من الحقائق ألمعروفة في تاريخ تطور النظام السياسي الاجتماعي البشري، ان الفيلسوف الالماني امانوئيل كانط ( 1724- 1804) يعد بحق فيلسوف عصر التنوير في أوروبا والعالم، ويمثل فكره امتدادا لأفكار مونتسيكيو التي تتمحور حول فصل السلطات الثلاث ونظرية العقد الاجتماعي التي صاغها جان جاك روسو، والتي تعتمدها المجتمعات ألحديثة في أدارة الصراع الاجتماعي وتحديد شكل العلاقة بين المحكوم والحاكم من خلال الديمقراطية ألحديثة وادواتها. وقد اراد كانط ان يبرهن في اهم مؤلفاته: ( نقد العقل الخالص ) و(نقد العقل العملي ) وغيرها ان “الحق هو مجموعة الشروط التي بها تستطيع حرية الاختيار عند الفرد ان تتوافق مع حرية الاختيار عند الأخر وفق قانون الحرية ألعامة”. كما سعى هذا الفيلسوف الى برهنة “ان العلم هو مركز المعرفة، كما برهن كوبرنيك ان الشمس هي مركز الكون” دون ان يستطيع الجزم ان الديمقراطية هي الحل المطلق لازمات الصراع داخل المجتمعات البشرية وبين الامم والشعوب او لإيقاف هيمنة الكبار على الصغار والتحكم بمصائرهم.
وفي السريالية العراقية، يبدو الحديث عن أسس الفلسفة والحق والعدالة العامة التي قام عليها النظام الديمقراطي والليبرالية الحديثة بعد عام 2003 وكأنها تستند على رؤى وبرتوكولات غير مكتوبة لا علاقة لها بكل الفلسفات التي بني عليها النظام الاجتماعي في العالم الحديث او أي دستور، رغم قناعتنا بان واشنطن وحلفاؤها الذين قاموا بغزو العراق مرتين، لم تكن دوافعهم الحقيقية هي إقامة أي نوع من النظام السياسي العادل القادر على النهوض بالمجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية البشرية والمادية وإلزام القوى الجديدة التي ورثت السلطة من النظام الدكتاتوري السابق التمسك بآليات الديمقراطية والشفافية في لعبة الوصول الى الكراسي سلميا من خلال صناديق الانتخابات -والتي سنت بعد احتلال بلاد الرافدين أسلوب المحاصصه الطائفية في قانون إدارة الدولة المؤقت الذي دشن باسم الشراكة والتوافق- صيغة طائفية تتعارض والعقد الاجتماعي وطبيعة تركيبة الفسيفساء العراقي الذي هو بأمس الحاجة الى هوية المواطنة الواحدة كحل وحيد يمكن ان يبقي على الإخاء ويمنع تمزيق الخارطة الوطنية ويخضع الجميع للقانون والدستور دون تمييز.
ان عملية التغيير ألقسري التي تجري في المنطقة منذ اندلاع التظاهرات في تونس ومسلسل الإطاحة المفاجئ بالعديد من الدينصورات السياسية في عالمنا العربي لاحقا، وسرقة ثورات الشباب والقوى اللبرالية من قبل بعض التيارات الأصولية التي لا تؤمن أصلا بالديمقراطية الغربية رغم انها قبلت بالغرب والتحالف معه لتصل الى السلطة متوهمة أنها تستغفل واشنطن وحلفاءها تطرح اليوم الكثير من التساؤلات…..و قد بات جليا ان كل هذه الإحداث التي جرت وتجري في العراق واليمن وسوريا وليبيا ومصر، تعيد تكريس او التبشير بنظام سياسي قادم لا يختلف كثيرا في جوهره عن الأنظمة السابقة وطريقة تفكيرها ونظرتها لمنافسيها على السلطة وتبريرها حتى لعملية فتح أكثر من (مدخل) سحري لصناديق الانتخابات من اجل نفس الهدف مهما اختلفت الشعارات.
لقد أثبتت النتائج المختبرية للربيع العربي، الذي جرى تدشينه في العراق قبل غيره، ليستفاد منها عربيا، ان الهدف ليس هو الديمقراطيه الفعاله بل غرس الطائفية والصراع على السلطة وشرعنته، حتى وان لم يرد في الدستور، وان تحتل النظرة الاثنية محل الرؤية الوطنية، ويفتح الطريق في البرلمان للعديد من الذين لا يهمهم سوى مصالحهم الذاتية او مصالح أحزابهم وطائفتهم وقومياتهم، دون ان نتطرق بالحديث عن كفاءتهم الفكرية والمهنية ونزاهتهم لمثل هذه المناصب الحساسة، بل واستغلالهم السافر لها. ولا يخفى دور المال السياسي، واستغلال السلطة والنفوذ، والنفخ ببوق الطائفية كلما اقترب موعد الانتخابات لكسب الأصوات التي يجري تعديلها وترتيبها من قبل الأمريكيين وباقي دول الجوار، لتكون النتيجة، فقدان ثقة المواطن بنزاهة العملية الديمقراطية واستقلاليتها ومقاطعته لها، وبالتالي إفشال التجربة برمتها، والإبقاء على نفس الرؤى التي تتحكم بمصير الأمة.
هنا تكتمل الصورة بإجراء الجراحات العاجلة والانقلابات الصامتة بإشراف ورعاية أجهزة المخابرات في أكثر من دولة إقليمية على غرار ما حدث في مصر مؤخرا حين انقض الإخوان على قادة المؤسسة العسكرية التي انحازت لهم ضد التحالف الليبرالي في الانتخابات الرئاسية لتحتفظ لنفسها ببعض الصلاحيات التي تبقي العسكر قريبين من الحراك السياسي في مصر -باعتباره من الثوابت منذ يوليو 1952م- لكن حسابات واشنطن لا علاقة لها بالحقل والبيدر، فأعداء الأمس أصبحوا أصدقاء اليوم والخاسر هم الليبراليون والوطنيون الشرفاء والوطن… بالأمس واليوم .
ان اعترافات الشيخ علي حاتم السليمان بأنه زوّر الانتخابات الماضية بيديه لم يكن بالنسبة لأغلب الساسة والشعب صدمة او (صحوة ضمير) على غرار( صحوة) المقاتلين الذين انتقلوا من خندق دعم المسلحين والجماعات (الجهادية) الى قتالهم مع الحكومة، و التي ابتدعها عقل ودولارات الجنرال بيتراوس الذي كرم من اجلها ليصبح مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية التي تدير عملية تغيير خارطة الشرق الأوسط ألان على قاعدة التقسيم ألاثني والتناحر وصراع المكونات في إطار الديمقراطية المسخ . فقد سبق للعديد من الساسة ومن بينهم محمود المشهداني وغيره ان اعترفوا بأن الانتخابات العراقية لم تكن نزيهة، وان الأمريكيين كان لديهم مخطط مسبق لا علاقة له بإرادة وأحلام العراقيين الذين سقط المئات منهم صرعى وهم يرفعون أصابعهم البنفسجية، بينما السفارة الأمريكية كانت على علم بمن سيربح ومن سيخسر قبل المفوضية العليا للانتخابات!
حكاية تزوير نتائج الانتخابات الماضية وما سبقها أمر يعرفه القاصي والداني، وقد اشرنا لها سابقا، وسبقنا اليها الكثيرين ممن هم على اطلاع بأسرار وخفايا العملية السياسية ودسائسها وصفقاتها السرية قبل وبعد الانتخابات، وخاصة أولئك المقربين من واشنطن والسفير الامريكي في بغداد وقادة الكتل وأجهزة المخابرات الأجنبية المندسة في دهاليز الوطن، وهي عملية (شرعنها) وتورط بها اغلب الساسة وشارك بها قطاع واسع من كوادر الأحزاب الحاكمة وجرت بالتنسيق مع مبعوثة الأمم المتحدة في العراق- على قاعدة(حاميها حراميها !! )
فقد اشرنا سابقا كيف، عمد الأمريكيون ومن خلال مستشارة الدعم الفني في بعثة الأمم المتحدة في العراق (ساندرا ميتشل)، الى الحفاظ على حالة من التوازن السياسي بين الكتل البرلمانية وفقا للسيناريو غير المعلن بشأن العراق من خلال تدخلها في البرامج الحاسوبية لحساب الأصوات وتوزيع المقاعد في انتخابات مجالس المحافظات عام 2009 والانتخابات التشريعية لاحقا، مستغلين بذلك ضعف طاقم المفوضية في الاختصاص الفني ببرامج الحاسوب وتفرد طاقم الأمم المتحدة بالإشراف على هذا الجانب الخطير من العملية الانتخابية. بل ان التزوير شمل بحرفية بالغة مكونات الكتل العراقية الثلاث نفسها بما يبقي الصراع محتدما حتى داخل المكون الواحد لإضعاف الجميع وابتزازهم وترويضهم وحاجتهم دائما للعم سام لحل الصراعات بينهم .
