23 ديسمبر، 2024 10:50 ص

ديوان (مدونةُ مفلس) للشاعر قاسم محمد مجيد الساعدي ترجمة شعرية لتواريخ المأساة العراقية

ديوان (مدونةُ مفلس) للشاعر قاسم محمد مجيد الساعدي ترجمة شعرية لتواريخ المأساة العراقية

فيضٌ من المراثي الهادرة بالبوح النبيل من أقاصي الجرح النازف بالحنين لأزمنةٍ آفلة وأمكنة خاوية وذكريات تلوح من أفق النسيان … هذا البوحُ المضرّجُ بالأسى الهادر بالأنين يؤرّخ لجغرافيا الألم ويشرّح تفاصيل الوجع العراقي الذي هو نموذجٌ متفرّدٌ يختزل كلَّ أبجديات الحزن البشري ، فقاسم الساعدي كان في ديوانه يقدّم للإنسانية جمعاء ترجمة شعرية لتاريخ المأساة التي تمور في غمارها روحه الشاعرة المرهفة ويجسّد من خلال قصائد ديوانه تراجيديا الإنسان العراقي الذي تركتْ سنو الحروب العجاف في روحه ندباً تنزُّ بالأسى فكما كلّ المبدعين في العراق لا بدّ من تجلي هذا الثالوث التراجيدي المهيمن على الذاكرة الجمعية العراقية ألا وهو (الحرب والفقدان والمنفى) فهو كان شاهداً على فداحة الكارثة التي ألمَّتْ بوطنه ووضع بين يدي الإنسانية وثائق شعرية تفضح حقيقة الواقع الزائف وترثي أزمنة كان النهر فيها رفيقه الرؤوم والمطر كتابه الذي يتعلّمُ منه أبجدية الحب ولا يذهب بعيداً دون أن تكون رفيقته سيدة الشجر النخلة الباسقة التي تعني لكل عراقي هوية وجودية وسيرة ذاتية لكلّ تاريخه الضاربة جذوره في أعماق التاريخ ، لقد قدّم لنا الشاعرُ برؤية عميقة مدوّناتٍ إبداعية بلغة شعرية تتناغم مع تفاصيل اللحظة الشعورية ومتطابقة مع مقتضيات الومضة العرفانية التي تحملها قصائد الديوان والتي كانت جملها متوهجة المعاني غنية بالدلالات التي تأخذ القارئ لفضاءات متخيلة يبحر نحو أقاصيها بتأمل وخشوع لتكون اللغة الشعرية لدى قاسم الساعدي أداة حاثّة لمعانٍ خبيئة تتراءى من وراء المعاني الظاهرة ليتشكّل من خلال نسيجه الشعري وجوداً موازيا يمنحنا دفقاً روحانياً وتفاعلاً عرفانياً يندمج بمجريات النص الشعري الذي رسمت أبعاده الشكلية بوعي إبداعي ورهافة شعرية ليكون لوحة نابضة بدفق المعاني وليس مجرد وعاء ينقل لنا مضامين محددّة بل كان أداةً فاعلة لتصميم خريطة الدلالات ونسيج المعاني وفق نظام منسوج برؤية عميقة للواقع لذا كانت بعض القصائد في ديوان الشاعر قاسم الساعدي (مدونة مفلس) رسائل رثائية للأصدقاء من خلالها تبرز الرؤى الوجودية والأفكار الفلسفية التي يحملها الشاعر تجاه وجوده الحياتي ومرايا عاكسة لمواقفه الفكرية إزاء قضايا وطنه وشعبه فيكون الكل متجسداً في الجزء من خلال اشتراكنا الوجودي بنفس تفاصيل المأساة لهذا خرج الديوان من كونه تجربة ذاتية وجدانية كما كان الشعر في أزمنة سالفة ليكون وثيقة إنسانية تعبر عن آلام الفرد وأحزان المجتمع ولا يكون الشعر في ديوان قاسم الساعدي مجرد موثّق لأحداث ومواقف بل نجد حلولاً تتجلى في بعض القصائد تكون بمثابة طوق النجاة التي تخرج الإنسان من أعماق التيه وظلامية الواقع وقسوة الماضي ويتجسد في ثنايا الديوان عالماً أجمل بواقع أفضل مما هو عليه واقعنا الحالي وما فيه من ألم ومضض وخيبات لأن الشاعر وإن كان محبطاً لكنّه لم يفقد الأمل من خلال بعض الرموز التي لها مرجعيات دينية أو شعبية أو أسطورية التي تمنحنا فيضاً نقياً من الأمل بقادم أفضل فطوفان نوح (ع) التي تكون آخر جملة في آخر قصيدة من قصائد الديوان ما هي إلا إشارة عميقة لتغير الحال نحو الأفضل وإن بدا في عتمة الواقع مستحيلاً :
حينَ اخترعنا
تقاويمَ وزخارفَ وأوصافاً وفصول
وسماءً لم تُطرق بَعد
ونشرنا انتشاءَنا غيوماً متباعدةً كالأحبة
والقينا بأرقامِنا الطينيةِ
على تُخُومِ جهلِنا
إنها تُطالعُ وجهاً
وترسمُ بريشةِ الصبرِ
نوحاً قادماً ومعهُ طُوفانُه
هنا تتجلى للقارئ إرادة الشاعر الذي يمثّل أحق تمثيل ضمير أمته الجمعي والذي كان قاسم الساعدي نموذجاً له من خلال تجسيد شخصية العراقي التي مهما أثقلت كاهلها نيران الفجائع وكتمت أحلامها أرمدة اليأس لا بد أن ينهض من جديد كعنقاء من تحت ركام الحرائق لتنثر بأجنحتها غيوماً مشبعة بأمطار النور .لقد كانت تجربة الساعدي في ديوانه (مدونة مفلس ) تجربة تستحق الدراسة النقدية الواعية لمكامن الإبداع الشعري والمستشعرة لطاقة اللغة الشعرية الهادرة بالدلالات ذات المغزى الوجودي العميق .
قاسم محمد مجيد الديوان عدد الصفحات 83 عدد القصائد 31 مطبعة حسين في المتنبي.