات الأمل والتفاؤل بسبب العبارة الوقحة التي أطلقتها تلك الفتاة التي لم يلاحقها يوما شبح الفقر أو العَوَز بل المسؤولية ! . فسبحان الله ، في هذا البلد ، يتقنّع من يبتغي رزقا حلالا ، وتُسفر وجوه سرّاقنا الصفراء من حاكمينا على شاشات التلفاز ! ، اتصورأحده هؤلاء الشباب وهو يتصبب عرقا خلف قناعه ، بلامح عكس مُحيّا وجه الدمية المبتسمة تماما ، تعبا أو ربما خجلا ، على الأغلب أن لديه موهبة ، أو يتقن عملا ، على الأغلب أن لديه تحصيل علمي ، بل على الأغلب أن الرأس القابع تحت البزّة ، فيه ضمير ومؤهلات أفضل من جميع المؤهلات المزوّرة وضمائر أعضاء البرلمان الميتة ، لكنه يأس فشيّعها ودفنها جميعا في مقبرة المواهب التي أسمها الوطن .

أسأل الله ، أن يعيش هؤلاء السّراق الذين يسمونهم سياسيين ، كل لحظة من اليأس والخوف من المستقبل المجهول ، لباحث عن عمل وهو يخرج من بيته مضطربا ليجوب الشوارع بلا أمل ، فهم من سلبه فرص عمله ، أن يعاني هؤلاء من الجوع والمرض ، ذلك الذي سببوه بأنفسهم للفقراء ، أن يمروا بكل أنواع الحيرة ، والشعور بالحيف والظلم ذلك الذي كرّسوه ، أن يجرّبوا كل ألوان الفقر الذي جاؤوا به ، أن يتجرّعوا الموت غرقا مع كل شهقة موت عاناها لاجئ في بحار الغربة ، هربا من وجوههم القبيحة التي أحالت الوطن إلى جحيم ضاق بهم ،أسأل الله ، أن يجرّبوا الفجيعة بأبنائهم ، ضحايا للإنفجارات ، أو حوادث إنعدام الأمن ، أن يشعروا ويعيشوا كل الخيبات التي مر بها المواطن ، وهو يستنشق الروائح الكريهة بسبب طفح المجاري ، والهواء المسمم بسبب التلوّث والأسلوب المتخلف من إتلاف النفايات ، وهو يفتح صنبور المياه ولا ماء ، أن تتحول كل حفرة ومطب وتلف في الشوارع والطرقات ، إلى رجوم لهم ، فهم شياطين ، أن تتحول الأرض إلى دوّامات من الجحيم ، لكل مَن تاجَرَ بالدين وبقضاياه لأجل الإثراء والتسلط والوجاهة ، لكل مَن (أفتى) بحُرمة مجرد الإعتراض على واقعنا المزري والمُخزي أمام العالم ، لأنهم آثروا أن يكونوا عبيدا ! ، يقول (مظفر النوّاب) :

إلهي ، أنتَ لا بُدّ أن تَغفِرَ (للكُفرِ) إن كان حُرّا أبيّا …

وهيهاتَ أن تَغفِرَ (للمؤمنين) العبيد !.