23 ديسمبر، 2024 2:39 م

ديمقراطية .. منتهية الصلاحية

ديمقراطية .. منتهية الصلاحية

لم تكن الديمقراطية مفهوماً مألوفاً في مجتمعاتنا العربية حتى زمن قريب بل ظلّت حبيسة في بطون الكتب كنظريةٍ يحلم الكثيرون في تطبيقها على أرض الواقع. فكانت أغلب الدول العربية في ولادتها كجمهوريات أو ملكيات عبارة عن دول دكتاتورية متسلطة. فلقد تشكلت هذة الدول وتطورت ونمت على هذا النظام من الحكم الى يومنا هذا, فالحاكم هو القائد الأعلى في هرم السلطة وكلامه هو الدستور المتّبع في البلاد خطأً كان أم صوابا وعلى الجميع السمع والطاعة, وحزبه الحاكم هو المتفرد بكل الأمتيازات والدرجات الوظيفية العليا التي تحكم البلاد وما عداه يظل تابعاً ذليلاً يسبح بأسم السلطان بكرةً وأصيلا, أما الذي يعارض هذة الأنظمة فسيكون مصيره الأعدامات والسجون أو طريداً تلفظه المنافي.
حتى جاءت هذه الديمقراطية الخجولة طارقة أبواب بعض هذه الدول العربية بعد أن تعفّنت فيها الديكتاتوريات لعقودٍ طويلة. وكان العراق أول هذه الدول التي ولدت فيها الديمقراطية والتي حدثت بمباركةٍ من القابلةِ المأذونة أمريكا, فكانت ولادةً طبيعية بعد سنين من القهر والمعاناة والديكتاتوريات المتعاقبة. هذا الوليد الجديد الذي طال أنتظاره لدى الشعب العراقي جاء مشوهاً  محملا بأمراض العصور الغابرة من طائفيةٍ وعنصريةٍ وأنتهازيةٍ عجزت الدول الغربية عن أستأصالها أو حتى علاجها. فتركته على قارعةِ الطريق يواجه مصيره بعد أن رسمت له الخطوط العريضة التي يجب أتباعها.
 وقد كان الدستور هو أول هذه الخطوط, فشُرّعت قوانينَه في ظروفٍ إستثنائية بعيدة عن الأستقرار الأمني والسياسي, وعلى الرغم من كون الدستور هو الأساس في هيكليّة الدولة والقانون الأعلى للبلاد والفيصل بين الحاكمين والمحكومين, إلّا أن نصوصه جاءت يشوبها الكثير من الأبهام والغموض وشكّل عدم أنسجام بعض فقرات بنوده عائقاً في طريق التنفيذ, فبدلا من ان يكون المساعد في تنظيم شؤون الحياة أصبحت هذه النصوص المبهمة يفسرها المختصون كل على هواه, حتى أصبح عبأً على الساسة والدولة. فعلى سبيل المثال قانون الأقاليم الذي جاء في أحد بنود هذا الدستور والذي فُصِّل في الأساس على مقاس المحافظات الشمالية الثلاث, جاء في البدء لخدمة أقليم كردستان فقط, فهو لا ينطبق على بقية المحافظات لأعتبارات أقتصادية أو طائفية, فجُوبِهت مطالبات محافظة البصرة أو أقليم الوسط والجنوب بالرفض ولم تلقَ آذان صاغية, ورفض ذلك في المحافظات الغربية أيضاً بحُجّة أن هذة الأقاليم تُضعف من قرارات السلطة المركزية وتعمل على تقسيم العراق. إذن لماذا وضع هذا القانون في الدستور وهل أن أقليم كردستان جزء من العراق أم أنه دولة مستقلة لها دستورها الخاص وجيشها المستقل عن الجيش العراقي ؟ حتى أوشك هذان الجيشان أن يتقاتلا من أجل قضية كركوك المتنازع عليها والتي لم يفصل فيها الدستور بشكل واضح وصريح. فكان هذا الدستور الذي صُوّت عليه هو أول تعثر في طريق الديمقراطية الجديد .
وفي ظلِّ هذة الديمقراطية تشكّلت الرئاسات الثلاث كما هو معمول به في الديمقراطيات الحديثة. هذة الرئاسات لم تُقسَّم على أساس الكفاءات أو حتى على أساس القوى الفاعلة في الحراك السياسي وأنما تشكلت على أساس عرقي ومذهبي طائفي. بهذا التقسيم وضع الساسة العراقيون حجر الأساس لتقسيم العراق ما بين كرد وسنة وشيعة, وزرعوا بذورَ الطائفية التي بدأت تأتي أُكلها.
