23 ديسمبر، 2024 11:08 م

دَعْوَةٌ إِلى الدُّعَاةِ… تَذْكِيْرٌ بِمَنْهَجِ الدَّعوَةِ وَ مَسْؤوْلِيَّةِ الدُّعَاة/1

دَعْوَةٌ إِلى الدُّعَاةِ… تَذْكِيْرٌ بِمَنْهَجِ الدَّعوَةِ وَ مَسْؤوْلِيَّةِ الدُّعَاة/1

تَنويهٌ لابُدَّ مِنْه:
(الى كلِّ الدُّعاةِ المُخلصينَ، الّذينَ لَمْ تُغرِهِمّْ الدُّنيا، إِنّْ أَقبَلَتْ عَليّهم. و لَمّْ يَتخلَّوا عن مَبادئِهم، إِنّْ أَدبَرَتْ عَنْهُم. هؤلاءِ الدُّعاةِ المبدَئيّين، الّذين عِندَهُمْ الدُّنيا، فُسَحةٌ منَ العُمْر، يَستثمِرونَ فيها كُلَّ الفُرَصِ المشروعَةِ، لتَقديْمِ عَطَاءِ الخَيّْرِ للآخرين. الى هذا النَّمطِ الرِّساليّْ أُوجِّهُ خِطابي هَذا. و اللهُ تَعالى وليُّ التَّوفيق.).

إِنَّ دراسةَ تأْسيْسِ حزّْبِ الدَّعوةِ الإِسلاميّةِ، لمْ يكُنْ تلبيةً لرغبةٍ شخصيَّةٍ، قامَتْ بها مجموعةٌ من الأَشخاصِ، بناءً على ظروفٍ سياسيَّةٍ آنيَّةٍ، لمرحلةٍ تاريخيَّةٍ معينة. فظروفُ تأْسيْسِ حزّْبِ الدَّعوةِ الإِسلاميّةِ، يَختلفُ تماماً، عن ظروفِ تأْسيْسِ الكثيرِ، منَ الأَحزاب السياسيَّةِ، في العراقِ خُصوصاً، و في المنطقة عُموماً.

نُبْذَةٌ تاريْخيَّةٌ مُوجَزَةٌ:

عنّْدَ قيامِ بريطانيا بإِنزالِ قوّاتها، على سواحلِ مدينةِ (الفَاو) في 6/11/ 1914، أَصدرَتْ المرجعيَّةُ الدينيَّةُ في النَّجفِ الأَشرف، فتوىً أَعلنت فيها الجهادَ، ضدَّ المحتلينَ الانكليز. و قاتلَ المجاهدونَ جنباً الى جنبٍ، مع القوّاتِ العُثمانيَّةِ، و كانَ عددُهم نحوَ ثلاثةَ عشرَ أَلفِ مُجاهدٍ، لكنْ انهيارَ القوّاتِ العُثمانيَّةِ، أَدّى الى تَقهّقُرِ قُوَّاتِ

المجاهدين. بعد أَنّْ أَلحقوا خسائرَ فادحهٍ، في صُفوفِ القوّاتِ البريطانيّة.

(…. عندما احتلَّتْ القواتُ البريطانيةُ بغدادَ في 11 آذار 1917، تأَسَّستْ في تشرينَ الاوّل من عام 1917 (جمعيةُ النَّهضةِ الإِسلاميَّة)، و هي أوَّلُ تنظيمٍ سياسيّ إِسلاميّ، تأَسسَ في العراق إبّانَ الحرب. ثم أَعقبَ تأسيسُ هذه الجمعيَّةِ، العديدَ من التنظيماتِ الإِسلاميَّةِ، في النَّجفِ الأَشرفِ، و كربلاءَ المقدسةِ و بغداد. و كلُّ هذه التنّظيمَاتِ عَمِلَتْ تحتَ أَنظارِ المرجعيّاتِ الدّينيّة. و هيأتْ هذه التنظيماتُ، انبثاقَ ثورةِ 30 حزيران 1920، الّتي استمرّت لغايةِ مُنتصفِ كانونَ الثاني من عامِ 1921. هذه الثّورةُ الشَّعبيةُ أَعاقَتْ الانكليزَ، من تطبيقِ كاملِ مُخطَّطاتِهم في العراق. كما أَنَّها أَذْكَتْ المشاعَر الوطنيَّةِ في نفوسِ العراقييّن.

