تخبرنا الإحصائيات عن تفشي الأمية بين أوساط مجتمعنا , ومع أنني لم أطلع بشكل مباشر على هذه الإحصائيات , التي نريدها أن تصدر من مراكز ومؤسسات مختصة لكي نوليها الثقة في ما تقوله , وعلى كل حال فإن كاتب هذه السطور عراقي يعيش في العراق، وبتماس مباشر مع الناس , ولأنني بتماس مباشر مع الناس أقول: لربما تكون هكذا إحصائيات غير دقيقة حول موضوع الأمية في مناطقنا , وخاصة في المجتمعات الشعبية , ودقة هذه الإحصائيات تتوقف على الجرد الميداني , ولم أشهد جردا ميدانياً مؤسساتياً داخل الأحياء المغيبة , وتطرق إلى دعائم وركائز الأمية , فلكل حالة وظاهرة جذور وأسس أفرزتها , وللأمية في مجتمعنا دعائم وركائز , ونحتاج إلى دراسات وبحوث علمية رصينة لتقفي منابع العوز التعليمي , وسنتطرق إلى الدعائم والركائز التي تغذي هذه الظاهرة الكارثة , آخذين بنظر الاعتبار النتائج التي تترتب على تفشي الأمية في المجتمع .
قبل أشهر قليلة انتقلت للسكن في المنطقة التي أقطن فيها الآن, ومما يدعو للأسف أن لا أجد مدرسة في مساحة سكنية واسعة, فيضطر التلاميذ والطلاب , التلميذات والطالبات , لاستخدام وسائط النقل للوصول للمدارس البعيدة وكأننا في إحدى أفقر الدول في العالم , وأكثرها تخلفاً, واستخدام وسائط النقل يعني إضافة صرفيات إلى ميزانية العائلة , وبعض الأسر تعاني من الدخل المتدني , إن لم تكن دون خط الفقر , وتزداد المأساة حينما أرى جموع الأطفال تتنقل بوسائط نقل شبه بدائية لا تتوفر فيها أبسط المتطلبات والمقومات , فالبعض من الأطفال يضطر للوقوف على دعامة مؤخرة السيارة معرضين أنفسهم للخطر كي يتمكنوا من الوصول لمنازلهم , وقد يصلون في ساعات متأخرة من النهار , وفي بعض الأحيان أجد مجاميع من التلاميذ الصغار متكدسين في مرآب السيارات منتظرين قدومها بعد أن عجزت وسائل النقل عن سد الحاجة بسبب الحشود الكبيرة , وفي وقت الانتظار يتعرض التلاميذ لسوء الأحوال الجوية والحوادث والجهد المضني , وأشياء أخرى…
والأنكى أن المدارس تعمل بثلاث مناوبات, كل مناوبة تستغرق ثلاث ساعات , وهذا ما يؤدي للتعجيل باستهلاك الأبنية المدرسية ومحتوياتها .
إن هؤلاء التلاميذ من أبناء البروليتاريا يمثلون واقع المجتمعات التي تسكن ما وراء الأسوار , وداخل الأسوار ينعم البرجوازيون والأرستقراطيون بكل مقومات الحياة المعاصرة, وجل نعيمهم يأتي من دماء وعروق وبؤس البروليتاريين وأبنائهم .
لن توفر مدارسنا التي نوهت عنها أي مستوى من التعليم الجيد , بل هي غطاء للأمية المقنعة , وسنشهد في المستقبل مجتمعاً مستنسخاً عن المجتمع الحالي , إذ ستدوم الأمية والتخلف , فالتعليم الرديء , وعدم وجود مدارس في بعض الأحياء الشعبية , لن يسمح بظهور مجتمع يتعقل الديمقراطية , ولا ديمقراطية بلا تعقل , وإن كان العقل موجودا في رؤوسنا فهو يحتاج لتعقل بعض المواضيع والأشياء عبر الاكتساب , والتعليم من المواضيع التي نكتسبها .
البناء التحتي , تلك الحزم من الأسس الاقتصادية التي إن تطورت فسوف يتطور معها البناء والمجتمع , والتعليم , والمنازل , والطعام , والملبس , والذوق , والوسائط والتكنولوجيا , وبالتالي يتطور المجتمع وتتطور بناه الفوقية من حكومة ومؤسسات ومشاريع ومناهج , فالرخاء الاقتصادي , والتوزيع العادل للثروة وفق تخطيط صحيح ونزيه هي الركائز للبنى الفوقية التي تنتج دولة متقدمة , محترمة .
كيف يستطيع الإنسان أن يستغل ماء المطر النازل من السحاب لينشئ حقلاً وهو لا يعرف الحراثة والزراعة والسقي , ستمر السحب , وينتهي وقت المطر , وتظل الأرض بلا انتفاع , وهكذا الحال مع الديمقراطية , ونحن مثل ذاك الشخص الذي أودع كنزاً في باطن الأرض على أمل أن يستخرجه في يوم آت , وحينما جاء ذلك اليوم , وسُئل عن أي علامة اتخذها ليستدل بها على مكان الكنز , فأجاب: دفنت الكنز تحت سحابة!
إن طريقة ( الكنز تحت السحابة) لن توفر لنا مفاهيم ووسائل عقلانية للتعامل مع متطلبات الديمقراطية ومستجداتها , الديمقراطية كنظام وفكرة , فالروابط الحقيقية الصحيحة هي من تربط مرتكزات الدولة مع البنى الفوقية لها .
لقد تحدثنا في الدعائم والركائز , ونعتقد أن الركائز الاقتصادية الصحيحة , ودعائم التخطيط والتطوير والتوزيع التي تعقب حلقة الركائز , ستجعل من الدولة كيانا ذا بنية صحيحة اقتصادياً واجتماعياً وديمقراطياً.
ينبغي أولاً أن ننظر في وعي المجتمع , ونضع لهذا الوعي تصنيفاً دقيقاً, ونشرع بوضع معالجات صحيحة مناسبة , وننفذ المعالجات , فالمجتمع المتأخر في التعليم والثقافة والاقتصاد لن يتعامل مع الديمقراطية تعاملاً صحيحاً, ولو تساءلنا : كم من أفراد المجتمع يفهمون الديمقراطية ومتطلباتها , وعوامل ديمومتها , لخرجنا بإجابة محبطة , ولكنها توفر توضيحاً لعيوب الذهنية الاجتماعية , فعوامل ديمومة الديمقراطية تُبين أن الديمقراطية تدوم بدوام الإرادة الاجتماعية الواعية التي تتخذ من الديمقراطية نظاماً , فيكون هذا الاختيار هو الحتمية التي تشترط الوعي , أما أن نتصور أن بقاء الديمقراطية مقترن بحتمية قدرية محضة خارجة عن إرادتنا فهذا تصور الواهمين .
إن النظام الديمقراطي لا ينحصر في مؤسسة الحكومة أو بسلطتها العليا , فكل إنسان في الدولة الديمقراطية مسؤول عن ديمومة النظام الديمقراطي , وواجب الدولة بحكومتها توفير الأسس للوعي بالمسؤولية في أوساط المجتمع , وتنمية الوعي صعوداً, ويتحمل المثقفون والمفكرون والأكاديميون والأحزاب والمنظمات المجتمعية والإعلام ورجل الدين الواقعي جزءا كبيرا من هذا الواجب , ولن يصمد النظام الديمقراطي أمام هكذا مستويات من التعليم المتدني , بل سيأتي المستقبل بأجيال غير متعقلة للديمقراطية , وهذه دعوة لديمقراطية نمارسها بتعقل , وليس بجنون , أو بجهل , أو بتمارض .