19 ديسمبر، 2024 1:43 ص

دين الحب

دين الحب

أولُ الدين معرفته ، وكمالُ معرفته التصديق به ، وكمالُ التصديق به توحيدُه ، وكمالُ توحيده الإخلاصُ له ، وكمالُ الإخلاص له نفيُ الصفات عنه ، لشهادة كلِّ صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ) .. هكذا قال عليٌّ عليه السلام . والأوّل هنا اما يكون الابتداء او القمة ، او كليهما ، فبمعرفته يبتدأ الدين الواقعي ، او انّ تمام الدين بمعرفته جلّ شأنه ، او انّ للمعرفة مستويات ومراحل ، فيكون الابتداء بها والانتهاء اليها ، وهذا ما يشير اليه قوله تعالى ( وما خلقتُ الجنَّ والانسَ إِلَّا ليعبدون ) ، حيث جاء في الأثر أنّ ( ليعبدون ) بمعنى ( ليعرفون ) ، ومنه قوله في الحديث القدسي المشهور ( كنتُ كنزاً مخفيّا فأحببتُ أنْ أُعرف فخلقتُ الخلقَ لكي أُعرف .
والمعرفة أمّا إشراقية او مشّائية . وفي الاولى يشرق الله في النفوس الزاكية والقلوب المنيرة ( وأشرقت الارضُ بنورِ ربِّها ووضعَ الكتاب ) ، بعد مجاهدات ورياضات تهذيبية ، ترفع الحواجز وتذيب الغرور ، وكثافة في الفكرة تجمع أشعة النور ، وعندها ( اللهُ وليُّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور ) .

أمّا المعرفة المشّائية فسبيلها العقل والاقتداء بأهل العلم والمعرفة ، والسير اهتداءً بالموروث المعرفي الإنساني ، حتى يرى الانسانُ ربَّه في آياته الأنفسية والافاقية ( سنريهم آيَاتِنَا في الافاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّنَ لهم أَنَّه الحقُّ) .

والقرب من الله تعالى في كلّ عالمٍ معرفيٍّ يختلف ، من حيث الكلّ ومن حيث الجزء ، فالإشراق نورٌ ، والنور أسرع وابهج ، أمّا السير فهو أبطأ بحسب الحال ، هذا من جهة الكلّ ، فيما من جهة الجزء فالوصول في كلا الحالين نسبيًّ يعتمد على قدر المعرفة ذاتها .

انّ المعارف الإشراقية كاشفة لغيرها ، في الوقت الذي تكون فيه المعرفة المشّائية مكشوفة بغيرها في الغالب . من هنا كان الحقّ على أهل الحقّ تعزيز المعرفة الإشراقية في المجتمع ، لانها السبيل الأوفى لتحقيق غاية الوجود والخلق ، كما انها العلاج الاتمّ لمشاكل البشرية جميعا .

( ولا تَدْعُ مع اللهِ إلهاً آخرَ لا إلهَ إلاّ هوَ كلُّ شيءٍ هالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ لَهُ الحكمُ وإليه تُرجَعون ) ، حين يدرك الانسان هذه الحقيقة سوف يتيقّن إنّه عدمٌ ككلّ ما يراه ، وأنّ الوجود الحقيقي واحد ، وليس الانسان وكلّ موجود يعلم بوجوده من عالم المادة إِلَّا ظلٌّ قائمٌ بذلك الوجود الحقيقي لا بنفسه ( ربِّ السمواتِ و الأرضِ و ما بينهما إنْ كُنْتُم موقِنين * لا إله إلاّ هُو يُحيي و يُميتُ ربُكُمْ و ربُ آبائِكُمُ الأوّلين ) .

التدرج البشري من الوحشية الى الانسانية كان بفضل سلسلة النبّوات السماوية وتهذيبها ، للطف الله ببني الانسان ، وهذا ما نراه واضحا من وجود الكتب المقدسة وتعاليمها ، وكذلك من المكتشفات الاثرية التعليمية والتوجيهية ، التي غالبا ما تبدأ بعبارة ( قال حكيم … ) ، ويقينا انّ ذلك الحكيم لم يكن بدعاً من البشر ، إِلَّا بفضل توجيه خارجي لطيف ، ومن هناك نعلم انّ ذلك الحكيم كان نبيًّا ما . ونجد ذلك مثلا في كتيب ( الإرشادات الزراعية ) السومري ، او في رحلة بحث ( گلگامش ) الملك الخالد عن ( اتوبانشتم ) ، ليسأله عن سرّ الخلود ، ولم يكن اتوبانشتم سوى نوح النبيّ .

وهذا المعنى التربويّ والتعليمي التطوريّ نقلته النصوص المقدسة ايضا ، فقد ورد في قصة داوود عليه السلام ( وعلّمناه صَنْعَةَ لَبوسٍ لكم لتُحْصِنَكمْ من بأسِكمْ فهلْ أَنْتُمْ شاكرون ) ، ( وكذلكَ أوحينا إليكَ رُوحاً من أمرِنا ما كُنتَ تَدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ وَلَكِنْ جعلناه نوراً نهدي به مَنْ نشاءُ مِنْ عبادِنا ) .

وعند السير في احدى الطريقين يجد الانسان نفسه اقرب الى مولاه ، لكنّ الفرق فيما يمكن تسميته ( اللذّة )  ، حيث هي في عالم الإشراق أعمق وأكثر تشبّعا . غير انّ في طريق الإشراق مشكلة تحتاج الى التفات ، تتلخص في لحظويّة الفكرة ، حيث يمكن ان تضيع كثافتها وتتشتت عند غياب الانسان بعيدا في انانيّته ، انها معادلة تحتاج الى توازن ، وتزول المشكلة تدريجيا عند بلوغ الاستسلام التام للمولى .

انّ لحظات القرب من الله ليست مكانية او زمانية ، فلا ماديّة في هذا العالم القربي الفريد ، لكنّها معرفية ، بمعنى انّ كل ّ لحظة اقتراب هي عالمٌ معرفيٌّ جديد ، يفتح أبواباً تليه .

ليست العلاقة بالله سوى المعرفة ، وليست المعرفة إِلَّا النور ( اللهُ نورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نورهِ كمشكاةٍ فيها مِصباحٌ المِصباحُ في زُجاجةٍ الزُجاجةُ كأنّها كَوكبٌ دُرّيٌّ يُوقَدُ مِن شجرةٍ مُباركةٍ زَيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ يَكادُ زَيتُها يُضِيءُ ولو لَمْ تمسسْهُ نارٌ نورٌ على نورٍ يهدي اللهُ لنورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) ، لذلك سيجد الانسانُ حينئذ الكونَ منيرا مكشوفا ، وسيرى حتى الروابط الدقيقة بين الأشياء ( قَدْ جاءكم من اللَّهِ نورٌ وكتابٌ مُبينٌ * يهدي بهِ اللهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السلامِ ويُخْرجُهم مِن الظلماتِ إلى النورِ بإذْنِهِ ويَهديهم إلى صِرَاطٍ مُستقيم ) ، ليصل في النهاية الى حقيقة المعرفة وبساطتها الاجمل .

انّ كلّ ذلك مشروط بايجاد مفتاح البوابة الاولى ، ألا وهي النفس ، اي معرفة الانسان لذاته ، ففيه انطوى العالم الاكبرُ . ومعرفة النفس تتم من خلال القراءة الصحيحة للانسانية وقيمها ، وعندها سيعرف الانسان كرامته التي تميّزه عن باقي المخلوقات ( وَلَقَدْ كَرّمنا بَنِي ءادمَ وحملناهم في البَرِّ والبَحْرِ ورَزقناهم مِن الطَّيِّبَات وفَضّلناهم على كثيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلا ) ، ويدرك وظيفته كخليفة لله في الارض ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكةِ إنّي جاعلٌ في الأَرْضِ خليفةً )  ، فيعود الى رشده ، وينضج سريعا ، باحثا عن الكمال ، ومستعيناً بآليّات التهذيب والرقي .

انّ الإدراك الأهم الذي يجب ان يصله الانسان هو العَدَميّة ، وذلك أنّ الله هو كلّ الوجود ، وبالتالي فالإنسان نسبة وافتقاراً ليس سوى العَدَم المحضّ الذي يقوم بالفيض الربّاني ، ويُوجد بسيولة النور . ومن هناك عليه الالتفات الى أمرين مهمّين : الاول : هو أَنَّه بمحضر الوجود المطلق دائما ، ذلك الوجود الكريم الحقيقي ، لذلك لا يجوز عندئذ اتيان المنكر وإساءة الأدب . والثاني : هو أَنَّه بهِ يقوم ويكون ويتحرّك ويُدرك ، ولا ينفكّ عن هذا الفيض بأيّ مقدار يتصوّره ، لذلك هذا هو الدليل على سعة الرحمة والحبّ من الله لخلقه ، رغم انّ منهم تصدر الاساءات ، كما انّ التبرئ من الله هو الطلب بقطع الفيض .

من النقطتين أعلاه نعرف كيف ( إنَّ الشِرْكَ لظُلْمٌ عظيم ) ، ونفهم اختيارية ( إنَّ الَّذِينَ اشتَرَوا الكُفْرَ بالإيمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شيئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أليم ) ، فهل هناك عَذَابٌ أشدّ من الممكن أنْ نتصوّره اذا ما تبرّأنا من الله .

يقودنا كلّ ذلك الى أنّ الدينَ الحقيقي هو الاستسلام التامّ للخالق ، والخضوع سجوداً بين يديه ، كما خضعت القوانين لمشيئته وحكمته ، فكانت هي الملائكة التي تدير الوجود بأمره . ومن هذا ندرك كيف يمكن للإنسان أنْ يصبح من سنخ الملائكة بسجوده المطلق لله ، وهي مرتبة سقط عنها ابليس بمحضّ ارادته ، لأنّه استشعر أنانيته في لحظة كِبْر .

وبذلك نعرف أيضاً كيف صارت ارواح المعصومين الأربعة عشر مدار الوجود ، وحقيقة الروايات التي تحدّثت عن سموّ أرواحهم وهيمنتها على عالم الوجود ، ولن نجد من صعوبةٍ في قبولها ، لأنّ هذا الامر يكون لكلّ بشر يخضع ساجداً بين يدي الله ، فكيف بمن هم في سجود دائم منذ خُلقوا. وكذلك كانت ارواح الأنبياء السابقين ، والتي تهيمن بمقدار قربها من مولاها الحقّ . لذلك كان لسليمان القدرة على التحكّم بعوالم بُعديّة خارج عالمنا المنظور ، وخضعت له الظواهر الطبيعية ، والكائنات الحية ، وحاز ملكا عظيما بأعيننا ، لكنّه ليس سوى صدى لنور كلمة ( كُنْ ) في حقيقته . ( ولِسُلَيْمانَ الرِيْحَ غُدُوّها شَهْرٌ ورَوَاحُها شَهْرٌ وأسَلْنا له عَيْنَ القِطْرِ وَمِن الجِنِّ مَنْ يَعملُ بين يديهِ بِإِذْنِ ربّهِ ) .

وأرواح الأولياء أيضاً تكون مهيمنة ومشرقة في حدود يأذن بها الله تعالى . يروي السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني قدّس الله سرَّه في كتابه(  الروح المجرّد ) : ( لقد سافر المرحوم آية الحقّ والعرفان آية الله الشيخ محمد جواد الأنصاري الهمداني أواخر عمره الى باكستان بالرغم من توارد الضعف الشديد ووهن القلب ، وكان ذلك أمراً شاقّاً وعسيراً لعدم توفّر وسائل النقل آنذاك كما هي عليه اليوم . ولم يذكر المرحوم علّة سفره لأحد ، فجرى الحديث عن سبب سفره في محافل الأصدقاء ومجالسهم ، فكان كلٌّ يتكلم بحدسه وظنّه ، حتّى سألتُ عن ذلك يوماً من سماحة السيد الحدّاد بعد مرور سنين طويلة وبعد وفاة ذلك المرحوم فقال : إنّ سفر أمثال هؤلاء الأجلاء لا يخلو من احد أمرين : الأول : ان يكون هناك في تلك النواحي والديار عاشق والهٌ ومتحمس ومتحرر ، فيكون علاج داء هجرانه في عالم التوحيد على يدي هذا الرجل ، فيأمره الله تعالى بالذهاب الى ذلك العاشق للأخذ بيده ومساعدته ومعالجة دائه . والثاني : ان يكون الله قد قدّر ، وفق المقدّرات العامة والكلية ، إنزال عذاب على تلك النواحي ، فيأمر الله عبده هذا بالعبور الى جميع تلك النواحي ، ليرفع الله بأثر بركة ورحمة النفس الرحمانية لهذا العبد عذابَه عن أُولَئِك القوم ) .

في الازمان المتأخرة تمّ تحويل الدين الى ما يشبه الرياضيات المجرّدة ، وفي بعض مدارسه الى صورة لا روح فيها . فيما كان الدين في عهود المعصومين ينبض بالحياة ويسير باتجاه الله ، وكان العلم يُلقى من القلب الى القلب مباشرة ، ويجد الانسانُ اللَّهَ في كلّ كلمة جديدة يتعلّمها . لكنّنا ربما نجد للفقهاء عذراً في بعض هذا الحال ، حيث اختلفت النفوس البشرية في العصور المتأخرة تدريجيا ، وتأثرت بالفوضى السياسية والاجتماعية والاحتلال والاستعمار والفئات السلطوية النفعية ، ولم نعد نرى النفوس القوية الربّانيّة بحجم ما كانت ايّام المعصومين . وفي احيان كثيرة كان الفقهاء يخشون اندثار العلم ، لشدّة الضربات التي تتلقّاها معاهده عن قصد وغير قصد . وهم جزاهم الله خيرا أوصلوا لنا العلم والدين بجهد جهيد ، وعلى مستوييه الإشراقي والمشّائي .

لكن ذلك لا يعفي الفقهاء من مسؤولية تعقيد الكثير منهم لدين الله ، حتّى وصل الامر الى وجود العلم وغياب الدين . بل صار حال الأغلب من الناس كمَنْ يركّز في افعال وكلمات الصلاة وينسى الله .

الامر الاخر المثير للتساؤل هو عن واقع وصول العلم المشّائي وتطوّره ، وسعي الفقهاء لإيجاد القواعد البشرية التي تحمله ، فيما ضعفت انسيابية وصول العلم الإشراقي ، وتقاعس الغالب من الفقهاء عن السعي في إيجاد قواعد مناسبة لحمله ، رغم انّ الدين الحقّ يتمثّل فيه .

بل وصل الامر الى عمل بعض الفقهاء على تغييب رجالات هذا العلم النوراني ، وإغلاق حوزاتهم ، كما حدث مع آية الله حسن المسقطي ، حيث تمّت الوشاية به الى المرجع الديني الموجود في زمنه – السيد ابي الحسن الأصفهاني – بدعوى انّ حوزته التوحيدية تخالف سيرة المدارس الدينية المعاصرة له ، فأمره السيد الأصفهاني بالسفر الى مسقط ، لنشر علوم أهل البيت هناك ، وكان رافضا لذلك في نفسه ، لما تحقّق على يديه من نور التوحيد في الحوزات العراقية ، فرجع الى أستاذه العارف الكبير السيد علي القاضي ، فطلب اليه السيد القاضي اجابة الامر والسفر ، فاستجاب ، وكان له نورٌ محمّديّ هناك في مسقط ، لكنّ أمراً مرجعيّاً آخر جاءه يطلب منه السفر الى الهند ، فاستجاب ، ولأنّ آية الله المسقطي كان لا يسكن الفنادق والخانات بل كان يلجأ الى المساجد فقد وُجِدَ ميّتاً في احدى المساجد هناك قدّس الله نفسه الزكية ، وقد خسرته الحوزة العالميّة النجفيّة ، وخسرت ذلك النور التوحيدي الراقي كما يصفه السيد محمد الحسيني .

انّ الإشكال الحقيقي في منهج الغالب من الفقهاء هو فقدانهم روح المعصوم وجهلهم بحقيقة الدور القيادي الذي كان يشغله ، حيث كان بين الناس ، يسافر بهم من الخلق الى الحقّ ، ويسافر بالزاكين منهم في الحقّ . وهذا الدور غاب عن وعي الكثير من فقهاء الإلقاء ، فضلا عن معرفة الكيفية التي يتمّ من خلالها ذلك السفر ، وفاقد الشيء لا يعطيه .

فشل الكثير من فقهاء المسلمين في الإحاطة بالدور المشترك للمعصومين الأربعة عشر ، من حيث هم كلٌّ واحد ، يسير بالناس نحو الله ، ضمن منهج الهي محدد ، وفشلوا كذلك – وربما تبعا للفشل الاول – في تفسير الكثير من تحركات المعصومين الفردية . ومن يفشل في هضم هاتين القضيتين لن يفهم حتما السِفْر الإشراقي لمدرسة المعصومين . ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) . ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) .

