9 أبريل، 2024 8:58 م
Search
Close this search box.

ديكــــور

Facebook
Twitter
LinkedIn
بعد أن عجزت بشخصي الضعيف عن مقارعة الدولة البعثية التي فرضت علينا تغير انتمائنا القومي لغرض التعين والعمل دوائرها، اضطررت إلى البحث عن مرتع لي أومن من خلاله شيئاً من المال لتغطية مصاريفي تاركاً كل سني دراستي الجامعية في مهب الرياح خلفي. وأنا شاب وأحمل في جعبتي أحلاماً وردية في وطن لا يقيم للحلم والطموح وزناً، كان حرياً بي أن أخرج من هذا الطريق المسدود والموت البطيء المتمثل بقتل روح الأمل لدى الشباب. كان مستقري في محل صغير وبمساحة خمس أمتار مربعة فقط لا غيرها يسع مكتبي الصغير واثنان من الكراسي لجلوس الزائرين. محـلٌ أعمل فيه منذ الصباح وحتى ساعات المساء. الحياة كانت جديدة بالنسبة لي وأنا قادم من الأجواء الجامعية، حيث الدراسة والقراءة والبحث واعداد التقارير العلمية بين المحاضرات والامتحانات. أناس السوق كانوا يختلفون تماماً عن الذين في الجامعة من الأساتذة خريجي أرقى الجامعات الدولية والباحثين الذين كرسوا جل أوقاتهم في البحوث وإيجاد ما يخدم المجتمع. التواجد في السوق كان بالنسبة لي إنتقالة نوعية من وسط يسوده الورق والقلم والقرطاس إلى وسط تغلب فيه مشاهد صناديق الطماطة والبصل والبطاطا. تحول من حياة كلها عمل بجدية ودراية إلى عالم فيه الكثير من الغش والخداع وتضليل الحقائق والوقائع.
محلي كان يتوسط مجموعة من البقالين الذين منهم من يعمل في محل ومنهم من كان يعمل على عربة خشبية يقف بها على قارعة الطريق تاركين ممراً ضيقاً للسابلة. كنت أعمل خطاطاً ومترجماً في مكتبي الصغير، فكان هؤلاء الباعة ينتظرون قدومي منذ الصباح وهم يحملون في أيدهم قصاصات من الكارتون المقوى الممزق لصناديق الفاكهة لأكتب عليها سعر اليوم (طماطة 50 دينار – خيار 25 دينار –  بصل 75 دينار.. الخ).
كان الحصار المفروض على العراق قد أهتك كاهل المواطن العراقي. حيث غدت العملة العراقية لا تساوي شيئاً يذكر أمام الدولار الأمريكي والرواتب أصبحت لا تتجاوز الدولار أو الدولارين. الموظفون والعاملون في القطاع الحكومي وخاصة قطاع المعلمين والمدرسين يبحثون عن شبر في رصيف ما ليبيعوا السكائر وحب عباد الشمس أو العلك والبسكويت عسى أن يتمكنوا من شراء كيلو أو كيلوين من الطماطة أو المخضر أو الخبز لملء بطون أولادهم.
شباب صغار يعملون لدى هذا وذاك بأجور زهيدة ليكونوا عوناً لأباءهم في سد رمق عوائلهم. البقال المجاور لمحلي كان كثيراً ما يتشاجر مع الصانع الصغير العامل لديه. يتعالى صوت البقال هذا على الصغير العامل لديه وغالباً ما كان يطرد العامل ويأتي بآخر. الأمر قد جذب انتباهي وأثار فضولي للبحث عن سبب طرده لهؤلاء الصغار العاملين لديه وحرمانه من يوميته دون شفقة. بحثت في الأمر الملفت للنظر وتدارست مسألة الطرد المستمر للعمال واستبدالهم بآخرين. سألته ذات مرة عن السبب لأعلم ما يقترفه هؤلاء العاملين الصغار ليحكم عليهم بالطرد في كل حين. قال البقال إنهم لا يعرفون الديكور.
مسألة الديكور مسألة حيوية جداً في التعاملات اليومية في السوق. والديكور يعني وضع الجيد من البضاعة أمام مرى الجميع وإخفاء كل ما في البضاعة المعطوبة من عيب خلف الحبات الجيدة. حبات الطماطة الحمراء الكبيرة، كالبرق تخطف أبصار الناظرين والتي تلمع كاللآلئ وسط البحار تكون أمام كومة الطماطة المعروضة التي تفتح الشهية وتضلل العقول ومن ثم يخرج المال من جيوب المارة.
الديكور لا يمكن بيعه أو الاقتراب منه وأحياناً لا يمكن حتى تقليبه واللمس ممنوع جداً. فالديكور يتم ترتيبه بعناية فائقة منذ ساعات الصباح الباكر حتى يكون جاهزاً لاستقبال المشتري. العاملون الصبية عليهم إدراك أهمية الديكور وترتيب البضاعة من الأفضل في الأمام إلى الأسوأ في الخلف تحت متناول يد البقال الذي يبيع للناس. أي إخلال في هذا الأمر سيكون مصيره الطرد من العمل والتشريد في الأزقة في زمن ظالم جداً زمن الحصار الاقتصادي الجائر.
بعد التقصي وجدت أن جاري البقال غير راضٍ عن أداء العامل الصغير لديه. قال لي البقال أن العمال الذين يطردهم غير فالحين في ترتيب الديكور. فرغم تنبيه البقال لهم يقومون بوضع حبات من البضاعة (الخايسة) في الأمام وكثيراً ما تجدهم يضعون شيئاً من حبات الطماطة الجيدة وغيره في الخلف تحت متناول اليد لنبيع منه مجبرين وتذهب الحبات الجيدة إلى الزبائن. الأمر الذي أثار حفيظة البقال الذي يقول أن الصانع ليس له عقل وبطيء التعلم ولن يفلح في السوق مدى حياته.
أما بالنسبة إلى مصير الحبات الجيدة الموضوعة في الديكور، فبعد أن تباع الحبات الرديئة بفضل الديكور يتم بيع الديكور كذلك في ساعات المساء لكن بسعر مختلف. حيث ترتفع الأسعار مساءً وتجد البقال ينادي هذه المرة (الحك عالديكور) ليتزاحم الناس للحصول على الديكور الجيد.
نظام البيع بالديكور الذي شاهدته على عربات الباعة في الأمس والتي تخفي خلفها كل سيء أجده اليوم في محافل كثيرة. كل ما يعرض علينا نحن أفراد الشعب البسطاء تجده ديكوراً لا يحق لنا حتى المساس به ليكون في نهاية المطاف لمن يدفع أكثر. فرص العمل والتعينات التي نسمع عنها في الاعلانات إنما هي ديكورات تنتظر قدوم من يدفع أكثر. وقس على ذلك من أمور حياتية مهمة وحقوقنا التي هي كالديكور الذي شاهدناه في السوق البارحة.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب