22 نوفمبر، 2024 4:54 م
Search
Close this search box.

ديالى .. محنة الجغرافيا وحرب الديموغرافيا

ديالى .. محنة الجغرافيا وحرب الديموغرافيا

يعرفها العراقيون باسم (مدينة البرتقال) لجودة وخصب محاصيل الفواكه فيها، كانت واحة للتعايش بين مكوناتها الطائفية والإثنية قبل الإحتلال الأمريكي، غالبية سكانها من العرب السنة وعشائرهم المعروفة (العزة، العبيد، القيسية، المجمع، الجبور، المهدية، الداينية، الدهلكية، وغيرهم)، لعبت أدوارا تاريخية محورية في تاريخ العراق الحديث، تماما كما أصبحت محنتها محورية تحكي قصة الإضطهاد الطائفي الذي نال الأغلبية السنية في العراق.

 

 محنة ديالى في مجملها تختزل معاناة العرب السنة العراقيين في أحلك صورها، كان قدرها أن تكون مجاورة لإيران، التي تعتبرها البوابة الأقرب نحو بغداد، ثم لتدفع ثمن هذا الجوار غاليا؛ قتلا وتهجيرا وهدما للمساجد، وعبر سنوات الإحتلال والمقاومة ثم الصحوات والإستقرار النسبي الذي عاشته فيما بين 2008 و 2011 ؛ كانت رحى الحرب الديموغرافية تدور على أراضيها في غفلة من منظمات حقوق الإنسان، والإعلام العربي، والمجتمع الدولي.

 

  كانت استراتيجية الحرب الطائفية في ديالى لا سيما في الفترة الأخيرة من حكم المالكي؛ تعتمد على اغتيال الكفاءات ورؤوس المجتمع السني هناك أو اعتقالها وتهجيرها، وقد حصدت هذه الحرب غير المعلنة نخبة كبيرة من أبنائها الضباط وأئمة المساجد والأطباء وشيوخ العشائر بتهم مختلفة، أبرزها وأشهرها المادة (4 إرهاب) التي غدت سيفا مسلطا على رأس كل من يجرؤ على معارضة السياسات الحكومية، أو دعم الكتل السنية الكبيرة في العملية السياسية، فتم على سبيل المثال اعتقال عضو مجلس المحافظة السابق ورئيس اللجنة الأمنية فيه الدكتور حسين الزبيدي بتهمة كيدية في 18 آب 2007، ليظل قيد الإعتقال ست سنوات بتهمة القيام بأعمال إرهابية، ثم أطلق سراحه بعد ثبوت بطلان التهم الموجهة إليه، وبعد معاناة طويلة مع التعذيب وسوء المعاملة، دون أن اعتذار أو تعويض مادي أو اعتباري.

 

  أما نجم الحربي مرشح قائمة (عراقية ديالى) وعضو مجلس المحافظة فقد اغتيل مع أبنه وأثنين من أشقائه، بتفجير عبوة ناسفة على يد إحدى المليشيات الطائفية، بعد أن كان معتقلا لثلاث سنوات بتهمة الإرهاب أيضا!!.

 

لكن تفجر العنف الطائفي في البلاد عقب اعتقال النائب أحمد العلواني، نقل المعركة إلى أشكال أكثر صراحة ووضوحا، فأصبحت عمليات الإغتيال والخطف الذي تتبعه المساومات المادية تجري تحت سمع وبصر الجيش والقوات الأمنية هناك، والتي تقف متواطئة أو عاجزة عن إيقاف تلك الممارسات الوحشية.

 

  وفي سنوات المالكي الأخيرة ارتكبت بعضا من أبشع الجرائم الطائفية، مثل مجزرة جامع سارية وسط بعقوبة، ومجزرة ناحية الوجيهية، ومذبحة بهرز والتي راح ضحيتها أكثر من أربعين مدنيا بريئا قتلوا بدم بارد بعد اقتحام المدينة واستباحتها، والمجازر المتكررة في قرية المخيسة والتي اضطر سكانها للنزوح عنها بعد تكرار تلك الإنتهاكات، وإعدام أكثر من ستين معتقلا في سجن بعقوبة المركزي جميعهم من أهل السنة، بعد مهاجمة (داعش) للمدينة، إضافة لجريمة جامع مصعب بن عمير والتي قتل وأصيب فيها أكثر من مائة وعشرين شخصا، هذا عدا عن حوادث القتل والإختطاف اليومية، وحرق المساجد وانتهاك حرماتها.