لكنّ ذلك لا يعني إطلاقا أنّ الطريق الى الله يتمّ دون الشريعة العملية ، من فرائض وسنن وتهذيب ، فلا يُطاع الله من حيث يُعصى . بل لابدّ من التزام أوامر الله الواردة في كتابه الكريم ، وما جاء على لسان رسوله الأمين ( وما اتاكم الرسولُ فَخُذُوه وما نَهَاكُم عنه فَانتَهُوا ) ، وما وصلنا من تراث المعصومين عليهم السلام ( عن أبي عبد الله عليه السلام قال : لا يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا ويعرفوا إمامهم  ) . فالله تعالى هو الغنيّ عن خلقه ، وبالتالي فكلّ ما ورد في شرعه الكريم إنَّما هو لصالح العبد ، وتهذيباً لنفسه الحيوانية ، وتنميةً لقواه العقلية ، وتزكيةً لقواه القلبية . وكلّ من لا يعمل بما انزل الله فهو عاملٌ بلا دليل ، وسائرٌ بلا مرشد ، ويضلّ حتما . لذلك لابدّ من رائد يسير به ، من كتاب ونصّ ، وترجمان ، وصدق من قال ( انّ مَنْ لا شيخَ له فشيخُه الشيطان ) . ( وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأَنا حجّة اللّه عليهم ) .

انّ الله فيض الرحمة ليس إِلَّا الحبّ ، ولا يمكن لعاقل حصيف أنْ يعقله بغير ذلك ، ولا يصدر عن الكامل نقص ، ولا يُتصوّر خلوّه منه أبدا . من هنا كان كلّ الذي فاض عنه محضّ الحبّ والاحسان ، وعلى ذلك فرسالة القران الكريم هي تلك المحبّة النازلة والسارية والصاعدة . فهي من الله الى الخلق ، وبين الخلق ، ومن الخلق الى الله .

انّ أخذ القران الى الدرس المجرّد من الروح والنبض ، او اخذه الى الفولكلور والاستعراض الصوري ، او استخدامه في خدمة الظَلَمة ، او تبرير جرائم الاٍرهاب الاعرابي الصحراوي ، لا يعدو كلّ ذلك الجهل به ، بل هو دليل على فقدان الصِّلة بمصدره . ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ  ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) .

حتّى أهل القران لا يجوز لهم احتكار الله وادّعاء انهم شعب الله المختار ، فيستلب الله عنهم راية التوحيد والإيمان ، كما جرى لبني اسرائيل . انّ كلّ مخلوق لله يمكنه أنْ يجده ، فالله نور السماوات والأرض . بل انّ الخالق الذي يفيض الحياة على كلّ خلقه – دون تمييز – لهو محبٌّ لهم ، منعمٌ عليهم ، لكنّ الانسان هو مَنْ يختار خلاف لغة الوَصل والحبّ ، فيبقى الله مُحِبّاً ، مفيضاً للوجود ، حتى يجحد الانسانُ وجودَ الخالق ، عندها يفترقان .

لذلك لا يجوز لنا التهكم والاستهزاء بممارسة يريد بها انسانٌ ما وجهَ الله ، ويبحث من خلالها عن رضاه وقربه ، فلعلَّ الله اقرب اليه ساعتئذ منّا . وتتعدد تلك الممارسات بتعدد الأديان والاعتقادات ، وتختلف باختلاف ثقافات الشعوب . من هنا نفهم كيف يتحصّل كلُّ صاحبِ ملَّة على اجابة لدعائه بين يدي الله ، رغم وثنيّة بعضها ، كالهندوسية او غيرها .

انّ الذنب الوحيد الذي يقطع صلة الانسان بالله هو الجحود وانكار وجوده جلّ وعلا ، رغم انّ الله يبقى على الاحسان والفيض حتى في تلك الحال . ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ  وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ) .

وديني انّ مخلوقاً في الكون لا يمكنه إِلَّا الشعور بالله في كلّ كيانه ، حتى الملحدين ، لأنّ الله فيهم وبه يقومون ، واليه يسيرون ، ودليله يستدلّون .

انّ الأزمة الاكبرُ ، وهي أمّ الأزمات البشرية الاخرى ، ليست إِلَّا الأزمة الاخلاقية ، ولا يمكن إطلاقا حلّها برؤى بشرية ناقصة نفعية ، ولا حتى بمشاريع دينية جافّة الروح ضعيفة النبض . انّ الحلّ الاسمى لإعادة الانسان الى ساحة الكرامة ، وتهذيبه بنقله من عالم الحيوانية الى عالم الملكوت ، لن يكون سوى بالله ، حين يُشرق في النفوس من جديد .

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات