” إن الإنسان يكون قيما على نفسه بقدر ما يكون عيشه على مقتضى العقل وبالتالي لأن المدينة تكون أشد بأسا وأكثر استقلالية بقدر ما تقوم على أساس العقل وتحتكم به”[1]1
تمهيد:
لا يكسب الإنسان صفة المواطنة إلا ضمن إطار الدولة والانتقال من وضعية الفوضى الطبيعية إلى الحالة المدنية ولا يصير فردا يمتلك جملة من الحقوق ويحترم قيم العدالة إلا في إطار سيادة الدولة. وكأن الفرد دون مواطنة هو كائن بلا إنسانية ودولة دون سيادة هي كيان بلا وظيفة ودون نجاعة، ولذلك استوجبت النظم الديمقراطية احترام العدالة الاجتماعية وتوفير الحقوق الأساسية للمواطنين.
لكن هل يكفي إيجاد نظام ديمقراطي في دولة ذات سيادة لكي يتمتع معظم الأفراد بصفة المواطنة؟ ماهي شروط قيام الديمقراطية في الدولة؟ هل هي توفير المواطنة بالحق أم حماية السيادة بالقوة؟ ألا يعود تفشي الاستبداد والظلم وإنتاج الفوارق الاجتماعية إلى الحوكمة السيئة للموارد والثروات؟ والى أي مدى يتطلب إعطاء الحقوق للأفراد إيجاد آلية تسهر على توفير مطلب العدالة الاجتماعية؟
الرّهان الذي يمكن استهدافه من خلال دراسة هذه الإشكاليات يتمثل في تفادي كراهية الديمقراطية والتخلص من العوائق التي تحول دون تجسيدها على أرض الواقع ( الطغيان، الاستبداد، الشمولية، العنصرية) والسعي لتحقيق الموازنة بين حقوق الأغلبية وحقوق الأقلية وإعطاء الفرد منزلة لائقة.
المهارة البيداغوجية التي تبقى موضوع اشتغال في الساحة الحقوقية راهنا هي تنمية الشعور الوطني وتعزيز قيم التعاون والتكافل والارتقاء بالروح التشاركية والمنزع البنائي وتثمين العقل الجمهوري والذكاء الاجتماعي وربط الهوية الفردية بالذاكرة الجمعية والتراث القومي والرأسمال الرمزي.
1- الفرد بين المجتمع والدولة
إذا كانت الدولة تعرف من جهة اللغة بأفعال الاستيلاء والغلبة ومؤسسة يمكن تداولها بين الأفراد والأحزاب والاتجاهات وتفيد من جهة الاصطلاح “جمعا من الناس مستقرون على أرض معينة ومستقلون وفق نظام قانوني خاص بهم ويكونون مجتمعا منظما له حكومة مستقلة وشخصية معنوية تميزه عن غيره من المجتمعات” فإن الدلالة الفلسفية التي تشكلها تربطها بالجسم السياسي والحقوقي الذي ينظم العلاقات بين مجموعة من الأفراد ويمنحها وظيفة تنظيم حياة الناس وفق وظائف اجتماعية وخدمات عامة تؤمنها مجموعة من الهيئات والمؤسسات والأجهزة في إطار نظام عقلاني.
ما المقصود بالفرد؟ وعلى ماذا تتأسس الدولة؟ وماهي العلاقة القائمة والممكنة بين الفرد والدولة؟
الإشكالية المركزية: تتأسس الدولة من أجل خدمة الفرد أم أن الفرد يضحي بنفسه في سبيل الدولة؟
الموقف الفلسفي التعاقدي: غاية الدولة هي حماية الفرد من جهة توفير حرياته وضمان حقوقه.
الموقف الفلسفي الهيجلي: الدولة فوق الجميع وغاية في حد ذاتها والفرد مجرد جزء في حياة الكل.
الموقف النقدي الماركسي: الدولة جهاز أوجدته الطبقة الحاكمة للدفاع عن مصالحها الخاصة.
يقود مصطلح الفرد إلى ثلاثة أنماط من المشاكل الفلسفية البالغة التعقيد:
– الأول فيزيائي ويتعلق بطبيعة مبدأ التفرد والتفريد والفردنة والفردانية والفردية وتتمثل في انقسام الطبيعة إلى عدد من الأوليات وهي العناصر الأولى التي يتكون منها الواقع المادي (الذرات).
– الثاني أنطولوجي ويرواح بين اعتبار الوجود واحد متكون من تمازج بين وقائع فردية وبين التعامل مع الوقائع الصائرة على أنها حقائق وتصورات وأفكار لا تقبل القسمة إلى ما لانهاية.
