لا يكفي تبني المشروع الديمقراطي في طروحاته النظرية، إذا لم يجد مسلكا له على أرض الواقع، فتكون نتيجة الفشل
اما فوضى سياسية واجتماعية، وانقسام مجتمعي خطير يصل الى تقسيم البلدان، أو انقلابات عسكرية، تعيد ترتيب
خرائط النفوذ، وتتحكم بطريقة استبدادية في مستقبل البلدان.
حين تجنح الديمقراطية عن مسارها، أو يُساء استخدام أدواتها، فانّ الفرصة مواتية لوصوليين وأفراد غير مناسبين، او متزمتين، يستغلون الميكانيكيات الديمقراطية لتنفيذ مشروع القبض على مقاليد السلطة.
اختبارات كثيرة تبرهن على انّ الديمقراطية تصبح أداةَ خطرة بيد من يسيء استخدامها كما في ألمانيا في الاربعينيات من القرن الماضي، بتسلق هتلر السلطة، على سلّم ديمقراطية قائمة على دستور ليبرالي، واستغلاله الحريات المتاحة وانهيار الاقتصاد واتساع هوة الفقر والفساد، والشعور الشعبي بالخذلان من التعددية السياسية، لتدمير النظام السياسي، وقد سهّل ذلك على الحزب النازي اقناع الناس بان الديمقراطية داء، لينفرد في مقاليد الحكم.
أوصلت الديمقراطية الصربية الرئيس سلوبودان ميلوسيفتش الى الحكم، بعد تأجيج المشاعر القومية، مطلقا حربا من أجل التطهير العرقي، مكرّسا هيمنة الحزب الواحد.
في فنزويلا، كرّس الرئيس هوجو شافيز، سلطة فردية، وسعى الى تعديل الدستور لتأمين رئاسة مدى الحياة.
في زيمبابوي، سار الرئيس موجابي على سكة الديمقراطية للوصول الى الكرسي، حتى اذا بلغه صار صاحب الصوت الأوحد في بلاده، مهمّشا دور الاحزاب، ومعطلا آليات الديمقراطية.
الديمقراطية الفاشلة فرصة سانحة للعسكر في الوثوب الى السلطة، كما في تجربة تشيلي. ففي العام 1970 وصل الزعيم الاشتراكي سلفادور الليندي إلى رئاسة تشيلي في انتخابات حرة، لكن الطامحين الى الحكم من سياسيين وعسكر استولوا على السلطة في 1973، وحاصرت دبابات أوغستو بينوشيه القصر الرئاسي بالدبابات، مطالباً الليندي بالاستسلام.
في العراق، لم يكن بناء نظام ديمقراطي بعد الاجتياح الامريكي في 2003 سلسا، إذ كادت الحرب الاهلية الطائفية ثم الإرهاب، أن تفتك بالوليد الديمقراطي. وإذا كانت البلاد نجحت في وأد الخطر، فان الفساد وسوء الإدارة لا يزالان يهددان التجربة العراقية بالفشل، أو في عدم صعودها الى أمام، على أقل تقدير.
في لبنان، لم تنجح الديمقراطية اللبنانية في تقديم نموذج ناجح ومستقر، فانزلقت البلاد الى حرب أهلية، وانفتحت الأبواب أمام التدخلات الخارجية، وراهنت الاحزاب على الولاءات الاقليمية، ما جعلها بعيدة الى الان عن مربع الاستقرار السياسي.
الديمقراطية التركية، هي أقدم ديمقراطية في الشرق الأوسط، الا انها كانت حذرة من العسكر، ومن القوى الدينية المتشددة، على الدوام. وقد أدى ذلك الى انقلاب مفاجئ على رجب طيب إردوغان العام 2016، وقبل ذلك كان انقلاب 1980 الذي برّر تحركه في فوضى الاقتتال بين الجماعات القومية واليسارية.
وتبدو ديمقراطية تركيا، أكثر نضوجا من غيرها على رغم العثرات، ومن ملامح نجاحها ان إردوغان الذي مُنِع من مزاولة السياسة مدى الحياة بسبب إلقائه قصيدة يقول فيها بأن الإسلام هو مرجعيته، يشغل حاليًا منصب الرئاسة، بعد 11 سنة قضاها في منصب رئيس الوزراء.
الديمقراطية الباكستانية، متّهمة بتوفير ساحة لصراع مرير دائم بين الحكم المدني والعسكري، وبين القوى الليبرالية والدينية، لذلك ظلت الدولة على الدوام امام تهديد تحوّلها الى دولة دينية أو دكتاتورية عسكرية.
الدول الديمقراطية “الحقيقية” هي أقلية اليوم بين دول العالم، إذ أن نسبتها لا تتعدى ثلث دول العالم، لاسيما وان التجارب تفيد بان الديمقراطية ليست الخيار الأفضل دائما للشعوب التي تمزقها الحروب، وتوجهّها حساسيات مذهبية وقومية مفرطة، ويغيب الوعي عن أفرادها، ويتدنى مستوى التعليم بينهم، فضلا عن ارتفاع نسب الفقر، والمنظومة الاجتماعية القائمة على الاقطاعيات، والفوارق الطبقية، والقوى العشائرية، وغياب ثقافة التعددية وانحسار دور الطبقة الوسطى.