بدَءَ الحُكّْمِ الملَكيّ الذي فرضَهُ الانكليزُ على العراقيينَ، عندما تمَّ تنصيبُ الأَميرَ الحجازي (فيّْصل بن الحسين)، ملكاً على العراق في 23 آب 1921. و أَرادتْ الادارةُ البريطانيَّةُ، تأْسيسَ مجلسٍ تأسيسيّ، لغرضِ التَّصديقِ على المعاهداتِ البريطانيَّةِ معَ العِراق، لكيّ تأخذَ هذه المعاهداتُ الصفَةَ الشرعيّةَ من المجلِسِ التَّأسيسيّ. لكنَّ المرجعيَّةَ الدينيَّةَ، وقَفَتْ موقِفاً حَازماً و حَاسماً، و أَفتَتْ بحُرمَةِ المشارَكةِ، في الانتخاباتِ الخاصّةِ بالمَجلس التَّأسيسيّ، الأَمرُ الّذي أَدّى الى عدمِ انتخابِ المَجلِس.

فاستَقالتْ وزارةُ (عبد الرحمن النقيب) في 26/11/1923، و تشكَّلت على إِثرها وزارةٌ يرأسُها (عبد المحسن السعدون). و لغرض المُضي قُدُماً في إِجراءِ انتخاباتِ المَجلسِ التأسيسي،اصطدَمَتْ وزارةُ (السعدون)، بفتَاوَى العلماءِ الشيعَة. فقرَّر (السعدون)، ضَربَ

التَّحرُكِ الإِسلاميّ الشِيعيّ. فشَنَّ حَملةً للفترةِ من 25-29/6/1923 لتسفيرِ عُلماءِ الدّينِ الشِيْعَة. فتمَّ ابعادُ العراقيينَ منهم الى الحِجَاز. و أُبعِدَ (34) عالماً الى إيرانَ، و وضِعَ (50) عالماً تحتَ مراقبةِ الشُرطة.

لمّْ يجِدّْ علماءُ الدّينِ الشّيعةِ، من الاستمرارِ في ابتعادهِم عن العراق، إِلاّ مزيداً من الضَّررِ، على مُستقبلِ الحَوزةِ العلميَّةِ، في النَّجَفِ الأَشرف. و كانَ الوضْعُ العامُّ في إِيرانَ، يتجهُ نحوَ تَرسيخِ التَّجربةِ العِلمانيَّةِ التُركيَّة.

عَادَ العُلماءُ المُبعدونَ الى العراقِ، في 23 نيسان 1924، بعدَ أَنّْ وافَقوا على شُروطِ الملكِ فيّْصلِ الأَوّلِ، الّذي أَخذَ من كلِّ واحدٍ مِنهُم، تَعَهُداً خطّياً بعدَمِ التَّدَخُلِ، في الشَأْنِ السِياسيّ العراقي.

و بذلكَ توقَّفَ العَمَلُ السِياسيّ الإِسلاميّ الشِيعيّ عن النَّشاطِ، حتّى بدايَةِ الخَمسينيَّاتِ من القَرنِ العِشرين…. .)(انتهى)(المصادر/ حزب الدعوة الاسلامية حقائق و وثائق/ السيد صلاح الخرسان. تاريخ العراق السياسي الحديث ج3، السيد عبد الرزاق الحسني/ بتصرُّفٍ و تَلخيصٍ من قِبَلِ كاتِبِ المقالِ، لمُقتَضياتِ الاختِصار).

في الفترةِ الّتي تَوقَفَ فيها العمَلُ السِياسيّ الإِسلاميّ الشِيعيّ، و الّذي استمرَّ زهاءَ ثلاثَةِ عُقودٍ من الزَّمنِ، نَشِطَتْ التَيَّاراتِ السِياسيَّةِ و الفِكريَّةِ الأُخرى، لتَكتَسِحَ ساحَةَ العَمِلِ السِياسِيَّةِ و الثَّقافيَّةِ العراقيَّة.

(ففي العِراقِ كانَ الميدانُ مَفتوحاً أَمامَ الشُيوعيينَ، بيّنما كانَ على الشُيوعيينَ في بلدانٍ عربيَّةٍ أُخرى، أَنّْ يتَنافَسوا معَ خُصومٍ أَشدَّاءَ، كالبعثِ في سُوريا، و الحزبِ القَوّميّ السوريّ، و الكتائبِ في لُبنانَ، و حزبِ الوَفدِ و الاخوانِ المُسلمينَ في مِصرَ… و جاءَ البَعثيونَ العراقيونَ مُتأَخرينَ، و لمّْ يَصّْبحْ لهُم شأْنٌ، إِلاّ بعدَ العامِ

1958.)(انتهى).(العمل الإسلامي في العراق بين المرجعيّة و الحزبيّة/ عادل رؤوف/ ص 21-22).