– الثالث ابستيمولوجي ويتأرجح بين المعرفة والتفسير وذلك بتعميمه واختزاله الى المطابق والواحد وجعله حدا للمعروف والنظر اليه على أنه النقطة الأخيرة التي تتوقف عندها المعرفة.
فماهي المنزلة التي يحتلها الفرد على مستوى سياسي ضمن العلاقة التلازمية بين المجتمع والدولة؟
يمكن استخراج العديد من الدلالات التي تتعلق بمفهوم الفرد individu ،
– في المعنى الفلسفي العام كل موضوع فكري معين يفيد التشخص وتؤلف أجزاؤه كلا واحدا.
– يقال الفرد في علم المنطق على شخص واحد لا ينقسم بخلاف الجنس الذي ينقسم عدة أنواع.
– الفرد في البيولوجيا هو كل كائن حي تتعاون أجزاؤه على حفظ بقائه بصورة دائمة ووثيقة.
– يرادف الفرد في علم النفس الشخص الطبيعي من جهة تميزه عن الآخرين بالهوية والوحدة.
– يعتبر الفرد في علم الاجتماع عنصرا من العناصر الأولية التي تشكل وحدة الجسم الاجتماعي.
– يمثل الفرد في علم السياسة النواة الرئيسية التي تعتمد عليها الدولة في تأسيس حرية المواطن ضمن نظام ديمقراطي يضمن للحياة الاجتماعية الاستقرار والتطور من خلال دولة ذات سيادة.
– النزعة الفردية هي مذهب يرى في الأفراد الجزئية وليست الكليات العامة هي الوجود الحقيقي ويقر بأن الفرد أساس كل حقيقة وجودية يفسر بها تشكل الظواهر الاجتماعية واستقرار العوامل النفسية ويعول عليه في تدبير شؤونه بنفسه وتغيير حركة التاريخ ومراكمة الثروات الاقتصادية.
خلاصة القول أن السياسة المدنية تنظر إلى أن قيمة الفرد أعلى من قيمة المؤسسات المحيطة به. لأن الفرد هو الغاية التي وجدت من أجلها الدولة وليس العكس. كما أن المثل الأعلى للسياسة العادلة هو تحرير الفرد من كل الضغوطات والاكراهات وتحقيق استقلاليته وانعتاقه من كل أشكال الاغتراب وتنمية نشاطه الذاتي وقدراته على الإبداع والخلق وتحميله مسؤولية وجوده ومراهنة على ضميره الجمعي. لكن كيف يظل الفرد يتحرك على الصعيد القيمي بين قطبي الجزئيparticulier والفريد singulier ؟
2- السيادة بين الحكومة والشعب:
إذا كان السيد يعني ماهو تام وأولي ومطلق في نوعه ولا يقبل بالتالي ان يكون محدودا من أي جهة كانت ولا أن يتم استنقاصه وتجزئته وتنسيبه وإذا كانت السلطة الحاكمة هي السيدة على الهيئات والتي تتحكم في كل الأجهزة والتي تمسك بيدها كل القرارات وتقوم بالتنفيذ بنفسها فإن فكرة السيادة تدل على التحكم التام والسلطة المطلقة وتشير إلى القرار النهائي الذي تختص به الدولة دون غيرها.
ماذا تكون السيادة في الدولة؟ هل هي من نصيب الشعب أم من اختصاص الحكومة؟ وما المقصود بالشعب؟ وماهي العناصر التكوينية للحكومة؟ ولماذا يتم التفريق بين سيادة شعبية وحكم مركزي؟
ينحدر لفظ السيادةsouveraineté من المصدر السيدsouverain الذي يعني الأعلى وتشير إلى مبدأ النفوذ التام autorité suprême ، وتعني السيادة في المجال السياسي الحق المطلق الذي تمتلكه الدولة في ممارسة النفوذ التشريعي والقضائي والتنفيذي على جهة معينة أو على دولة محددة أو على شعب متميز بمقومات ورموز بواسطة مجموعة من المؤسسات والهياكل والهيئات الدستورية.
ما الفرق بين السيادة الوطنية والسيادة الشعبية؟ وكيف يختلف وجهها الداخلي عن وجهها الخارجي؟
السيادة الوطنية هي المبدأ الذي تنتمي من خلاله السيادة إلى الوطن الذي يمثل عنصرا جماعيا موحدا وغير قبل للقسمة، وهذه السيادة الوطنية لا تمارس الحكم بطريقة مباشرة وإنما بواسطة نظام تمثيلي. وتسمى أيضا سيادة مطلقة souveraineté absolue وسيادة الدولةsouveraineté etatique .