هذة الديمقراطية الجديدة في حقيقة الأمر لم يصلنا منها سوى صندوق الأقتراع, فلا يوجد قانون يُنظّم عمل الأحزاب ولا آلية صحيحة تتيح للناخب أختيار مرشحيه. عدم التنظيم هذا جعل من العراق ساحة خِصبة للصراعات الأقليمية أستغلتها دول الجوار لتنفيذ أجنداتها الخاصة بها وبأيادٍ عراقية. سعت هذه الدول على أنشاء وتكوين أحزاب وعصائب تكون طوع أمرها أنى ومتى تشتهي, فأصبح مصير هذة الجهات والأحزاب بيد دول الجوار بل أن مصير العراق أصبح بيدها, فالوضع الأمني مرهون بأرادتها والأستقرار وخلق الأزمات تحت تصرفها وأكثر من ذلك فهي تقرر مسبقاً نيابة عن الشعب العراقي من سيحكم العراق. أما المواطن المغلوب على أمره يذهب وينتخب من يظن أنه هو الأكفأ فأذا به يفاجأ بأن هذه الوجوه ليست هي من صوّت لها فيذهب صوته الى من لا يستحق أن يكون أصغر موظف في دوائر الدولة فكيف به وهو نائبٌ يسّن القوانين ويصوّت عليها !.
 وكذلك الحال بالنسبة الى بقية القوانين والأنظمة التي تسير عليها الدولة بكافة مفاصلها, بقيت كما هي بل أزدادت تعقيداً وأصبح الروتين المقيت لمراجعي دوائر الدولة متعباً على الرغم من توفر كل وسائل التكنلوجيا الحديثة التي اختزلت الكثير من العناء. وأصبحت الطبقية والمحسوبية وتفشي الرشوة هو الأسلوب السائد فيها.
 تُرى هل هذا التعقيد والغموض في القوانين هو في صالح البلد والمواطن, أم أن المشرّعين لها لا يفقهون في شؤون الناس وأحتياجاتهم؟. فالديمقراطية إذن هي ليست أصبعاً بنفسجياً وورقة أقتراع فحسب, إنما هي أنظمة وقوانين تُسنّ من أجل خدمة المواطنين وتحقيق العدل بينهم.
صحيح أن الديمقراطية في العراق كفلت للمواطن حريةَ التعبير وأنتشار وسائل الأعلام بكافة أشكالها. ولكن هل هذا كافٍ لنقول أن العراق بلدٌ ديمقراطي ؟ أبداً فحرية التعبير كفلتها جميع دساتير العالم كحرية المعتقد والديانة وغيرها من الحريات الفردية.
بات جلياً اليوم أن ديمقراطية الفوضى سوف لن تجلب غير الخراب والدمار, وأن ما يحصل اليوم في العراق هو أقرب للفوضى منه الى الديمقراطية, فدولة المؤسسات (الغير مستقلة) لا تستطيع أتخاذ قرارات خدمة للصالح العام, فهي تخضع الى جهاتٍ حزبية أو فئوية لا تفكر إلّا في مصالح هذة الكتلة أو تلك الجهة, وأن هذة الديمقراطية العرجاء لن تبني بلداً ولن تُقوّم ما كان معوجا.
والخوف هنا من أستمرار الأوضاع على ما هي عليه الآن, فأن هذة الديمقراطية بكل مساوءها وأمراضها سوف لن تنجو أذا ما بقيت بهذا الأداء وهذا الضعف وهذا الأستخفاف بحياة وأمن المواطنين, إلّا أذا أتحد هؤلاء القادة وقرروا التخلص من مصالحهم الفئوية الخاصة وعملوا على أجراء تعديلات دستورية تضمن وحدة العراق لاتقسيمه الى دويلات صغيرة. فالمجتمع بحاجة الى ديمقراطية لها من القوة والنظام والقوانين الصحيحة بحيث تكون قادرة على بسط الأمن وتوفير المتطلبات الأساسية للعيش الكريم, وليس ديمقراطية منافع شخصية وتجاذبات ونزاعات عرقية وطائفية وسياسية.
 ولكن يبدو أن ساسة اليوم قد أستمرؤا هذة الفوضى ووجدوا فيها غطاءاً وفيراً لكل العيوب والخزي الذي هم فيه, فلا يعرف الضارب من المضروب ولا القاتل من الضحية ولا الناهب من المنهوب, فراح كُلّ يرمي الكرة في ملعب الآخر والخاسر الوحيد هو هذه الجماهير المتعطشة للأمن والاستقرار والبناء.