18 ديسمبر، 2024 6:41 م

دَولة العِراق الحَديثة وعَهد التأسيس الذي كان إعجازاً وحُلماً

دَولة العِراق الحَديثة وعَهد التأسيس الذي كان إعجازاً وحُلماً

كل الدَلائل وقِرائات التأريخ المُتعَلقة بتأسيس الدولة العراقية الحَديثة تشير الى أن العَهد المَلكي الذي عاشَه العِراقيون في النصف الأول مِن القرن العِشرين كان حُلماً جَميلاً وقصيراً ليسَ إلا، سُرعان ما أفاقوا مِنه صباح 14 تموز 1958 على أصوات المَدافع والرَشاشات. حُلم لا ندري إن كان مِن حُسن أو سوء حَضِّنا أن إحتفظَت ذاكرة الأجيال التي عاشته ببَعض صوره وأحداثه وتفاصيله الجَميلة، لتعود وتستذكرها بحَسرة وألم لا يَنفع مَعه ندَم بَعد عُقود الذل والضَيم الذي أصابَها بَعد أن أفاقت مِن هذا الحُلم، لتروي لنا وللأجيال واحدة مِن أغرب القصَص وأكثرها مأساوية عَن مُجتمع توفرت له فرصة تاريخية إستثنائية ليَعيش حُلم النُهوض والتقدم والتمَدّن والتحَضّر وليُحَوله الى حَقيقة، لكنه أبى إلا أن يُضَيّعها والى الأبَد!

مَن هُم أبطال هذا الحُلم؟ وكيف نَجحوا في تحقيقه وضَمان إستِمراريته لفترة تبدوا اليوم قياسية، وفي بيئة لم تعرف الأحلام، وفي مُجتمع ترَبّى على الكوابيس وأثبَت أنه يَرفض أن يَعيش الأحلام حَتى هذه اللحظة، مُجتمَع يَعشق البؤس والجَهل والظلام والمَوت والسَواد واللطم والبُكاء، ويَستغرب النور والجَمال والعِلم والسَلام والحَياة والفرَح!

أبطال هذا الحُلم هُم نُخبة نشَأت ودَرَسَت في الإستانة (إسطنبول) عاصِمة الإمبراطورية التركية والأتراك الذين حَكموا دولنا لخمسة قرون فيما كنا نغط في سُبات عَميق. الأتراك الذين لم يَكونوا سِوى قبائل مُتناثرة توحّدت لتصبح أمة وتؤسِّس دولة وتصنع تأريخ، على العَكس مِن أمة تفرّقت الى شَراذِم مِن طوائف دينية وإثنيات قومية مُتناحرة لتهدُم دولة وتطمس وتشَوّه تأريخ! أبطال هذا الحُلم هُم نخبة مِن الشَباب الذي كان حالِماً بغد أفضل له ولمُجتمعه، هيأت له الأقدار دِراسة وخِبرة عالية ومُساعدة مِن بريطانيا العُظمى التي لم تكن تغيب عَنها الشمس وأعظم إمبراطورية في ذلك الزمان، والتي شائت الظروف أن يَصِل نور شَمسها لأوطاننا وأن تلتقي مَصالحها مَع مَصالح هذه النُخبة في النُهوض بمُجتمعاتِها.