السيادة الشعبية هي المبدأ الذي تنتمي من خلاله السيادة إلى الشعب و يحوز به كل مواطن على قسم. وتفترض هذه النظرية أن الشعب يمسك مباشرة بالسلطة ويعبر عن ذلك من خلال الإرادة العامة. ويتكون الشعب من مجموع السكان والحاصل من كل الأفراد ويبقى القرار النهائي في شكل الحكم له.
من المنطقي أن تكون السيادة جهازا حكوميا يمتلك سلطة مطلقة تمارس هيمنتها على المساحة الداخلية التي ترسمها حدودها وعلى المساحة الخارجية التي تنظم علاقاتها مع الدول الأخرى. لقد بين جون بودان بأن السيادة هي ماهية الجمهورية وشكل الدولة ، واعتبرها جون جاك روسو النقطة التي يلتقي فيها الخضوع مع الحرية وتمثل فيها الإرادة العامة ماهية الجسم السياسي واللحظة التي يكون فيها المواطنون الوعي بضرورة الدولة وواجب المواطنة وحاجتهم إلى سلطة تمنحهم حقوقهم.
الشعب هو الجماعة العرقية واللّغوية التي حافظت على خصوصيتها الوجودية وعلى روحها الخاصة بها بالرغم من انقلابات التاريخ (جوليان فروند). إن هذه الجماعة ليست بالضرورة جماعة سياسية وذلك لكون شعب واحد يمكن أن ينتمي إلى دول متعددة ودولة واحدة يمكن أن تضم شعوب متعددة.
من هذا المنطلق يصبح الشعب من منظور نفسي اجتماعي كتلة من الأفراد تحركهم جملة من الدوافع الذهنية المشتركة والعوامل النفسية الجماعية وتجلعهم في تعارض تام مع النخبة التي تحكمهم تغلبا. لقد قسم ماكيفللي بين الشعب الأرقى والشعب الأدنى والشعب العظيم نافيا وجد انسيابية بين الأقسام، وذكر مونتسكيو أن طبيعة الشعوب التصرف وفق الأهواء والسير بالعاطفة وليس بالعقل والحكمة. لقد احتقر فولتير الشعب ونعته بأبشع النعوت لحالة الجهل التي يتخبط فيها ومجد النخبة المستنيرة وجاءت الثورة الفرنسية ليقول الشعب كلمته ويصبح المثقف صديقا للشعب وتتجلى إرادة الشعب.
لقد وصف هوبز الشعب بأن جسد الدولة مهما كان النظام السياسي الذي يحكمه ومهما كانت وضعية الأفراد مواطنين من وجهة نظر دولة القانون أو ذوات خاضعة من وجهة نظر قوة السلطة المطلقة.
لقد ذهب هيجل إلى حد القول بأن الشعب هو الوحدة العضوية التي يتجلى فيها الكوني المتعين بل انه يرى بأن الروح يتجسد في التاريخ عبر الشعوب المتعينة الخاصة التي تعد ضرورية للحياة الروحية.
بعد ذلك تم التركيز على وظيفة الحكومة في المحافظة على مبدأ السيادة وفي مستوى احترام حق المواطنة ووقع التفكير في مطلب الكفاءة والأداء والإتقان والنجاعة إلى جانب التحلي بقيم العدالة والنزاهة والمسؤولية والضمير والحرص على حماية ممتلكات الأفراد وصيانة المصلحة العامة.
في هذا السياق ظهرت آلية الحوكمةgouvernance لتهتم دقة القرار والمتابعة عند التنفيذ والاستكمال ولتفيد مجموع من القياسات والقواعد والأجهزة التي تصدر قرارات وتتكفل بالإعلام والمراقبة وتسمح بضمان اشتغال مؤسسات الدولة بصورة وظيفية واستمرارها في تنظيم الفضاء العمومي والمرفق الخاص والسلطة الجهوية والحكم المحلي والعلاقات الدولية والشأن الوطني.
جملة القول أن الشعب يشير إلى مجموع المحكومين الذين يتسنى للحاكمين أن يخادعوهم أو يقومون بالسيطرة عليهم، بيد أن النظام الديمقراطي يمنح الشعب الشكل التمثلي للتعبير وحكم أنفسهم بأنفسهم.