قبل أسابيع قليلة فقط اطلعت الجهات الرسمية في العراق على تقرير فني خطير يظهر بالدليل القاطع أن النظام المعتمد من قبل مفوضية الانتخابات لفرز نتائج الانتخابات لم يكن محميا أو مغلقا حيث أن جميع المعلومات التي تدخل الحاسبات في موقع المفوضية وهو www.iheq.iq مرتبط (بالسيرفر) الرئيس الموجود بالولايات المتحدة الأمريكية الذي يطلع عليه قبل المعنيين في واشنطن والقادرين على التحكم به وبنتائجه قبل الجانب العراقي!!!!
وقد سبق للنائب كريم اليعقوبي – من حزب الفضيلة وفي عام 2009- إن تقدم بطعن ضد هذه الخروقات بالأدلة الدامغة، وذلك عندما قام باستجواب المفوضية وكشف بالدليل القاطع الانتهاكات التي تفضح تدخل الأمم المتحدة السافر في عملها الفني، والذي انتهك عذريتها السياسية وطرح أكثر من علامة استفهام وأثار الشبهات تجاه من يتحكمون بها. ولعل الصراع بين الكتل السياسية غير المسبوق حول مفوضية الانتخابات الذي استمر لعامين، وتبادل الاتهامات قبل التوصل مؤخرا الى صيغة تقاسم طائفي لمفوضيها والى زيادتهم لإرضاء الجميع يوضح الشكوك ألقائمه بشان عملها وعدم الاطمئنان له تماما.
وقد بات جليا ان هناك بعض الإطراف السياسية التي تعرف انها لم تحصل على هذه الأصوات المبالغ بها ألا من خلال التزوير وان رصيدها الحقيقي اقل من ذلك بكثير- القيام بما يشبه الانقلاب السياسي وبصيغ ديمقراطية مشوهة قبل موعد الانتخابات.
لقد استغلت واشنطن رغبة اغلب القوى العراقية للحصول على جزء من كعكة السلطة باي ثمن لتجبر الجميع على السكوت على ما عرف من تزوير واضح في نتائج الانتخابات البرلمانية كاستمرار للعقلية العربية التقليدية التي منعت تنمية ثقافة المعارضة الوطنية الداخلية، فبقيت المعارضة العربية والعراقية خاصة رثة ومعتمدة كليا على الوطن المستورد من الخارج وليس المصنع محليا وذاتيا، وإلا بماذا نفسر ان يطالب خصوم المالكي بسحب الثقة عنه بينما يتمسك وزراءهم بكراسيهم ب(الأسنان والأيدي) وكان من السهل عليهم الانسحاب الجماعي وإسقاط حكومة المالكي ؟؟؟
،.
هذ الحراك المضاد انما كان ناجما عن قلقهم من إجراء الانتخابات القادمة في موعدها وفق معايير أكثر شفافية وتزوير اقل، بعد ان تقلص الوجود الأمريكي في العراق وهم يعلمون جيدا كيف تم سرقة الأصوات وتغيير النسب ومنحها للبعض دون وجه حق قبل عامين، وكيف منح مهندس العملية اصواتا مضافة لإحدى الكتل الكبيرة داخل التحالف الوطني لترويض رئيس الحكومة وهي معروفه بالعداء لأمريكا ويطالب زعيمها المقرب من طهران بشطبها نهائيا من المعادلة العراقية!!! هل نستطيع وفق رؤية محايدة اليوم تفسير دعم الاداره الامريكيه للإخوان المسلمين في المنطقة!!! أنها عقليه الساحر، وهذه حكمة التاريخ التي يؤكدها الزلزال الذي يضرب الشارع العربي اليوم، والقادر بمهارته على إخراج المزيد من الأرانب والحمامات من قبعته السوداء بنفس قدرته على إخفاء الدمى الأخرى -الزعامات والأحزاب- لينتزع تصفيق الجمهور المخدوع المبهور ببراعته.
ان اعترافات هذا الشيخ العشائري العفوي والمنفعل والصادق الذي يفتقد اغلب الساسة لشجاعته للاعتراف بالخطأ علنا، رغم انها تضعه تحت المساءلة القانونية والعقاب (وهو موقن ان الجميع ارتكب نفس المعصية)، تثبت كما اشرنا مرارا الى ان العملية الانتخابية تمت تحت إشراف وعيون الأمريكيين بدقة وعناية واحيانا ضمن صفقه سريه مع دول الجوار، وما شاهدناه خلال عامين من ولادة تكتلات جديدة وانشقاقات تؤكد ظنوننا بأن المرحلة القادمة ستشهد تحالفات براغماتية جديدة سينحاز فيها الكثيرون للطرف الأقوى، ما يعني عدم تغيير تركيبة السلطة في العراق كثيرا في الأفق المنظور، رغم ان بعض الوجوه ستغيب وسيطويها النسيان فيما سيتم تبديل بعض الطرابيش والسدارات والشراويل.