في فترةِ حُكّْمِ الملكِ فيّْصل الأَوَّلَ، و ما بعدَها، نَشِطَتْ الحركاتُ السّياسيَّةُ في العراقِ (ما عدا الأَحزاب الإِسلاميّة الشِيعيّة)، و بدَأَتْ مرحلةُ تأْسيْسِ الأَحزابِ العراقيَّة. لكِنّْ من المُؤسفِ أَنَّ هذهِ الأَحزابُ، لمّْ تُحققْ للشَّعبِ العراقيّ، مَكّسَباً مَركزيّاً وطنيّاً، ليكونَ ذلك، مَعلَماً من مَعالمِ النَّشاطِ الحزبيّ النَّاضِجِ، حتّى تُسَجِلَهُ الذَّاكرةُ السّياسيَّةُ الوطنيَّةُ العراقيَّةُ، باستثناءِ عمَلِ بعضِ الأَحزابِ الوطنيَّةِ القليلةِ جدّاً.

يَذكرُ المرحومُ السَيّدِ عبد الرَّزاقِ الحَسَنيّ، في المجلدِ الثالثِ من كتابهِ (تاريخ العراق السياسي الحديث) ص246، أَسبابَ قِصَرِ عُمْرِ الأَحزابِ السِياسيَّةِ في العراق. و الملاحظةُ المُسجَلةُ بهذا الخُصوصِ، هي سُرعَةُ ظهورِ الكثيرِ من الأَحزابِ السياسيَّةِ للوجودِ، لكنَّها سُرعانَ ما تَختَفي. و إِنّي سأَختَصِرُ ما سجلهُ المرحومُ السَيّدِ الحَسَنيّ، من ملاحظاتٍ، حولَ هذهِ الظَّاهرةِ، بالفقراتِ التَّالية (بشَيءٍ من الاختصار):

1. الافتقارُ الى روحِ التَّنظيمِ، و عدَمِ قناعَةِ زعمَاءِ الأَحزابِ بالتَّنظيمِ الشَعبيّ، لتَوجيهِ السِياسَةِ العامَّة.

2. وجودُ عددٍ كبيرٍ من العاملينَ، في مجالِ السياسَةِ، اتخذوا من هذهِ الحِرفَةِ، وسيلَةً للعَيش. و هم سُرعانَ ما يَنقلبونَ على أَحزابهم، (إِذا ما لاحَ لهُمْ في حزبٍ آخرَ، نَفعٌ أَعَمٌّ أَو مَغنَمٌ أَوّسَع).

3. ضُعفُ ثِقَةِ الشَعبِ، في التَّنظيماتِ الحزبيَّة. و كثيراً ما تتوقَفُ الأَحزابُ السياسيَّةُ، عن عمَلِها مَتى ما حقَّقتْ مكاسبَها.

4. تَدَخُلُ الإِرادَةِ الأَجنبيَّةِ، و فرضِ رؤيتها على أَغلبِ الأَحزابِ، الأَمرُ الّذي يَفقِدُها استقلاليَّةَ قَراراتها، و يُوْدي بها الى الفَشل. (انتهى التَّلخيْصُ من المصدر).

و بعدَ ثلاثَةِ عقودٍ منَ الزَمَنِ مَضَتْ، على تجاربِ تأْسيْسِ، العَديدِ من الأَحزابِ السياسيَّةِ في العراقِ، و الّتي جميعُها كانتْ أَحزاباً ذاتِ تَطلُّعاتٍ علمانيَّةٍ و قوميَّةٍ، حاوَلَتْ استنسَاخَ نماذجَ أَجنبيَّةٍ، في التَّوجُهاتِ الفكريَّةِ لها، و تبنيّْها لشعاراتٍ واعدَةٍ، لبناءِ هيكليَّةٍ رصينَةٍ، للعَمَلِ السِياسيّ في العراقِ، تُلَبّْي تَطلعاتِ الشَّعبِ العراقيّ، في نَيْلِ حريَّتهِ و اسستقلالِهِ، من التَّبعيَّةِ البريطَانيَّةِ، و تحقيْقُ التَّقَدُمِ و الازدِهارِ للعراقِ و شَعبه. لكنَّ الاخفاقاتِ و الفشَلَ، كانَا من نصيْبِ تلكَ الأَحزابِ، للأَسبابِ الواردَةِ الذِّكرِ آنفاً.

من هُنا برزتْ الحاجَةُ، لتأْسيسِ حزبٍ إِسلاميّ الهويَّةِ، رساليّ الأَهدَاف. تَنطلِقُ جميعُ مُتبنّياتَهُ الفكريَّةِ، و مواقِفَهُ السياسيَّةِ، من الأَصالَةِ العَقائديَّةِ، و الفكريَّةِ للإِسلام. ليقومَ هذا الحزبُ، بمُهمَّةِ إِيقاظِ الوَعي الشَعبيّ، الّذي يُشكِّلُ الرَّصيدَ الحرَكيّ، لتوجيهِ الجَماهيرِ نَحوَ الإِيمانِ، بالدِّفاعِ عن حُقوقِها المَشروعَة. فالجماهيرُ المُنظَّمَةُ، تُعتَبَرُ عنصراً ضَاغِطاً، على السُّلطاتِ الحاكمةِ لتَغييرِ مَواقِفِها، لصالِحِ الجَماهيرِ، إِنّْ لَمّْ يكُنّْ كُلاً فجُزءاً.