لكن كيف يمكن تفادي الوقوع في نمط سيء من الحوكمة ؟ وما العمل من أجل بلوغ حوكمة جيدة؟
3- الحق بين القانونية والشرعية
ينتمي مصطلح الحق إلى عائلة المفردات القانونية ويشير إلى نمط وجود واستعمال العدالة ومسار للفعل يقترن بالذنب والجريمة وينشد الصفح والاستحقاق ويقترب من الفضيلة وكل أمر مستقيم.
غير أن الفلسفة فرقت بين الحق والقانون على غرار التفريق بين القيمة والمعيار وميزت بين المعنى القديم للحق والمعنى الحديث وبين الحق الإلهي والحق الطبيعي والحق الوضعي ، كما ظهرت أنساق تتحدث عن الحق الذاتي والحق الموضوعي والحق في العقاب والحق الخاص والحق العام والحق المطلق والحق الأخلاقي والحق الشرعي والحق المدني وكذلك حقوق الشعوب والحق في الحقوق.
القانونية légitimité هي خاصية ما تم تأسيسه من جهة الحق ومن منظور العدالة أو وقع تطبيق عليه قيمة الإنصاف. كما ترتكز القانونية على النفوذ الذي تأسس على أسس حقوقية أو إيتيقية وتكون محل رضا تام من طرف جل أفراد المجتمع. تعرف القانونية ما يتم اشتقاقه من مجال القانون وكان قرره المشرع. أما القانونيlégitime فهو المطابق للحق أو للقانون من جهة الشكل.
الشرعية légalité هي خاصية ماهو شرعي أي فعل يكون مطابقا للحق من جهة المعنى والمضمون والممارسة وليس من جهة الإعلان والصورة والشكل. كما أن الشرعية هي الوضعية الشرعية التي تتم فيها الأعمال التي يقوم بها الأفراد والمجموعات وفق ما ينص عليه القانون ولا تقوم باختراقه. يمكن أن تفهم الشرعية على أنها المطابق للحق,
المشروعية loyalité هي صدق الولاء الى الحق العام وشديد الوفاء للمدونة القانونية والأخلاقية عن دراية وعن اقتناع والاستقامة عند التطبيق والالتزام الذاتي بها مهما كانت الظروف واحترام كل ما ينص عليه القانون ويمليه الواجب من توجه وكل ما يتطلبه الضمير وتحمل المسؤولية في كل شرط.
إذا كان الحق الطبيعي هو مجموع الحقوق التي يفترض أن يحوز عليها الناس بحكم اشتراكهم في الطبيعة وبشكل مجرد عن كل مؤسسة اصطناعية وإذا كان الحق الإلهي هو المبدأ التي يخول لكل سلطة الحكم بمقتضى تفويض الهي فإن الحق الوضعي هو الحق الشرعي الذي تحدده مجموعة من القواعد يضبطها الدستور ضمن مجموعة من القوانين التفصيلية والتدابير والإجراءات الردعية.
خاتمة:
” إن الدولة المثلى هي تلك التي يحيا أفرادها في وئام، فإن ما أعنيه بالحياة هي الحياة الإنسانية الحقيقية، أي أنها ليست الحياة المتمثلة في مجرد الحركة الدموية وفي الوظائف الأخرى المشتركة بين جميع الحيوانات، وإنما هي أساسا حياة العقل وفضيلة النفس والحياة الحق”2[2]
يقتضي قيام الدولة الديمقراطية احترام السيادة وضمان المواطنة والجمع بين القانونية والمشروعية.
لكن الديمقراطية هي ذهنية وثقافة تتشكل من خلال التداول السلمي على السلطة وإجراء الاقتراع بشكل دوري قصد تمثيل المواطنين والجماعات والجهات في البرلمان والمشاركة في الحياة السياسية.
فكيف تمثل آليات المراقبة والمحاسبة والنقد العلني وحرية التعبير وحق الاختلاف والمعارضة السلمية والتعايش ضمن التعددية وحل النزاعات بالحوار ضمانات للدفاع على الحياة الديمقراطية؟
المصدر:
1- سبينوزا، كتاب السياسة، ترجمة جلال الدين سعيد، دار الجنوب، صفاقس، تونس، طبعة أولى، 1999،صص57-58.
2- سبينوزا، كتاب السياسة، مصدر مذكور، ص59.
كاتب فلسفي
[1] سبينوزا، كتاب السياسة، ترجمة جلال الدين سعيد، دار الجنوب، صفاقس، تونس، طبعة أولى، 1999،صص57-58.
[2] سبينوزا، كتاب السياسة، مصدر مذكور،ص59.