 

 وبعد سيطرة ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على عدد من مدن وقرى المحافظة؛ جرى تحشيد واستنفار واسع النطاق في المناطق الشيعية في الوسط والجنوب، وتركيز خاص على ديالى التي اعتبرت مفتاح النصر في المعركة ضد المسلحين، ورغم توسع دائرة المعارك والإشتباكات بين الطرفين وانتقالها إلى أطراف بعقوبة مركز المحافظة إلا أن دخول قوات التحالف الدولي على الخط بضرباتها الجوية والبيشمركة على الأرض في الجبهة الشمالية الشرقية وازدياد تدفق ما يعرف بمليشيات الحشد الشعبي أدى كل هذا إلى انسحاب مسلحي (داعش) من عدد من المدن والبلدات من بينها العظيم وجلولاء والسعدية، تاركين أهلها يواجهون مصيرا مأسويا، حيث بدأ حرق المساجد والمنازل والمحال التجارية يجري بصورة علنية وأمام شاشات التلفزة ومواقع التواصل الإجتماعي، حيث تم في يوم واحد فقط إحراق سبعة مساجد في جلولاء والسعدية على يد المليشيات دون أي إدانة أو استنكار رسمي حكومي.

 

وتبدو مهمة إعادة الأمن والإستقرار إلى هذه المحافظة المنكوبة اليوم أكثر صعوبة، لا سيما وأن السياسة الإيرانية توليها اهتماما خاصا باعتبارها الخاصرة السنية الأكثر ليونة؛ بسبب سياسات الإستهداف الطويلة التي أرهقت سكانها، ولموقعها الإستراتيجي والأمني المتميز، حيث هجر مئات الآلاف من أهلها مدنهم وقراهم متوجهين نحو بغداد وإقليم كردستان، ويعيش معظمهم الآن في مخيمات تفتقد للحد الأدنى من مقومات الحياة الإنسانية.

 

سياسيو السنة من ديالى وفي مقدمتهم رئيس البرلمان سليم الجبوري يبدون اليوم الأكثر مواجهة للنيران ، والأكثر قرباً من بؤر الصراع مع ما يجره عليهم من تضحيات تمتد إلى أشقاءهم وأهليهم ، في ظل التهم الكيدية التي تطاردهم، ومحاولات الاغتيال التي تستهدفهم باستمرار، حتى أصبح معظمهم يخشى الذهاب إلى مدينته أو قريته خوفا على حياته من أن تطالها يد المليشيات ، ومع ذلك هم مستمرون في عملهم لتقليل الخسائر ما أمكن !!

 

ويمكن اعتبار حرب الديموغرافيا هي العنوان الأبرز للصراع الدائر هناك، حيث يتم كل يوم قضم المزيد من الجغرافية السنية في خضم وضع سني رخو وملتبس، ويجري إفراغ ديالى من أغلبيتها السنية، وسط توقعات بأن تتلوها خطوات كما يلوح بالأفق حول مطالبات بضم المحافظة إلى إقليم الوسط والجنوب المرتقب؛ فيما لو تم العمل بنظام الأقاليم بعد إقراره دستوريا، لا سيما وأن جهات إعلامية وسياسية بدأت تروج للمشروع المذكور من الآن بعد أن خبت الحملات السابقة، بل إن بعضهم تطرف في هذا حتى دعا لإقامة ما سماها (جمهورية سومر) وطرحت عبر بعض مواقع التواصل الإجتماعي خرائط تظهر فيها ديالى إضافة إلى بغداد وسامراء ضمن حدود هذه الجمهورية المفترضة.

 

ومهما يكن من صدق أو عبثية هذه الطروحات فإن مخطط إفراغ ديالى من سكانها يجري العمل به على قدم وساق منذ سنوات، وجرى تحقيق بعض الخطوات الخطيرة على الأرض في هذا الشأن.

 

إن ما يحدث في ديالى وحزام بغداد وشمال بابل والأنبار وغيرها من المحافظات السنية يستدعي ولادة مشروع سني حقيقي يمثل الجماهير الكبيرة التي انتفضت سلميا لأكثر من عام كامل، فكانت النتيجة أن صودرت إرادتها وقضيتها سواء من الحكومة أو من المتطرفين من الجانبين، هذا المشروع يمكن أن يمثل طوق نجاة أخير لمحاولات التعايش في هذا البلد، وإلا فإن الطوفان قادم وسيتضرر منه الجميع، مع الأسف الشديد.