يُسَجّل لأفراد هذه النُخبة أنّهم صَنعوا مُعجزة، ويُحسَب لهُم أنّهم نقلوا مُجتمَعاً كان غارقاً في الظلمات الى النور.. أخذوا بيَده وعَلموه الأتكيت ومَفاهيم المَدنية والحَضارة.. أسّسوا لبُنى تحتية في بَلد أفتقرَت حَتى عاصِمَته ومُدُنه الكبيرة الى مَدرسة حَديثة أو مَشفى مُحترَم أو كهرباء أو شارع مُعَبّد أو مَجرى تصريف أو سَد يَقي مِن الفيضانات.. حاولوا أن يَرتقوا بشَعبه بما يَتفق مَع ما يَدّعيه مِن تأريخ لا تربطه به سوى الكتب.. حاولوا ونجَحوا الى حين وكادوا أن يَمضوا بنجاحِهم لكنهُم في النهاية فشِلوا، فمَن شَب على شيء شاب عَليه والعادة التي في البَدَن لا يُغيّرها سوى الكفن، فهذا المُجتمع أبى إلا أن يَعود الى سابق عَهدِه، لذا إستجاب عَوامه وغوغائه صَباح14 تموز 1958 سَريعاً لصِياح قاسم ونعيق عارف وتناغموا مَعه سَريعاً، لأن فيه نبرة فوقية يُحِبّونها تدَبّغت بها جُلودهم ولغة رَكيكة يَفهَمونها وتتواصل مَع عُقولهم، أيقظتهُم مِن الحُلم وأسقطتهم على الأرض وأعادتهُم الى واقِعهم البدائي الذي إعتادوا وألِفوا.

هي نُخبة لولاها لما كان هُنالك اليوم شَيء إسمه دَولة عِراقية أصلاً. نُخبة كان إلتفافها حَول مُؤسِّس الدولة العِراقية المَلك الراحِل فيصل الأول وهُبوطها مَعه الى العِراق مِن الحُجاز والإستانة والشام أشبه بهُبوط الكائِنات الفضائية التي يُحكى بأنها تزورالأرض بَين حين وآخر لتطمَأن على سُكانها، والتي يُعتقد حَسب بَعض النظريات أنها أصل البَشَرية وكانت وراء تمَدّنها وتطورها، ويَبدوا بأن الله قد خَص العراق بكائِنات مِنها له وَحده، زارَته قبل مِئة عام لتطمأن على حاله وحال شَعبه ولتنهَض به الى مَصاف الدول المُتحَضّرة المُتقدّمة، لكن شَعبَه وكعادَتِه لم يُقدّر هذه النِعمة الفضيلة فرَفسَها، ورَدّ لهذه الكائِنات فضلها نُكراناً وجُحوداً وقتلاً وسَحلاً وتمثيلاً، وسَلم أمرَه الى شَراذِم تقاذفته بأهوائها المَريضة، فمَرّة عَساكِر ومَرّة شَقاوات ومَرّة رَوزخونية، عادَت به الى الظلمات التي كان غارقاً فيها والى الجَهل والتخلف الذي كان فيه قبل أن تنتشِله مِنها الكائِنات الفضائية، إذ يَبدوا أن هذه الطبيعة والأجواء هي الأقرب لتركيبَته المُجتمَعية والدينية، فهاهو يَعيش اليَوم مُرتاحاً كشعب مِن القرون الوسطى، وكل الأدلة العَقلية والمَنطقية تقول بأنه لن تقوم له قائمة لـ 50 الى 100 سنة قادِمة، لذا فالحَديث عَن تغيير ونهوض خلال المُستقبل القريب هو حَديث ساذج، ومَن يَتحَدّث به إما واهم ويَخدَع نفسَه، أو يُريد أن يَخدَع الناس، فهو أمر يَبدوا أقرَب للمُستحيل في ظل الواقع الإجتماعي البدائي البائِس والسياسي الفاشِل الفاسِد والثقافي السَلبي الراكِد،الذي لاتمتلك عَناصِره المُتهالكة آنفة الذِكر أي بَذرة للتغيير والنُهوض ويَحتاج الى ماهو أشبَه بالمُعجزة في زمَن لم تعُد فيه مُعجزات.

هذا ما جَناه العِراقيون عَلى أنفسِهم،وما جَنى عَليهم أحَد. فالجود مِن المَوجود، والمَوجود جاد بقاسِم وصَدام والمالكي. لذا عَليهم أن يَرضوا ويَقنعوا بواقِعهم البائِس الفاشِل الذي صَنعوه لأنفسِهم بأنفسِهم وبأيديهم، وأن لا يُمَنّوا أنفسَهم ويَحلموا كثيراً بأن يَنتشِلهم مِنه أحَد، لأن الحَضارات الفضائية لا تبعَث رُسُلها كل يوم، ولا تهبط سُفنها مِن السَماء مَرّتين.

[email protected]