فانْبرى لهذهِ المُهمَّةِ كَوكبَةٌ حَركيَّةٌ، من الطَّبقَةِ المُثقَّفَةِ الوَّطنيَّةِ الواعيَةِ، لتأْسيسِ حِزّبٍ جَماهيريّ، يُؤمنُ بأَهميَّةِ العَملِ الحزبيّ الهادِفِ، ليَقومَ بدوّْرهِ في تَوجيْهِ الرأْي العَامِّ الشَّعبي. فالحزبُ المُعَبِّرُ، عن طموحاتِ الجماهيرِ، يُعتبرُ الخطَّ الأَوَّلَ في المواجَهَةِ و الدِّفاعِ، عن حُقوقِ الشَّعب. كما أَنَّ الحِزّبَ الجماهيريّ، يَستمِدُّ قوَّةَ وجودِهِ، من التِّفافِ الجمَاهيرِ حَوّلَه.

في هَذا المقالِ، أَردّْتُ أَنّْ أُلفِتَ عِنايَةَ القَارئ الكَريْمِ، الى أَهميَّةِ وجودِ أَنشِطَةٍ حزبيَّةٍ وطنيَّةٍ واعيَةٍ في المجتمَعِ، لتَقومَ بالدِّفاعِ عن حُقوقِ أَبنَائهِ، بكُلِّ مُكونَّاتِهمْ و مُختَلَفِ أَطيافِهِم. فبدونِ وجُودِ تَنظيمَاتٍ سياسيَّةٍ، تَمتَازُ بالعُمّْقِ الفِكريّ، و الثَراءِ الثَقافيّ، و الرؤيَةِ الوَطنيَّةِ الصَحيحَةِ الشاملَة. سَيظَّلُ الشَعبُ العراقيُّ كلَّهُ هَدَفاً، تتقاذَفُهُ الأَهواءُ و الأَيادي غيرِ الأَمينَةِ، التي صَنَعَتها الظُروفُ الشَّاذَةِ، التي مَرَّ بها العراقُ بعدَ عامِ 2003.

و قَدّْ أَثبَتَتّْ التَجارِبُ أَنَّ الطَّارئينَ على العَمِلِ السِياسيّ في العراقِ، قَدّْ أَلحَقوا دَمَاراً شَامِلاً، على مُستوى البُنى الاقتصَاديَةِ، و الفَسَادِ الإِداريّ، و تَعميْقِ الهُوَّةِ، بيّْنَ أَبناءِ الشَّعبِ و الطبَقَةِ الحَاكِمَةِ. و هذا أَمْرٌ يَتنَافَى أَصلاً، مع جَوّهرِ النِّظامِ الدِّيمقراطيّ، الذي أَقَرَّهُ الدِّستورِ العراقيّ الجَديْد. الأَمْرُ الذي رَسَّخَ القَناعَاتِ، لَدَى عَامَّةِ النَّاسِ، أَنّْ لا خَلاصَ مِمَّا هُمّْ فيهِ، مِن بُؤْسٍ و شَقَاءٍ، و هُمّْ يَملكونَ بَلَداً، مِن أَغنَى بُلدَانِ العَالَم.

في الحَلَقَةِ الثَّانيَةِ من هذا المقَالِ، سَيكونُ مَوضوعُها إِنّْ شاءَ اللهُ تعالى، بخُصُوصِ إجْراءِ مُقارنَةٍ تاريخيَّةٍ، للعملِ السِياسيّ الإِسلاميّ في العراقِ، بيّنَ مَراحِلِ الاحتلالِ البريطَانيّ، و دكتَاتوريّةِ حزبِ البَعثِ الصَدّامِيّ، و الاحتِلالِ الأَمريكيّ للعراق. و مُناقَشَةُ الظُّروفِ الموضوعيَّةِ، الّتي أَفرَزتْ ظهورَ حزّبِ الدَّعوةِ الإِسلاميَّة، كمشروعٍ إِصلاحيّ شاملِ الأَهادفِ، تَوجَّهتْ كلُّ أَنشطتِهِ، لإِصلاحِ الفردِ و المُجتمعِ. للوصولِ الى تَرسيخِ قِيَمِ الإِنسانِ الصَّالحِ، و المواطَنَةِ الصالحةِ، في نفوسِ الجماهيرِ العراقيّة. و منهُ تَعالى التَّسديدُ و الرَّشادّ.