ديالى .. محنة الجغرافيا وحرب الديموغرافيا
يعرفها العراقيون باسم (مدينة البرتقال) لجودة وخصب محاصيل الفواكه فيها، كانت واحة للتعايش بين مكوناتها الطائفية والإثنية قبل الإحتلال الأمريكي، غالبية سكانها من العرب السنة وعشائرهم المعروفة (العزة، العبيد، القيسية، المجمع، الجبور، المهدية، الداينية، الدهلكية، وغيرهم)، لعبت أدوارا تاريخية محورية في تاريخ العراق الحديث، تماما كما أصبحت محنتها محورية تحكي قصة الإضطهاد الطائفي الذي نال الأغلبية السنية في العراق.

 

 محنة ديالى في مجملها تختزل معاناة العرب السنة العراقيين في أحلك صورها، كان قدرها أن تكون مجاورة لإيران، التي تعتبرها البوابة الأقرب نحو بغداد، ثم لتدفع ثمن هذا الجوار غاليا؛ قتلا وتهجيرا وهدما للمساجد، وعبر سنوات الإحتلال والمقاومة ثم الصحوات والإستقرار النسبي الذي عاشته فيما بين 2008 و 2011 ؛ كانت رحى الحرب الديموغرافية تدور على أراضيها في غفلة من منظمات حقوق الإنسان، والإعلام العربي، والمجتمع الدولي.

 

  كانت استراتيجية الحرب الطائفية في ديالى لا سيما في الفترة الأخيرة من حكم المالكي؛ تعتمد على اغتيال الكفاءات ورؤوس المجتمع السني هناك أو اعتقالها وتهجيرها، وقد حصدت هذه الحرب غير المعلنة نخبة كبيرة من أبنائها الضباط وأئمة المساجد والأطباء وشيوخ العشائر بتهم مختلفة، أبرزها وأشهرها المادة (4 إرهاب) التي غدت سيفا مسلطا على رأس كل من يجرؤ على معارضة السياسات الحكومية، أو دعم الكتل السنية الكبيرة في العملية السياسية، فتم على سبيل المثال اعتقال عضو مجلس المحافظة السابق ورئيس اللجنة الأمنية فيه الدكتور حسين الزبيدي بتهمة كيدية في 18 آب 2007، ليظل قيد الإعتقال ست سنوات بتهمة القيام بأعمال إرهابية، ثم أطلق سراحه بعد ثبوت بطلان التهم الموجهة إليه، وبعد معاناة طويلة مع التعذيب وسوء المعاملة، دون أن اعتذار أو تعويض مادي أو اعتباري.

 

  أما نجم الحربي مرشح قائمة (عراقية ديالى) وعضو مجلس المحافظة فقد اغتيل مع أبنه وأثنين من أشقائه، بتفجير عبوة ناسفة على يد إحدى المليشيات الطائفية، بعد أن كان معتقلا لثلاث سنوات بتهمة الإرهاب أيضا!!.

 

لكن تفجر العنف الطائفي في البلاد عقب اعتقال النائب أحمد العلواني، نقل المعركة إلى أشكال أكثر صراحة ووضوحا، فأصبحت عمليات الإغتيال والخطف الذي تتبعه المساومات المادية تجري تحت سمع وبصر الجيش والقوات الأمنية هناك، والتي تقف متواطئة أو عاجزة عن إيقاف تلك الممارسات الوحشية.

 

  وفي سنوات المالكي الأخيرة ارتكبت بعضا من أبشع الجرائم الطائفية، مثل مجزرة جامع سارية وسط بعقوبة، ومجزرة ناحية الوجيهية، ومذبحة بهرز والتي راح ضحيتها أكثر من أربعين مدنيا بريئا قتلوا بدم بارد بعد اقتحام المدينة واستباحتها، والمجازر المتكررة في قرية المخيسة والتي اضطر سكانها للنزوح عنها بعد تكرار تلك الإنتهاكات، وإعدام أكثر من ستين معتقلا في سجن بعقوبة المركزي جميعهم من أهل السنة، بعد مهاجمة (داعش) للمدينة، إضافة لجريمة جامع مصعب بن عمير والتي قتل وأصيب فيها أكثر من مائة وعشرين شخصا، هذا عدا عن حوادث القتل والإختطاف اليومية، وحرق المساجد وانتهاك حرماتها.

 

 وبعد سيطرة ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على عدد من مدن وقرى المحافظة؛ جرى تحشيد واستنفار واسع النطاق في المناطق الشيعية في الوسط والجنوب، وتركيز خاص على ديالى التي اعتبرت مفتاح النصر في المعركة ضد المسلحين، ورغم توسع دائرة المعارك والإشتباكات بين الطرفين وانتقالها إلى أطراف بعقوبة مركز المحافظة إلا أن دخول قوات التحالف الدولي على الخط بضرباتها الجوية والبيشمركة على الأرض في الجبهة الشمالية الشرقية وازدياد تدفق ما يعرف بمليشيات الحشد الشعبي أدى كل هذا إلى انسحاب مسلحي (داعش) من عدد من المدن والبلدات من بينها العظيم وجلولاء والسعدية، تاركين أهلها يواجهون مصيرا مأسويا، حيث بدأ حرق المساجد والمنازل والمحال التجارية يجري بصورة علنية وأمام شاشات التلفزة ومواقع التواصل الإجتماعي، حيث تم في يوم واحد فقط إحراق سبعة مساجد في جلولاء والسعدية على يد المليشيات دون أي إدانة أو استنكار رسمي حكومي.

 

وتبدو مهمة إعادة الأمن والإستقرار إلى هذه المحافظة المنكوبة اليوم أكثر صعوبة، لا سيما وأن السياسة الإيرانية توليها اهتماما خاصا باعتبارها الخاصرة السنية الأكثر ليونة؛ بسبب سياسات الإستهداف الطويلة التي أرهقت سكانها، ولموقعها الإستراتيجي والأمني المتميز، حيث هجر مئات الآلاف من أهلها مدنهم وقراهم متوجهين نحو بغداد وإقليم كردستان، ويعيش معظمهم الآن في مخيمات تفتقد للحد الأدنى من مقومات الحياة الإنسانية.

 

سياسيو السنة من ديالى وفي مقدمتهم رئيس البرلمان سليم الجبوري يبدون اليوم الأكثر مواجهة للنيران ، والأكثر قرباً من بؤر الصراع مع ما يجره عليهم من تضحيات تمتد إلى أشقاءهم وأهليهم ، في ظل التهم الكيدية التي تطاردهم، ومحاولات الاغتيال التي تستهدفهم باستمرار، حتى أصبح معظمهم يخشى الذهاب إلى مدينته أو قريته خوفا على حياته من أن تطالها يد المليشيات ، ومع ذلك هم مستمرون في عملهم لتقليل الخسائر ما أمكن !!

 

ويمكن اعتبار حرب الديموغرافيا هي العنوان الأبرز للصراع الدائر هناك، حيث يتم كل يوم قضم المزيد من الجغرافية السنية في خضم وضع سني رخو وملتبس، ويجري إفراغ ديالى من أغلبيتها السنية، وسط توقعات بأن تتلوها خطوات كما يلوح بالأفق حول مطالبات بضم المحافظة إلى إقليم الوسط والجنوب المرتقب؛ فيما لو تم العمل بنظام الأقاليم بعد إقراره دستوريا، لا سيما وأن جهات إعلامية وسياسية بدأت تروج للمشروع المذكور من الآن بعد أن خبت الحملات السابقة، بل إن بعضهم تطرف في هذا حتى دعا لإقامة ما سماها (جمهورية سومر) وطرحت عبر بعض مواقع التواصل الإجتماعي خرائط تظهر فيها ديالى إضافة إلى بغداد وسامراء ضمن حدود هذه الجمهورية المفترضة.

 

ومهما يكن من صدق أو عبثية هذه الطروحات فإن مخطط إفراغ ديالى من سكانها يجري العمل به على قدم وساق منذ سنوات، وجرى تحقيق بعض الخطوات الخطيرة على الأرض في هذا الشأن.

 

إن ما يحدث في ديالى وحزام بغداد وشمال بابل والأنبار وغيرها من المحافظات السنية يستدعي ولادة مشروع سني حقيقي يمثل الجماهير الكبيرة التي انتفضت سلميا لأكثر من عام كامل، فكانت النتيجة أن صودرت إرادتها وقضيتها سواء من الحكومة أو من المتطرفين من الجانبين، هذا المشروع يمكن أن يمثل طوق نجاة أخير لمحاولات التعايش في هذا البلد، وإلا فإن الطوفان قادم وسيتضرر منه الجميع، مع الأسف الشديد.

أحدث المقالات