يبرر عرابو المشروع العراقي في واشنطن التدخل غير المعلن في( تعديل) نتائج الانتخابات، على ان العراق لازال مضطربا، وبالتالي هنالك ضرورة للحفاظ على التوازن بين المكونات العراقية، والى عدم إقصاء أي مكون او السماح للأغلبية بالهيمنة على القرار حتى لو تم تعطيل الماكينة الديمقراطية -وهي كلمة حق يراد بها باطل- مثلما فعلته فرنسا التي بررت الانقلاب على القوى الإسلامية بعد فوزها في انتخابات الجزائر في مطلع التسعينيات على انه (خطوه غير ديمقراطيه للدفاع عن الديمقراطية!!! ) وهو ما ادى الى اندلاع عنف أصولي راح ضحيته عشرات الآلاف من الجزائريين.
ان هذه البراغماتية والتلاعب بالمفردات عن سبق إصرار، تتناسى ان الديمقراطية لايمكن تغيير أصولها، وان لديها آليات لايمكن تحويرها دون انتظار نتائج غير مشوهة، مثلما حصل في العراق، مما يشير الى نية مبيتة لتكريس النظام الإثني في رحم ديموقراطي، والذي من بين نتائجه إضافة الى ولادة الخدج السياسيين وتعريض ألام لخطر النزف والموت، فانه ينسف بل ويتعارض مع المشروع الوطني الذي يتطلع له غالبية العراقيين وقواهم السياسية المخلصة – من غير المنتمين للأحزاب- وهم الغالبية. وبدون هذا المشروع الوطني الشفاف والعادل في الانتخابات، لن يتحقق الالتحام بين مكونات النسيج الوطني، ولن يخرج العراق من عنق الزجاجة، ولن ينتهي الصراع المحموم على السلطة.
لقد تم إقصاء وإبعاد كثير من الشخصيات المخلصة والنخب السياسية في الانتخابات التشريعية السابقة لأسباب معروفة وواضحة، خاصة وان بعضهم اكتشف الخديعة في جوهر المشروع الأمريكي في العراق وغاياته، ولم يعد قادرا على الإيغال في الانحراف والخطأ، كما ان قانون الانتخابات بحد ذاته قد فصّل ليحرم الأحزاب الصغيرة والمستقلة من أن يكون لها أي دور، وليمنح أصواتها للحيتان والكتل الكبيرة، في خطة لإحباطها وإضعاف معنوياتها ومنعها من التأثير في أصول اللعبة، فيما تمكن الكبار من تقديم (الفائض) من أصواتهم ك(هبة) لكوادر أحزابهم رغم أن الشعب صوت ضدهم بعد ان اكتشف حقيقتهم. ومازال البرلمان يتردد في إقرار قانون الأحزاب السياسية رغم مرور تسع سنوات تقريبا على نهاية الدكتاتورية.
ربما نحلم تحت تأثير أي شعور ما، أو نأمل بمنع القانون القادم لتأسيس اية أحزاب في العراق على أساس طائفي او قومي والى كشف مصادر تمويلها.
تدل اعترافات الشيخ علي حاتم السلمان على أن التغيير الحقيقي في العراق لم يتحقق حتى الان، وان العملية لازالت فقيرة وبحاجة ماسة الى إصلاح شجاع يغترف فيه الغالبية، ممن هم داخل السلطة وخارجها، بأنهم اخطئوا، وذلك قبل الحديث عن ورقة إصلاح سياسي يجري فيها (تبويس اللحى) وطرح الحلول الهلامية، وإعادة توزيع المواقع الوزارية. والاعتراف بالخطأ خطوة لايقدم عليها سوى الكبار والأبطال والشجعان.
أن الكراسي والمراكز التي تأتي من خلال التزوير والتحالفات الطائفية والتكتيكية واستغلال أموال النفط والدعم الأمريكي والعربي والإيراني والتركي، هي باطلة، على الأقل في عيون الشعب المقهور المخدوع الساذج، الذي يهيم بالضوء الاثني ويدور حوله .. معتقدا أنه نور الشمس ..
في خبر طريف أثار سخرية وضحك الكثيرين، ورد من اسبانيا التي لازال الدم العربي متدفقا في جينات مواطنيها، وهو لايتعلق بمصارعة الثيران او كرة القدم، بل في المظاهرات التي تعم البلاد منذ أشهر بسبب ازمة الديون السيادية والبطالة المستفحلة. وقد رفع عدد من المثقفين والعمال المتظاهرين في مدريد شعارا مثيرا للسخرية، حيث خطوا على إحدى أللافتات الكبيرة العبارة التالية ( صوتوا للعاهرات….. لان التصويت لأبنائهن لم يجلب لنا أي شئ )!!!